- مقدمه:
- `]ست الحسن ]
مقدمه:
بين الزوجين.. حبل موصول برحمة إلهية، مسكون بدفء فطري، احتياج غريزي، تناغم عاطفي، انتماء. قد يختلفان، يتباعدان، يتخاصمان، لكنهما برحمة الله ولطفه يعودان. هكذا كتب القدر الإلهي: توأمة خالدة، ذكر وأنثى، بهما ((يعتمر)) الكون.. لهما في كل حكاية موقف، ولنا في كل موقف عبرة]
`]ست الحسن ]
كانت والدتي تقطع الدروب وتنهب الطرقات بحثاً عن ضالتي هذه وتعود بأكداس من الإحباطات والخيبات، تعنّفني ساخرة وهي تضرب كفّاً بأخرى ((لم نعثر بعد على ست الحسن))، وكان أبي يتهكّم بمرارة يائس ((قدّم طلباً إلى إحدى قنوات الفضاء وانتظر الرد]
كنت أريدها فارعة كعارضات الأزياء ولن أتنازل عن المتر والسبعين سانتي وبوزن سبع وخمسين كيلو غرام وذات عيون ملونة وشعر أشقر طويل ويهمني لون البشرة فالأبيض هو لوني المفضل ربما لأني درست في أمريكا استسغت الشقراوات وتبلورت ذائقتي وفق هذا النوع من الجمال، فبنات بلدي مصنفات بأوصاف متشابهة وعادية ولن يثرن اهتمامي أبداً وحدها الشقراء شهلاء العيون من ستتميز عنهن وستكون محط إعجابي]
عجزت أمي بعد أن أعياها البحث قائلة: ((لا توجد فتاة بهذه المواصفات، لابد أن تتنازل عن بعض الشروط قد نجدها شقراء لكنها قصيرة، وقد نجدها فارعة نحيفة بيد أنها سمراء، لما أنت متشدد بهذا الشكل ومتزمت في هذه المقاييس أخشى يا ولدي أن تبدد عمرك في هذه الأوهام فتضيع عليك الفرص الجيدة]
ويأبى عليّ ذوقي أن يتنازل قيد أنملة، تصبرت وجاهدت وكافحت حتى عثرت عليها صدفة، كنت ذاهباً ذلك الصباح إلى إحدى المصارف المالية لإجراء معاملة عاجلة لمحتها جالسة خلف القاطع الزجاجي استطال عنقها بشكل ملفت، بدت طويلة، نحيفة، مشرقة، متألقة كنجمة سينما، دنوت منها لإجراء المعاملة، ابتسمت لي تلك الابتسامة التي تسقط رهبة الموقف وتحتوي مسافة التلاقي، تلصّصت على اسمها عبر البطاقة المعلقة على قميصها واحتفظت بالاسم غيباً وجنّدت على الفور مخابراتي السرية كي أستجمع كافة المعلومات عنها، وعرفت أن أمها إنجليزية، تخرجت لتوها من جامعة بريطانيا لتباشر عملها في البنك، عزباء، انطوائية، لا تخرج عن محيطه العائلي المحفوف فخير لي أن أصطاد هذه الغزالة قبل أن يسبقني أحد إليها.[]
`]استعدت أمي وبعض نساء العائلة لخطبتها، وكانت المشكلة في أمها التي لا تجيد التحدث بالعربية فاستعنت بابنة خالتي لتباشر مشروع الخطبة وذلك لأني وحيد الأسرة ليس لي أخ أو أخت
`]كانت ((ريم)) تعيش في وسط عائلي بسيط جداً وعلى ما يبدو هي الابنة الوحيدة، تمّت الموافقة دون تعقيد لأني عرّيس لقطة فعائلتي ميسورة الحال، وأنا مهندس مدني ووسيم كنت ولازلت حلم العذارى الجميلات]
`]في فترة الخطبة وتجهيز لوازم الفرح كنت أتردد على ((ريم)) لم أذهب راجلاً بل طائراً في فضاء الشوق والهيام تطيّبت بأزكى العطور وتهندمت بأغلى ما عندي من ثياب، أستغل في الغالب أيام الإجازات لأقضي معها صباحات منعشة وأجاذبها عذب الأحاديث وكل ما يخص مستقبلنا المنتظر وأيامنا المرتقبة]
وكعادتي أضرب جرس الباب وأظل واقفاً لفترة طويلة بانتظار الخادمة تهلّ علي بوجهها الرحيم لتدخلني إلى الصالون أقول لها محبطاً:
`]((أيقظي سيدتك ((ريم)) ))]
`]تذهب للحظات ثم تعود لتلقي عليّ نظرة إشفاق وبصوت خافت]
`] ((نائمة
أبقى رابضاً في مكاني وأعود لأكرر طلبي في إيقاظ خطيبتي ثانية وثالثة، ساعتان وأنا أجلس لوحدي حتى تهلّ عليّ غزالتي الكسلانة بوجهها الناعس وشعرها المبعثر، تتمغط بتثاقل ((سآخذ دوشاً سريعاً ثم أعود إليك)).
