- § التمر.. سريع التأثير في تنشيط الجسم
- § الصوم .. ميدان التنافس في كثرة الطاعات
- منهج شامل
- تأثيرات نفسية وغذائية
- وتغيرات فسيولوجية
§ السحور.. طاعة لله وصيانة للمعدة والأمعاء
§ التمر.. سريع التأثير في تنشيط الجسم
§ الصوم .. ميدان التنافس في كثرة الطاعات
لا تتوقف التأثيرات النفسية والسلوكية للصوم عند مجرد ردع الصائم عن اقتراف أو الاقتراب من المنكرات، وإنما هناك قيم عليا يحملها الصوم يحافظ بها على حماية الروح والجسد في آن من خلال ما يوفره للصائم من وقاية علاجية لأنسجة جسمه المختلفة، فيما تمتزج بها عناصر أخرى تحافظ على روحانية النفس وابتهاجها الدائم.
منهج شامل
د.صالح بن علي أبو عرَّاد، أستاذ التربية الإسلامية المُشارك بجامعة الملك خالد بأبها، يرى أن الصوم يعد منهجًا شاملاً للتكامل الجسدي والروحي.. «فالقلب يصوم عندما يتجه إلى خالقه، جل في علاه، في كل لحظة، ويبتعد عن المحرمات والمعاصي، ويُعمرُ بالتقوى. والبطن يصوم عندما يمتنع عن أكل الحرام سواءً كان ربًا، أو رشوة، أو سُحتًا، أو غشًا، أو أكلاً لمال اليتيم أو طعامٍ مُحرم، أو شراب مُسكر أو مُفتِّر، أو نحو ذلك مما حرمه الله تعالى ورسوله. والأذن تصوم عندما تنتهي عن سماع اللغو والباطل، والغناء والموسيقا، والقول الفاحش، والكلام البذيء. والعين تصوم عندما تمتنع عن النظر إلى ما حرَّم الله تعالى من المناظر. واللسان يصوم عندما يتوقف عن كل قول باطل لا خير فيه من لغوٍ، وغيبةٍ، ونميمةٍ، وكذبٍ، وفجورٍ، وسبٍ وشتمٍ وفضولٍ، ونحوها.
وهكذا يكون صيام الإنسان شاملاً ومتكاملاً في كل عضو من أعضائه، وكل جزء من أجزاء جسمه، وكل جزئية من جزئيات حياته، لأن الصوم موسم الصلح مع الله تعالى، وميدان التنافس في كثرة الطاعات، والبعد عن المعاصي والمُحرمات، فتكون النتيجة، بإذن الله تعالى، أن يزداد الإيمان، ويعظُم اليقين، وتتحقق محبة الله عز وجل في كل وقتٍ وحين، وتُحيا سُنن رسوله الأمين، صلى الله عليه وسلم، وتُستثمر فيه الأوقات بكل نافعٍ ومُفيد، ويُبارك الله تعالى في أيامه ولياليه، وتنشط الدعوة إلى الله تعالى بإقامة الدروس الدينية، وتنظيم المحاضرات التوعوية، وعقد الندوات، وإلقاء المواعظ، وغير ذلك من مجالس الذكر، وحلقات العلم، وأُمسيات الخير.. هذا كله يساهم في تشبع الروح بالخيرات ويدفعها إلى عمل الخير أكثر.
تأثيرات نفسية وغذائية
يوضح د.معز الإسلام عزت فارس، أستاذ تغذية بالجامعة الأردنية، أن التأثيرات النفسية للصيام وانعكاساتها على الحالة الصحية والتغذوية للصائم لا تحتاج إلى تأكيد قدر ما تحتاج إلى توضيح. فالمتأمل في فلسفة الصيام وغايته يجد أن عملية الصيام لا تعدو عن كونها عملية تربوية تتم فيها تربية النفس وتهذيبها والارتقاء بها عن الولوغ والإغراق في إشباع الغرائز والرغبات، فيصبح الإنسان قادرًا على تجنب أي أمر يتبين له ضرره أو أذاه، لذلك كان صيام رمضان أفضل وسيلة للتخلص من العادات السيئة، التغذوية وغير التغذوية، مثل الإدمان على شرب الشاي، والقهوة، والمشروبات الغازية، والتدخين، والتناول المتكرر والمستمر للأطعمة طوال اليوم كما يحدث عند بعض الناس. ولعل هذا من أهم العوامل التي تساعد المرضى المصابين بالسمنة على التخفيف من حدة هذه المشكلة، حيث يشكو الكثير من المصابين بهذا الداء من عدم المقدرة على مقاومة الطعام، وضعف التحمل وضبط النفس عند وجوده، فيكون الصيام بذلك دافعًا لهم على مقاومة النفس ودفع هواها تجاه شهوة الطعام.
