- * *
- * *
- وأشرت إلى الأوراق وأنا أقول بحرج:
جايبه لكن قصة ولا اروع وان شاء الله تعجبكن
منقول
حكاية رجل بلا اسم
انبعثت هذه القصة من ابتسامة صغيرة لرجل بلا اسم.
في الصباح... أخبروني أنه مات.
العامل الهندي الذي ينظف مكاتبنا وجدوه ميتا ً في فراشه، ملامحه هادئة جدا ً، يبدو أنه قضى وهو نائم.
استغرقت دقائق لأستدعي صورته إلى ذهني، ظلا ً... رجلا ً بلا صوت، متداعي البنيان، بجلد له لون جذوع النخل، عينان خاملتان، وعلى وجهه شعيرات بيضاء مجزوزة تتناثر بإهمال وتعب.
كان يأتي في كل صباح، بيد ٍ خرقة حمراء بالية، وفي الأخرى بخاخ ماء، يمسح الطاولات، أجهزة الحاسب، ينفض غبارا ً لا وجود له، كل هذا بلا كلمة، بلا نظرة، كأنه لا يشعر بوجودنا، وكأن المكاتب الضاجة بالحياة والأصوات... أنا... وكل زملائي لا وجود لنا بالنسبة له، وأن العالم يتمثل بالنسبة له في تلك الطاولات والشاشات التي يحرص أن تلمع دوما ً.
كان الجميع يسميه ( محمد)، ولكنه قطعا ً لم يكن - رغم شرفه – اسمه الذي دعته به أمه عندما لفت جسده الساخن العابق برائحة جسدها قبل سنوات متطاولة في مكان ما في الهند.
كان يأوي بعدما ينجز مهامه – الضئيلة – إلى ركن تحت الدرج الخلفي المهمل في الدائرة التي أعمل بها، هناك حيث تناثرت قناني الماء الفارغة، وكسا الغبار الأرض، فرش بساطا ً صغيرا ً يلقي بنفسه عليه لينام، لم يكن أحد يعبأ بنومه في أوقات الدوام الرسمي، ربما لأن لا أحد كان يعبأ به أساسا ً.
* *
لأيام ظلت صورته في ذهني، لم أستطع طرد كل تلك الأسئلة التي كانت تتوافد علي، هل كان مريضا ً؟ كيف مات؟ هل كان صمته ذاك يطوي حزنا ً أم بلادة؟ بم كان يفكر عندما كان يضع رأسه على ذاك البساط القديم وعيناه تحدقان في الدرج المائل فوق رأسه، هل لديه زوجة؟ أطفال؟ أصدقاء؟
فرارا ً من هجمة الأسئلة قصدت ركنه ذاك، كان كل شيء على حاله، لم تلمسه يد، فقط غطته طبقة رقيقة من الغبار كأنما لتحفظ آخر ذكرى من الراحل، جعلت أتأمل خطوط البساط المتقاطعة ذات الألوان المتفاوتة بين الأخضر والبني.
كان البساط مرتفعا ً قليلا ً في أحد أطرافه، جذبت ذلك الطرف فكشف لي عن كتاب صغير، مهترئ الغلاف، بصفحات صفراء، تملأه الحروف الهندية تلك التي تشبه أفاعي صغيرة متلوية للأسفل، بداخل الكتاب ورقتين مكتوبتين بخط اليد باللغة ذاتها.
حملت غنيمتي معي وعدت وأنا أفكر بما وجدته، ما هذا الكتاب؟ ما هذه الأوراق؟ هل كان الراحل يقرأ ويكتب؟ ظننته بذلك الخمول وتلك النظرة الخابية خليا ً من كل شيء.
من يكتب... لديه شيء يريد قوله، فما الذي كان يريد قوله ذاك المسكين؟ ثم ما هذا الذي كان يقرأه؟ تلك الحروف الغريبة المغلقة ربما تخبرني قليلا ً كيف كان يفكر، نوع الكتابات التي تروقه، هذه الحروف القليلة ربما تكشف لي أشياء أكثر عن هذا الذي بلا اسم.
* *
بعدما ترددت زمنا ً وغالبت خجلا ً تركت قدماي تقودانني يوما ً إلى كليتي القديمة، تلك المباني الضخمة التي ضمتني يوما ً بين جنباتها طالبا ً راكبا ً أجنحة الحلم، تلك الذكريات العزيزة التي لا يفصلني عنها إلا بضع سنين تبدو لي كسنين يوسف.
ما زال الاسم هناك، صامدا ً لكل القادمين والراحلين، الدكتور " إرشاد الحق محمد زيني"، وقفت أمام باب المكتب أحدق في الاسم المكتوب بالإنجليزية مترددا ً كما كنت أقف في زمن مضى، ثم طرقت الباب فجاء صوته الطيب " Come in"، دفعت الباب وولجت الغرفة الباردة.