وتختفي في لحظة دون سلام أو كلام أو حتى لهفة وبررت أنها في فترة حرجة حتماً ستتضح الصورة لاحقاً.[]
`]جاءتني أمها السمينة التي انتفخ وجهها واحتقن لفرط النوم جلست صامتة وكأنها خاضعة لبروتوكول ((قصر باكنجهام)) فترت فرحتي وأحبطت مشاعري بشكل نافر وانقلب مزاجي إلى النقيض، هلّت علي ((ريم)) بعد أن أعياني الانتظار وقد تداركت جزعي بابتسامة مفتعلة بددت بعضاً من إحباطي ولعلّ إطلالتها الجميلة وبشرتها الريّانة أشبعت ناظري وسربت همّي بالتدريج، طوال جلستنا كنا صامتين أحاول بحذاقة أن أثير قضية تخص حياتنا لأحرّك مياهها الراكدة بيد أنها تختصر الرد أو تجيب باقتضاب، أسرد لها بعض الحوادث لأفهم رؤيتها في الحياة وطريقة تفكيرها وتحليلها للأمور، تحدّق بي مبهوتة وكأنها تهيم في واد غير الواد الذي أجوب فيه، تستأذن مقاطعة في جفاء ((عن إذنك نسيت أن عندي تدريب في النادي الرياضي]
فانسحبت بطريقة رسمية قائلاً: ((أرجو أن نتواصل في الهاتف))
`]يتبع]
]
كنت أرسم لهذه الأيام في مخيلتي الساذجة مشاهد عاصفة بالمشاعر، أوقات حافلة بالمسرات والسعادة، زوجان يرتعان في المروج الخضراء ويتعانقان تحت ضوء القمر، تأخذهما لحظات الشوق إلى ذروة لانسجام النفسي والالتحام الروحي يذوبان في غيمة ممطرة بالحنان يتهامسان على شدو العصافير ودعابات نعامة تفتح أزهار القلب لترتشف النشوة من ثغر الصباح المتألق، واخترت ((فينا)) بخضرتها البديعة وشوارعها التي تثرثر بحكايات حب دافئة، وفي المساء يفترش الليل من وجهها أساطير عشق خالدة ]
اتركوني أتنفس وأذرف دمعي وأحكي عن وجعي، فقد كفرت بهذا الجمال حينما اكتشفت أن خلف هذا البريق كيان معطوب وروح ميتة]
أحسست بها متباطئة في كل شيء، خاملة وكأنها خرجت من صقيع ألاسكا، لفتاتها الساذجة واستجاباتها الثقيلة أثارت غيظي في كل لقاء أبادر بحماوة رجولتي وعنفوان شبابي أختلق ذلك المناخ المتأجج بالحب فإذا بها جسد هامد يختزن الموت في كل خلاياه، دمية من الثلج تسر النظر لكنها خابية الإحساس منطفئة، بدّدت ساعات الشوق بنومها المتخم بالبلادة وخمولها المتكلس فوق نسيجها الباهت
اشتد غضبي، اضطررت أن أصرخ حانقاً لأثير انفعالها تجيبني ببرود ((تعبانة يا حازم دعني أنام]
أتركها وأخرج إلى بعض الغابات لأتريّض وأستمتع بالطبيعة الخلابة وأنتشي بزقزقة العصافير وهي تفترش الغصون المثمرة، فقد استأجرت بيتاً صغيراً في بقعة حالمة، هادئة، تثير النفس في كل مكامن اعشق والهيام
أعود بعد ساعة على أمل أن أجدها مستيقظة وقد أعدت لنا مائدة الإفطار، قطفت وأنا في طريقي إليها بعضاً من الزهور البرية،وعندما اقتربت من المنزل سمعت صوت التلفاز يصدح في أرجاء البيت حمدت الله فقد استيقظت عروستي من الموت
دخلت مستاءاً فصحون الأمس مازالت على حالها والوسائد مبعثرة وجدتها ممدة على السرير تشاهد فيلماً أجنبياً