كما أن آداب الصيام وأخلاقه تلزم المسلم الصائم بالابتعاد عن كل مظاهر الغضب والانفعال، عملاً بقول الحبيب المصطفى، صلى الله عليه وسلم: «إذا كان يوم صوم أحدكم فلا يرفث ولا يصخب، فإن سابه أحد أو شاتمه فليقل: اللهم إني صائم» متفق عليه. وهذا السلوك الأخلاقي على درجة عالية من الأهمية لأي إنسان، وخصوصًا لدى المرضى المصابين بمرض السكري غير المعتمد على الأنسولين، وذلك لأن الانفعال والضغط النفسي لدى هذه الفئة من المرضى لهما آثار سلبية على صحتهم، حيث يعمل الانفعال والغضب على زيادة محتوى السكر في الدم نتيجة لإفراز هرمون الانفعال «الكاتيكولامين»، وبالتالي فإن أي عامل مهدئ للأعصاب، كالاسترخاء أو غيره، سيعمل على التخفيف من حدة الزيادة في سكر الدم، لهذا فإن المرضى المصابين بالسكري غير المعتمد على الأنسولين ينصحون بالصيام كوسيلة لتخفيف محتوى السكر في الدم، بينما يُمنع المرضى المصابون بالسكري المعتمد على الأنسولين من الصيام بسبب التغيرات الطفيفة التي تطرأ على محتوى الدم من هرمون الأنسولين المسؤول عن تنظيم السكر في الدم.
وتوضح الدراسات التي أجريت على مجموعات من الصائمين أن وزن الجسم قد تغير في نهاية شهر رمضان على شكل زيادة أو نقصان في الوزن مقارنة مع ما كان عليه الحال قبل الشهر أو بعده، بنسبة تصل إلى -3.6% و+2.4% كمعدل للنقصان والزيادة على التوالي.
ومن الأسباب التي يعتقد أنها تؤدي إلى زيادة الوزن تناول كميات كبيرة من الحلويات الغنية بالدهون والسكريات خلال فترة الإفطار، بالإضافة إلى الإفراط في تناول الطعام بعد فترة الصيام، كما تعزى هذه الزيادة إلى بعض الممارسات الخاطئة لدى بعض الصائمين والمتمثلة في كثرة النوم، والجلوس، وقلة العمل، خلافًا لما يجب أن يكون عليه حال المسلم من العمل والعبادة خلال الشهر الكريم.
أما نقصان الوزن وهو ما أشارت إليه معظم الدراسات، ونسبته أكبر من نسبة الزيادة في الوزن «-3.6 إلى + 2.5%»، فهو يختلف، أيضًا، باختلاف الوزن الأصلي، والجنس، وطبيعة العمل، والممارسات الغذائية، وهذا يثبت دور الصوم في الحفاظ على الجسم في معدلاته الطبيعية بإنقاص وزن المصابين بالتخمة دون عمليات جراحية شرط التزامهم بالوزن الغذائي طوال الشهر الكريم وبعده أيضًا.
ومن خلال الدراسات والمتابعات التي مارسها وتابعها د.معز الإسلام توصل إلى أن من أبرز الأسباب التي تجعل من الصيام وسيلة فاعلة للمحافظة على صحة الجسم وحيويته:
أن الصيام في الإسلام يعمل على إراحة أجهزة الجسم، وبخاصة الجهاز العصبي والجهاز الهضمي بعد فترات عمل طويلة، ما يعمل على تقويتها وزيادة كفاءتها، كما أنه يعمل على إعادة عمليات الأيض إلى وضعها ومساراتها الطبيعية.