كان هو... لم تتغير فيه شعرة، ذات الرجل الذي كان يرعبني أياما ً ويسهدني ليال، ذات الذي كان يصخب بلغته الإنجليزية المستغلقة على أفهامنا، ويغلف صوته تلك القاعة الفسيحة التي يتسرب منها الطلاب يوما ً بعد يوم.
عرفني بعد تعريف بسيط، وجعل يضحك منشرح الصدر، صافحني بقوة، سره أني لم أنسه بعد، داهمني بأسئلة عديدة عن عملي، حياتي، وأصر على أن يصنع لي شايا ً أخضر من " مسخن الماء" وأكواب الشاي التي تحتل ركنا ً من مكتبه.
رشفت الشاي الذي جاءني في كوب أبيض طوقته نقوش غريبة لأفيال هندية هائجة، ثم أعددت إنجليزيتي الكسيحة لأخبره بما جئت له.
أخبرته بحكاية العامل الراحل، بالأسئلة التي صارت تدهمني كثيرا ً منذ ذاك الصباح، ثم بالكتاب والأوراق التي وجدتها، وقلت وأنا أعلق عيني بعينيه اللتان تبرزان وراء نظارته الغليظة:
- أحتاج مساعدتك يا دكتور، فأنت الهندي الوحيد الذي أستطع فهمه ويستطيع فهمي، أريد فقط أن تخبرني ما هذا الكتاب؟ وماذا تقول هذه الرسالة؟
- ولكن هذا خطأ... كان المفروض أن تسلم هذه الأشياء لأهله، هذه أشياء خاصة.
- لم يسأل عنها أحد يا دكتور، ولم يهتم بها، ولو كنت تركتها لأكلتها الأرضة الآن... أنا أريد أن أمنح الراحة لروحي، أريد أن أعرفه الآن بعدما عجزت عن معرفته عندما كان بيننا.
تنهد الدكتور إرشاد وتناول الكتاب وقلبه بين يديه، فر صفحاته المتداعية ثم قال:
- هذه طبعة قديمة من رواية ( الهوائي) لآمريتا بريتام.
- رواية؟ ام... غريب.
- ماذا توقعت؟ كتاب في الفلسفة؟
- لا... لا... بالعكس أنا متعجب، أنا تعودت على أن من يقرأ الروايات لابد أن يكون مثقفا ً، العامل لدينا لا يقرأ شيء تقريبا ً... عموما ً... عم تتكلم هذه الرواية؟
- ام؟ دعني أرى... أنا لم أقرأها.
قلب الرواية بين يديه، قرأ ما كتب على غلافه الخلفي، زوى ما بين عينيه، قبل أن يقول:
- إنها عن شاب، كيف سأقولها لك، نعم إنه شفاف جدا ً، ويتعامل مع الأشياء بحس عالي وبرمزية، هل تفهمني؟
- نعم... فهمتك.
وأشرت إلى الأوراق وأنا أقول بحرج:
- أنا آسف يا دكتور على إضاعة وقتك، ولكن الأوراق أيضا ً هل تساعدني فيها؟
- ام، سأرى أتمنى أن لا تكون أشياء شخصية، هذا غير جيد، لا يجب أن نطلع على أشياء الإنسان الخاصة حتى بعد موته.
تناول الورقتين، عاد بمقعده إلى الخلف وغرق في القراءة.
..
.
يتبع
أترك لخيالي العنان، ليبحر عائدا ً في الزمان وقافزا ً على المكان، لينقل لي تفاصيل تلك القرية الغاصة بالأنفاس، رائحة الحقول والناس والأطعمة، هدير النهر القريب الذي يمنح هذه القرية الحياة.
حملت لي كلمات الدكتور بساطة الرجل وروحه التي كنت أظن أنها مدفونة تحت درج مهجور، باهتة وراء عينان لا تحملان بريق الأجوبة.
* * *
غادرت مكتب الدكتور وبين يدي بقايا ذلك الذي بلا اسم، أشيائه البسيطة التي تركوها ورائهم عندما لفوا جثمانه وأودعوه تابوتا ً طار أو أبحر إلى تلكم القرية التي بلا اسم، ليدفن هناك بين الأهل والأجداد.
من الغد... أزهق اسمه أنفاسي، كنت جالسا ً على المكتب والنافذة تحمل لي رائحة الشتاء، وبين يدي ورقة بيضاء امتلأت بخطوط لا معنى لها، دوائر، رؤوس بلا ملامح، أياد ٍ مبسوطة بلا عُقل ولا براجم، أنوف مفردة تعتليها نظارات مشروخة، ورأس الطفلة التي تبكي الذي لا أكف عن رسمه منذ تعلمت قبض القلم، وفي رأسي تتوالى أسماء مركبة لكل الهنود الذين عرفتهم.