أدهشتني
`((ألم تنهضي لتأخذي دوشاً
تتمغط بتكاسل:
((ريثما ينتهي الفيلم]
بحدة خاطبتها
(هيا أسرعي فقد انصرم النهار الجميل دون طائل)
((وأين نذهب]
[]أشاحت بوجهها معترضة]
`]((أشعر بالبرد لا رغبة لي بمغادرة الفراش
شعرت بالاستياء والملل، فأنا أمام امرأة هامدة الكيان، لا تثير فيّ أي حيوية أو إحساس دافئ، خبت كل دوافع الجذب ناحيتها]
[]قلت ممتعضاً ((إذن انهضي لنتناول الفطور ونخرج نتمشى في الغابة))[]
كانت مندمجة مع الفيلم إلى حد لم تهتم بوجودي أو تكترث باحتياجاتي التفت إلى الفيلم وظننته يحكي قصة اجتماعية وعاطفية كما كان يحلو لأمي أن تشاهد، اندهشت أن الفيلم كان عن ((بروسلي)) ومغامراته العنيفة وحدّثت نفسي متمنياً لو كانت عدوى العنف تسري في أوصالها فتبعث الحركة في ماكنتها البطيئة.]
لم أتزوج إلا دمية ملونة كتلك العارضة في واجهة المحلات أشبه بتمثال الشمع، لا تتفاعل أو تتعاطف، بدأت أزهق من حياتي معها، اعتراني الملل فالأيام تمضي رتيبة، بطيئة، وحدي من أثور وأغلي في الحقيقة كنت أتمنى لو تغضب أو تفجر غضبها فهي كائن محنط أمامي تحرق أعصابي ببرودها البليد في اليوم ألف مرة
تذكرت أمي العجوز هذا الصباح عندما كنت أشرب قهوتي المرة والتي تتواطأ مع مرارة حياتي، كانت أمي تستيقظ فجراً لتصلي الصبح وتقرأ القرآن الكريم ثم تجهّز الحليب المعطّر بالهيل بخاصية يستسيغها أبي، تجهّز فطوره المميز بعاطفة ذوبت ذراتها حتى في إبريق الشاي وخبزها الحار، أتذكر وجهها الطيب وظفيرتها البيضاء وقد تدلت من تحت الوشاح الأسود، بقيت عروساً لم تشخ أبداً، تمضي ساعات الصباح مع أبي المتقاعد يتفاكهان، يتجاذبان الذكريات، يتناولان الفطور وقد تورّد وجهيهما ضحكاً، في قلب أمي مخزون هائل من الحنان والأمومة ظلت تنضح حتى من أصابعها المتعرقة ولم تسمح لغضون السنين وتجاعيد الزمان أن تستهلك روحها الحيّة فبقت في كيان أبي عروسه شابة وعشقه الأول]
]غبطت أبي وتمنّيت لو حذوت حذوه الحكيم]
cتم تجهيز الفطور، وحدث ذلك الزلزال العظيم فعروستي نهضت ببركة الله وسحبت كرسياً وجلست لتأكل، التفت إليها مندهشاً: ((ريم، اغسلي وجهك، استبدلي ملابسك، لم تتكاسلين عن هذه الأمور البديهية))
[]أومأت بغير اكتراث:]
]((لاحقاً، لاحقاً
]حدثتها ((ريم، ألم تشعري ناحيتي بأي مشاعر))]
التقطت أنفاسي مبهوراً، خائفاً من مواجهة الحقيقة المرّة
بهدوء انبرت تصرح]
]((الحمد لله ظروفك المادية جيدة ومستقبلي مضمون معك]
[]لاطفتها ((ريم، أحب أن ترتدي قميص النوم الأحمر، لا أحب الأبيض فهو يظهرك شاحبة]
[]أجفلت مستنكرة
((أعتقد أنه يمنحك شيئاً من الحيوية والحرارة))
لا.. لا أحب هذا اللون، تعرف أن ألواني المفضلة الأبيض والأزرق
`]((ولكنه يعجبني]
`]((وهو لا يعجبني]
[]وتعمّدت أن أضغط أكثر على أعصابها لأشعل فيها فتيل الإحساس.