أن صيام رمضان والصيام المشروع في غيره من الأيام يعد وسيلة بطيئة ولكن أكيدة لتقليل وزن الجسم، دون إحداث أي آثار أو أضرار جانبية نتيجة للصوم، كما يحدث في حالات الصوم الكامل والتجويع المستعملة في الغرب للتخفيف من آثار الوزن الزائد، حيث تترافق هذه العمليات مع ارتفاع نسبة الأجسام الكيتونية في الدم.
أن صيام رمضان والمداومة على عملية الصوم خلال السنة يجنب المسلم الإصابة بمرض السمنة أو زيادة الوزن، ويحميه من جميع المضاعفات والأمراض الخطيرة الناتجة عن السمنة مثل تصلب الشرايين، وأمراض القلب والسكري، وأمراض الكلى والمرارة، وارتفاع ضغط الدم، والنقرس.
وتغيرات فسيولوجية
وتواصل د.سناء المعيقيل، أستاذة التغذية بأحد مراكز التغذية الخاصة، توضيح تلك التغيرات الفسيولوجية والصحية بقولها: إن الجسم يقوم في أثناء الصوم بالحصول على الجلوكوز من المواد الدهنية، وذلك عن طريق سلسلة من التفاعلات ينتج عنها في النهاية الجلوكوز، وثاني أكسيد الكربون، والماء، وبعض الأجسام الكيتونية.
وباختصار، فإن التغيرات التي تحدث في عملية التحويل الغذائي في أثناء الصوم تشمل إخراج الجليكوجين من أماكن تخزينه في الكبد، وتحول ذلك الموجود من العضلات، كما تشمل أكسدة المواد الدهنية من أجل الحصول على الطاقة اللازمة، مع ارتفاع في نسبة الأجسام الكيتونية، وكذلك عملية إنتاج جلوكوز من الأحماض الأمينية التي تعد مضادة لعملية تكوُّن الكيتون، أو تكون مصدرًا للحصول على الجلوكوز، وهذه العمليات تعد تنقية للجسم وزيادة في حساسية تفاعلاته لمواجهة أي ضغط أو إجهاد.
أما التغيرات التي تطرأ على الجهاز الهضمي فتتضح من خلال حركة الأمعاء التي تكون هادئة في أثناء الصوم، وكذلك تقل العصارة المعدية، وعصارة الأمعاء، وإفرازات البنكرياس. وبذلك فإنه طوال فترة الصوم يكون الجهاز الهضمي في حالة راحة، ما يعود بالنفع على الجسم.
وهناك تغيرات تحدث للقلب حيث يدفع القلب 10% من الدم إلى القناة الهضمية لإجراء عملية الهضم والامتصاص، وعند الصيام تكون القناة الهضمية في فترة راحة، وبالتالي لا تكون هناك حاجة لدفع هذه النسبة من الدم إليها، الأمر الذي يخفف الحِمل على القلب ويساعد على راحته، ولذلك فإن مرضى الذبحة الصدرية سيلاحظون أن نوبات آلام الصدر تقل عند الصوم، مع ملاحظة أن بعض مرضى القلب يحتاجون إلى العلاج المنتظم بالفم أو الحقن في أثناء النهار.
كما أنه ثبت علميًا أن الصيام الدوري فعال في تحسين الصحة، وتخفيف الوزن تمامًا كتقليل السعرات المستهلكة، حتى وإن لم تقل الكمية الكلية المتناولة من الطعام.
كما تؤكد الدراسات الطبية أهمية الغذاء محدود السعرات وفوائده في حماية الجسم والوقاية من الأمراض، وزيادة حساسية الإنسان للأنسولين المنظم لسكر الدم ومقاومة التوتر.
أما التمر الذي جعله النبي، صلى الله وعليه وسلم، أول ما يفطر به الصائم فتثبت الدراسات الطبية أن التمر غني بالعناصر الغذائية المهمة التي تلعب دورًا أساسيًا في تقوية العضلات والأعصاب، وترميم الجلد، وتأخير بوادر الشيخوخة.
فالتمر الجاف، يحتوي على 70.6% من الكربوهيدرات، و2.5% من الدهن، و33% من الماء، و1.32% من الأملاح المعدنية و10% من الألياف وكميات من الكورامين وفيتامينات «أ» و«ب1» و«ب2» و«ج»، ومن البروتين، والسكر، والزيت، والكلس، والحديد، والفسفور المنشط للدماغ والقوة الجنسية، إضافة إلى الكبريت، والبوتاس، والمنجنيز، والكلورين، والنحاس، والكالسيوم، والمغنيسيوم.