محمد سراج، حبيب الرحمن، أسد الله، محمد غوث، راجا، سيف الدين، أيها يناسبك؟ أي اسم كنت تحمل؟
وماذا لو عرفت؟ نسمة شتائية سحبت ورقة من الأوراق إلى طرف المكتب، تابعتها عيناي وهي تلاعب الورقة وتداعبها بيديها الخفيتين، ثم عدت للسؤال... وماذا لو عرفت؟ ماذا لو علمت أن اسمه كان أسد الله أو حبيب الرحمن... ماذا لو؟
هل هي محاولة ماكرة من عقلي الباطن للفرار من ألمه؟ من أن هناك رجل عاش وقضى وما بيني وبينه إلا رمية حجر، لم أعرف اسمه، لا... ولا وقفت يوما ً لأخفف من وحدته، بخلت عليه بفضول كلام هو بحاجته، ليشعر يوما ً بأنه موجود.
انتهى الدوام... وجلست في سيارتي أتأمل رتل السيارات المغادرة، ما أسرع فرارهم، دقائق وصارت المواقف خلوا ً من الأنفاس، حركت سيارتي ببطء وبدلا ً من أن أقصد المخرج وليت وجهي إلى طريق جانبي قصير، مطموس بالرمال والأتربة، تجاوزت مجموعة من الأبنية وحاذيت الطريق الذي التف الآن ليصير ورائها، لحقت بسيارتي مجموعة من الكلاب النابحة المطلقة السراح في تلك الأرض الفضاء الضخمة.
وصلت الآن إلى مجموعة من الأبنية الصغيرة، والتي تمثل مجتمعا ً صغيرا ً من أجناس شتى يضم عمال الدائرة، كانت الأبنية قديمة ربما بنيت قبل المبنى الرئيسي حيث أعمل، الغبار يغطي كل شيء، والأبواب كالحة، طاردة للهواجس والأفكار.
ترجلت من سيارتي، فأقعى الكلب - الوحيد الذي لم يسأم من لعبة مطاردتي - غير بعيد، طرقت الباب حتى أقطع كل تردد بشأن هذه الفكرة الحمقاء التي تراودني منذ الصباح بالسؤال عنه.
فتح الباب وبرز لي أولا ً كرش كبير ملفوف نصفه بإزار بألوان شجرة جوز الهند، ورائه رجل عريض الكتفين، بشرته بلون القهوة المحروقة، يرتدي بالإضافة إلى الإزار فانلة بيضاء بلا أكمام، تبرز كتفيه الصلبتين وشعر صدره الغزير.
نظر لي باستغراب، قلت وأنا أحاول جمع بلاغتي الهندية المنثورة:
- كيا بل تيق هي؟
لم يرد، يبدو أنه لا يحبذ الزيارات التي تأتي ظهرا ً، قلت وأنا أشير بيدي إشارة بلا معنى:
- معلوم هذا صديق، في موت ( كم تبدو هذه العبارة غير لائقة الآن، وخصوصا ً بعد نظرة الرعب التي بدت في عينيه).
- موت؟
- هذا صديق هنا معلوم.
نظر لي بلا معنى ولم تحمل عيناه إجابة قلت يائسا ً:
- هذا صديق في موت قبل أسبوع، معلوم؟ ايش اسم؟
- اسم؟
زفرت في ضيق، ولوحت بيدي وأنا أعود إلى سيارتي، بما كنت أفكر؟
* * *
بقيت روحه تطوف بي من الغد، ظننت أن محاولتي الخرقاء بالأمس قد خففت عني ولكني كنت واهما ً.
بادرتني صورته عندما رأيت الغبار يغطي مكتبي وأعلى جهازي، تذكرت خرقته الحمراء، أينها الآن لتعيد لهذا المكتب بهائه؟
أذن الظهر فنفضت يدي من الأشغال وقصدت المصلى الصغير في الدور الأرضي، عادت صورته من جديد تشغلني، انتبهت على صوت المراسل العجوز وهو يقيم الصلاة، ثم يده وهي تدفعني إلى موضع الإمام، تقدمت وكبرت، همست لنفسي متعوذا ً من الشيطان مستجلبا ً الخشوع.
رفرف الأنس علي وبدأت صورته تنحل وترحل عن روحي وعندما سلمت من الصلاة نهضت وأنا أقول بصوت جهوري " صلاة الغائب على أخيكم... آ... آ..."، تجاهلت عيونهم المستغربة وحرفت وجهي إلى القبلة وكبرت.