((سآخذك في جولة إلى السوق لأنتقي لك الألوان التي أحبها شخصياً]
حدقت بي مبهورة[]
`]((لا يمكنني أن أتصور رجلاً في هذا القرن يعامل زوجته بهذا الأسلوب))]
((ألست زوجتي، ينبغي عليك الطاعة والخضوع]
امتعضت دون أن تنبس بحرف]
تركت المائدة ودخلت الحمام]
صرخت بها مغتاظاً
لم تلتفت إلي واتجهت إلى مشوارها بخطى متثاقلة]
أعيتني الحيل، كيف أذوب هذا الكائن الصخري وأفجر في جوفه نبع ماء]
بمن أستعين في مثل هذه الحالة؟!!
]خرجنا بعد مفاوضات عدة واستأجرنا قارباً يأخذنا في رحلة بحرية هادئة، وطوال الوقت كنت أحدثها بلطف عن جمال الطبيعة ومشاهدها الخلاّبة وخرير الماء المريح للأعصاب، وأحكي لها حكايات عن مغامرات مفتعلة وأنني كنت يوماً مطمعاً للحسان، وأنهن تساقطن تحت أقدامي حبّاً وهياماً فلسطوة الوسامة وهيمنة الجاذبية قوة قاهرة لا تقاومها أية امرأة لائقة صحياً]
`]((الأمر ذاته بالنسبة لي فقد حدثت معارك وحروب من أجل نيل رضاي، شباب العائلة، الأقارب، الأصدقاء كلهم يتهافتون عليّ تودّداً لكني رفضتهم جميعاً]
`]أوغرت الغيرة صدري وانتهبتني مشاعر الغليان، وما كنت قد أعددته من شراك سقطت أنا في براثنه السحيقة]
ابتلعت الغصة وسألتها على مضض`]((ولماذا رفضت؟]
`]بتلقائية طفولية اعترفت]
`]((هكذا أنا لا أحب أحداً، لا يعجبني أن أرتبط برجل يعكّر علي حياتي، أحب أن أبقى حرة أنام وقتما أحب وأخرج متى أشاء وأمارس حياتي بمزاجي]
]اندهشت]
`]((ولكن الطبيعي أن تميل الأنثى إلى رجل، حاجة عاطفية، وجسدية ونفسيّة]
`]بسذاجة صادمة لكل أحلامي]
`]((لا لم أحتج إلى رجل أبدا فما هو الجديد الذي سيقدمه لي؟!))
`]ذهلت وصعقت، فهل كان يكتنف التمثال الفاتن هذا روحاً مريضة ونفساً شحيحة العاطفة، كنت طوال الرحلة أداعبها وألامس أصابعها لأستثير مشاعرها الميتة وفق هذا المناخ الحالم المفعم بالإحساس وكأني أتحسس سطوحاً خشبية جامدة، انكفأ قلبي وغامت روحي وبدأت أفكر بطريقة أشغل بها نفسي أو أتشاغل عنها فأفضل حالاتها عندما تستلقي على الفراش تشاهد الأفلام الأجنبية المتخصصة بالعنف والجريمة]
]وفكّرت جدياً بطلاقها، فلم تكن هنالك قواسم مشتركة بيننا تستدعي الاستمرار في هذه الرحلة المقيتة، وهذا الجمال الباهر قد انطفأ في عيني وتبدد تأثيره فما عاد له قيمة في نفسي وأيقنت أنها حماقة أن أبني حياتي الزوجية على ألوان ومقاييس بالسانتي، عدنا بخيبتنا وانتكاستنا وشموعنا خابية]
((Mamy I miss you]
ثم توقفت للحظات والتفتت تتستأذنني
]((سأبيت هذه الليلة عند أمي))
ابتسمت بمرارة]
]((هذه الليلة وكل ليلة]
`]وافترقنا في المطار.]
وكانت تجربة خصبة، ثرية، جعلتني أفهم المرأة وقيمتها في حياة الرجل كروح نابضة بالحياة تتفاعل عاطفياً وفكرياً وجسدياً تلقي بظلالها الحالمة على كيانه فتنعشه وتسكنه وآمنت بهذه المعاني الآن بعد أن غابت تحت المقاييس القشرية الزائلة والحماقة الذكورية المندفعة]
Tهمسة]
((الجسد يشيخ لكن الروح تبقى، فجمال الروح أدعى للسعادةT]