هذه العناصر تؤهل التمر ليصل إلى مرتبة اللحوم من حيث قيمته الغذائية التي تتفوق على ثلاثة أمثال ما للسمك من فوائد، وهو يفيد المصابين بفقر الدم والأمراض الصدرية، ويمكن أن يعطى على شكل عجينة، أو منقوع يغلى ويشرب على دفعات.
وتشير د.سناء إلى أن التمر يفيد الصغار، والشبان، والرياضيين، والعمال، والناقهين، والنحيفين، والحوامل، ويساعد على تقوية الجهاز الهضمي عند تناوله مع الحليب أو اللبن والجوز واللوز، وهو سهل الهضم، سريع التأثير في تنشيط الجسم، ويدر البول، وينظف الكبد، ويغسل الكلى، ويفيد منقوعه ضد السعال والتهاب القصبات والبلغم، وتساعد أليافه في مكافحة الإمساك، وتعادل أملاحه المعدنية القلوية حموضة الدم التي تسبب حصيات الكلى والمرارة، والنقرس، والبواسير، وارتفاع ضغط الدم.
كما يزيد التمر في وزن الأطفال ويحفظ رطوبة العين وبريقها، ويمنع جحوظ كرتها، ويكافح الغشاوة، ويقوي الرؤية وأعصاب السمع، ويهدئ الأعصاب ويقويها، ويحارب القلق العصبي، وينشط الغدة الدرقية، ويشيع السكينة والهدوء في النفس بتناوله صباحًا مع كأس حليب، كما يلين الأوعية الدموية، ويرطب الأمعاء ويحفظها من الضعف والالتهاب، ويقوي حجيرات الدماغ، ويقوي العضلات، ويكافح الدوخة، وزوغان البصر، والتراخي والكسل، وخصوصًا عند الصائمين والمرهقين.
اكتشف الأطباء، أيضًا، أن الرطب يحوي مادة قابضة للرحم تشبه هرمون الأوكسيتوسين، ومواد حافظة للضغط الدموي، لذا يساعد تناوله على خروج الجنين وتقليل النزف بعد الولادة، فضلًا عن غناه بالسكر الذي يعطي الطاقة اللازمة لعملية الولادة المجهدة.
وأظهرت الدراسات أن الجسم يمتص سكريات التمر من الجلوكوز، والليكولوز، والسكاروز، ويتمثلها بسهولة فتصل سريعًا إلى الدم والأنسجة وخلايا الدماغ والعضلات، فتمنحها القوة والحرارة، وهي مدرة للبول، ونافعة للكليتين والكبد، ولا تمنع إلا عن الأشخاص البدينين والمصابين بالسكري.
وحتى يؤدي الصوم دوره الحقيقي السابق تنصح د.سناء بألا تحتوي أطعمة رمضان على منبهات وحوامض وتوابل كثيرة، وأن تحوي قليلًا من الدسم، وأن تكون الكمية المتناولة قليلة، لأن تناول وجبة كبيرة في مدة زمنية قصيرة يؤدي إلى بطء إفراغ المعدة، وهذا يؤدي إلى الشعور بالثقل والامتلاء. ويجب، أيضًًا، عدم الإفراط في تناول الماء البارد لحظة الإفطار.
ويفضل أولًا تناول قدر من التمر، فهذا ينبه الجهاز الهضمي، ويزيل الشعور بالنهم والشراهة، وهو من سنن الرسول، صلى الله عليه وسلم، ومن ثم تؤدى صلاة المغرب، وبعدها يتم تناول كمية معقولة من «الشوربة» الهادئة أو «الحساء»، ما يساعد على تنبيه المعدة والأمعاء، والبدء في ضخ الإفرازات الهاضمة، ومن ثم تناول باقي الطعام، ويجب أن يتم مضغ الطعام جيدًا، لأن هذا مهم جدًا لعملية الهضم وللجسم ككل.
أما السحور فيقول عنه رسول الله، صلى الله عليه وسلم: «تسحروا فإن في السحور بركة»، ويقول في حديث آخر: «استعينوا بطعام السحور على صيام النهار، وبقيلولة النهار على قيام الليل»، ويقول صلى الله عليه وسلم: «لا يزال الناس بخير ما عجلوا الفطر وأخروا السحور» متفق عليه.
وفي هذا توازن زمني بين الوجبتين اللتين يتناولهما الصائم، ويجب أن تكون وجبة السحور خفيفة ما أمكن، فتكون مثلاً من التمر، والزبادي «اللبن»، والحليب، والخبز، وشرائح اللحم المسلوق، والفواكه والخضار، والعسل والحبوب وما شابه، ويحبذ عدم النوم بعد تناول السحور مباشرة، لأن الجهاز الهضمي يكسل في أثناء النوم، كما ينصح بالإقلال من الدهون في السحور، وتفضل المشويات على المقليات، ويجب عدم نسيان الدواء إذا كان الإنسان قادرًا على الصيام، وينصح باستعمال السواك أو الفرشاة لتنظيف الأسنان قبل النوم، فهذه سنة محببة، ولها فوائد صحية كثيرة ومؤكدة بالدراسات.
روحانية التعبد ويرى د.عبدالله العابدي, عضو هيئة التدريس في جامعة الملك سعود, أنه فضلاً عن الفوائد التعبدية والأجر العظيم في صلاة التراويح، فإن من فوائدها الأخرى تلك السعادة الدنيوية التي تمنحها الصلاة متمثلة في الفوائد الصحية التي ثبتت بالأدلة القاطعة، فالصلاة مجهود جسدي بسيط منتظم الإيقاع، وبخاصة حركات الركوع والسجود، فالمصلي يضغط على المعدة والأمعاء، فيحدث تنشيط لحركاتهما، وتسريع لعملية الهضم، فينام المسلم بعدها بعيدًا عن الإحساس بالتخمة والتوتر العصبي. كما أن المصلي يحرق كمية كبيرة من الحراريات في الركعة الواحدة، وفي هذا صحة وعافية جسدية ونفسية.
كما أن الصوم بمعناه الكبير هو نوع من التسامي النفسي، والشفافية الروحية، والاتصال الوجداني بالبارئ العظيم، وهو دعم لقوة الروح التي تسيطر على مادية الجسم، وهو ركيزة من ركائز الإيمان.
والصوم الحقيقي دعوة إلى السمو الخلقي، والبعد عن الخطايا، وهو نوع من الاسترخاء النفسي والعقلي. والمؤمن الصائم يتصف بالسماحة الخلقية، وهو من الكاظمين للغيظ، والعافين عن الناس، والسيطرة على الغضب.
والصائم في رمضان يعد في ساحة تدريب على الإخلاص، ذلك السر الذي به قوام الأعمال كلها على مدار حياة الإنسان، وهو مستشعر للأجر الكبير غير المحدود، }إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرهمْ بِغَيْرِ حِسَاب{، وهو ينتسب إلى الله بهذا الصوم تشريفًا ورفعة له، وفيه تشبه بالملائكة الكرام الأطهار، وأن الصائم لا حظ له في نفسه إنما كله لله، والمسلم يتقرب بصومه بعبادة يفرد الله بها عن سائر ما عبد من دون الله.
وليس المراد بالجانب الإيماني أن يجد المرء حلاوته في نفسه فقط، وإن لم يجدها يكون ذلك خللاً في نفسه. فالجهاد قمة العمل الإيماني، وهو مكروه للنفس ومع ذلك وصف القرآن الكريم المجاهدين بالمؤمنين، وما يلبث المجاهد أن يرى بركات الجهاد في نفسه وماله ووقته وفي كل سكنة من نبضات روحه العطرة.. ومن هنا جاء التعبير في الأحاديث الصحيحة «من قام ليلة القدر إيمانًا واحتسابًا.. من صام رمضان إيمانًا واحتسابًا.. ومن قام رمضان إيمانًا واحتسابًا». لما في الاحتساب من أجر وصبر وتعب، تأتي بعده البركات والأماني الجميلة في النفس والروح معًا، وذلك هو فقه الصيام الصحيح.
للامانة ............ منقول
التقوى واتقاء العلل والأمراض
وقد طبق المؤلف في كتابه هذا منهجًا علميًا تطبيقيًا لإيضاح فوائد الصيام وإعجازه، وأنه وقاية من العلل والأمراض النفسية والجسمية، وهو تحقيق لقوله تعالى:}يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون{ «البقرة: 183»، فكان من جوانب هذه التقوى اتقاء العلل النفسية والجسمانية، وهو، أيضًا، تحقيق لقول المصطفى، صلى الله عليه وآله وسلم: «الصوم جنة». والجنة هي الوقاية والستر.
وعد المؤلف الوجه الثاني من الإعجاز منافع جمة للأصحاء والمرضى، وهو معنى يزيد على الوقاية، فهو علاج لبعض الأمراض، كما أنه يحسن صحة الأصحاء، ويرفع مستواها وأداءها، واستدل المؤلف على ذلك بقوله تعالى: }وأن تصوموا خير لكم{ «البقرة: 184»، فهذه الخيرية للصحيح والمريض على السواء، وللمقيم والمسافر إلا عند حدوث المشقة، فيأتي العذر.
أما الوجه الثالث للإعجاز كما أورده المؤلف، فهو أن الصيام المشروع في ديننا الحنيف سهل ويسير، ولا يسبب مشقة للجسم أو إجهادًا للنفس، وليس المقصود بالمشقة المشقة اليسيرة المحتملة، فهذه لا بد منها في جميع التكاليف.
وقارن المؤلف بين الصيام المشروع لدينا وما يسمى «الصيام الطبي»، وهو التجويع الكامل فترة من الزمن تراوح بين أسبوع أو أسابيع عدة مع السماح بشرب الماء القراح.
وأوضح البون الشاسع بين الصيام الشرعي ويسره، وبين خطورة ما يسمى «الصيام الطبي»، وأنه يحتاج إلى إشراف طبي، ودخول الشخص مصحة، ليقوم بهذا النوع من الصيام.
وهذا الأمر، تحديدًا، يعد من الأهمية بمكان، لأن بعض الأطباء يذكر أضرار الصيام، وأنه قد يؤدي إلى هلاك الصائم في بعض الحالات، والمقصود بذلك كله ما يسمى «الصيام الطبي» الذي لا علاقة له بالصيام الشرعي الإسلامي.
هذا رغم حدوث فوائد عديدة لكثير ممن يصوم الصيام الطبي إلا أنه يحتاج إلى إشراف طبي ليتقي المرء ما قد يحدث فيه من محاذير.
والكتاب مبسط سهل العبارة، واضح البيان، رغم أنه مليء بالحقائق العلمية التي حاول المؤلف أن يعرضها بشكل لا يصعب على القارئ العام فهمه أو متابعته، فقد ذلل الكاتب ما استطاع من صعوبة المادة العلمية المبثوثة في المراجع الطبية الخاصة بهذا الموضوع ليستوعبها غير المتخصص، وتعم الفائدة.
ورغم أن المجلات العامة والصحف كثيرًا ما تكتب عن فوائد الصيام الصحية، خصوصًا عند حلول شهر رمضان المبارك، إلا أن معظم ما يكتب فيها مكرر معاد وليست فيه جدية الأبحاث العلمية التي اعتمد عليها الكاتب، لذا فإن هذا الكتاب يعد بحق رائدًا في بابه.
وقد استفاد المؤلف من إقامة ندوتين طبيتين لأبحاث عن الصيام الإسلامي عقدتا بالتعاون بين هيئة الإعجاز العلمي في القرآن والسنة، وكل من كلية الطب بجامعة الملك عبدالعزيز في جدة، وكلية الطب بجامعة الملك سعود في الرياض، شارك فيهما عدد كبير من الأساتذة والباحثين من داخل المملكة وخارجها.
وكان البحث الذي قدمه المؤلف في الندوة الأولى وهو عن الفرق بين الصيام الإسلامي والصيام الطبي هو الدافع والنواة لكتابة هذه الدراسة.
وكانت الأبحاث القيمة التي قدمت في هاتين الندوتين دليلًا آخر يرد على شبهة الانفصال المزعوم بين الدين والعلم، والتي يبثها ويروج لها في عالمنا مَنْ لا دين له، ولا علم عنده، وليعلم الجميع أن الدين الحق لا يتعارض أبدًا مع حقائق العلم، بل إن العلم خادم للدين، يكشف كل يوم آية من آيات الله في الآفاق والأنفس، تحقيقًا لقوله تعالى: }سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق{ «فصلت: 53».
قانون التوازن وشهية الإنسان للطعام
وقد أوضح الكاتب أن الإنسان يتكون من الجسد والروح، والجسد الحي مكون من ذرات عناصر الأرض: من ترابها ومياهها قال تعالى: }منها خلقناكم وفيها نعيدكم ومنها نخرجكم تارة أخرى{ «طه: 55». وتكوِّن هذه الذرات جزيئات لمواد عضوية وغير عضوية تتركب منها خلايا كل كائن حي.
وقد سخر الله، سبحانه، النبات والحيوان كطعام للإنسان يمده بهذه العناصر والمركبات ليواصل حياته على هذه الأرض التي استخلفه فيها، تحكمه سنة التوازن التي تحكم الكون كله، فالكائن الحي تعمل أجهزته بدقة، وترابط، وتوازن عجيب، ابتداءً من أبسط الخلايا النباتية والحيوانية، وانتهاء بالكائنات المعقدة المركبة من أنسجة، وأجهزة، وأعضاء، وعلى رأسها الجسم الإنساني المميز بالملكات العقلية والروحية، فكان لزامًا أن يحكم بقانون التوازن.
التحكم في الغذاء والشهوات وسمو الروح
كما أن هناك حقيقة أخرى لم يغفل عنها المؤلف، وهي أن بين مركبات الجسد الأرضية أو بين الغذاء والروح كلطيفة ربانية علاقة وسر، فمن تحكم في غذائه وشهواته سمت روحه، وأشرق وجدانه، وارتفعت درجة استجابته لأوامر ربه، واتقى العلل والأمراض التي يمكن أن تصيب الإنسان نتيجة كثرة الأكل على مدار العام.
فالإنسان بنيان خلقه الله وفق نظام محكم بديع لا يعرف دقائق سنن خلقه ولا يحيط بها وبتدبيرها إلا هو سبحانه القائل: }ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير{ «الملك: 14».
فالله وحده الذي يعلم على وجه الدقة، والشمول، والإحاطة ما يصلح هذا المخلوق الفذ وما يفسده، وما يصحه وما يمرضه، ففرض الله، سبحانه وتعالى، الصيام علينا وعلى كل الأمم والشعوب قبلنا، لا لكونه أمرًا تعبديًا للخالق العظيم، جل وعلا، فحسب، ولكن لفوائده المحققة لجسم الإنسان وروحه.
مفاهيم خاطئة حول الصيام أهم المفاهيم غير الصحيحة عن الصيام في هذا الزمان التي أوردها المؤلف أن كثيرًا من الناس يظنون أن الصيام هو حرمان الجسم بأنسجته وخلاياه من عناصر التغذية في الطعام والشراب، وأن الجسم البشري كالآلة الصماء التي تعمل بالوقود، فإن حرمت منه توقفت عن العمل والحركة، كما يخلط بعض الأطباء بين التجويع المطلق والصيام الإسلامي، فيحملون الثاني كل آثار الأول وأخطاره، لأن المدرسة الطبية الغربية، وعلى نهجها تسير المدارس العربية والإسلامية، لا تدرس في مناهجها إلا التجويع وتسميه أحيانًا «الصيام»، ولا تشير من قريب أو بعيد إلى الصيام الإسلامي.
وبهذا الظن والخلط شكك الجهلاء في حكمة الصيام وفائدته، وفرط ضعاف الإيمان في الالتزام به وأعطيت التوجيهات الطبية لبعض المرضى بالإفطار في شهر الصيام بغير ضوابط علمية متيقنة. ولكن الحقيقة التي ثبتت بيقين بعد تقدم العلوم المذهل في هذا الزمان أن للجسم البشري مخازن هائلة للطاقة تتيح له العمل والحركة أيامًا عدة والبقاء أشهر عدة دون أن يتناول فيها أي طعام قط، كما أن الصيام الإسلامي يختلف عن التجويع في أمور كثيرة وجوهرية تجعله صيامًا متميزًا، سهلًا، ميسورًا، لا يشكل أي مشقة أو شدة على الجسم البشري، بل إن له من الفوائد والمنافع الوقائية والعلاجية لعدد من الأمراض الجسدية والنفسية ما يحتم كونه ضرورة حيوية للجسم والنفس البشرية، ويجعله معجزة من معجزات التشريع الإسلامي الذي جاء به الرسول محمد، صلى الله عليه وسلم.
..
منقول للامانة