- بقلم الدكتور:زغلول النجار
- وقوله( سبحانه وتعالي
- هو الله الخالق الباريء المصور...( الحشر:24).
- موقف الحضارة الإسلامية من قضية الخلق
- موقف الحضارة المادية المعاصرة من قضية الخلق
- بدايات تعرف الإنسان علي ظاهرة توسع الكون
بقلم الدكتور:زغلول النجار
يشيرالقرآن الكريم في عدد من آياته, الي الكون والي العديد من مكوناته( السماوات والأرض, وما بكل منهما من صور الأحياء والجمادات, والظواهر الكونية المختلفة), وتأتي هذه الآيات في مقام الاستدلال علي طلاقة القدرة الإلهية التي أبدعت هذا الكون, بجميع ما فيه ومن فيه, وفي مقام الاستدلال كذلك علي أن الإله الخالق الذي أبدع هذا الكون قادر علي إفنائه, وقادر علي إعادة خلقه من جديد, وذلك في معرض محاجة الكافرين والمشركين والمتشككين, وفي إثبات الألوهية لرب العالمين بغير شريك ولا شبيه ولا منازع.
وكانت دعوي الكافرين منذ الأزل, والي يوم الدين, هي محاولة إنكار قضيتي الخلق والبعث بعد الإفناء, وهما من القضايا التي لا تقع تحت الإدراك المباشر للعلماء, علي الرغم من أن الله تعالي قد أبقي لنا في أديم الأرض, وفي صفحة السماء من الشواهد الحسية الملموسة ما يمكن أن يعين المتفكرين المتدبرين من بني الإنسان علي إدراك حقيقة الخلق, وحتمية الإفناء والبعث, ويبقي فهم تفاصيل ذلك في غيبة من الهداية الربانية شيئا من الضرب في الظلام, وفي ذلك يقول الحق( تبارك وتعالي) ردا علي الظالمين من الكافرين والمشركين والمتشككين من الجن والإنس: ما أشهدتهم خلق السماوات والأرض ولا خلق أنفسهم وما كنت متخذ المضلين عضدا( الكهف:51).
وفي تشجيع الإنسان علي التفكر والتدبر في خلق السماوات والأرض يقول ربنا( تبارك وتعالي) في محكم كتابه:
إن في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار لآيات لأولي الألباب* الذين يذكرون الله قياما وقعودا وعلي جنوبهم ويتفكرون في خلق السماوات والأرض ربنا ما خلقت هذا باطلا سبحانك فقنا عذاب النار( آل عمران:190 191).
وكان لنزول هاتين الآيتين الكريمتين وما تلاهما من آيات في السورة نفسها, وقع شديد علي رسول الله( صلي الله عليه وسلم), الذي يروي عنه أنه قال عقب الوحي بها: ويل لمن قرأ هذه الآيات ثم لم يتفكر فيها.
وواضح الأمر في ذلك أن التفكر في خلق السماوات والأرض فريضة إسلامية لابد من قيام نفر من المسلمين بها, لأنها عبادة من أجل وأعظم العبادات لله الخالق, ووسيلة من أعظم الوسائل للتعرف علي كل من حقيقة الخلق, وحتمية الافناء وضرورة البعث, وللتأكيد علي عظمة الخالق( سبحانه وتعالي), وعلي تفرده بالألوهية, والربوبية, والوحدانية, فالكون الذي نحيا فيه شاسع الاتساع, دقيق البناء, محكم الحركة, منضبط في كل أمر من أموره, مبني علي وتيرة واحدة من أدق دقائقه الي أكبر وحداته, وكون هذا شأنه لا يمكن لعاقل أن يتصور أنه قد وجد بمحض المصادفة, أو أن يكون قد أوجد نفسه بنفسه, بل لابد له من موجد عظيم, له من طلاقة القدرة, وكمال الحكمة, وشمول العلم ما أبدع به هذا الكون بكل ما فيه ومن فيه, وهذا الخالق العظيم لاينازعه أحد في ملكه, ولا يشاركه أحد في سلطانه, لأنه رب هذا الكون ومليكه, ولا يشبهه أحد من خلقه, لأنه( تعالي) خالق كل شيء, وهو بالقطع فوق كل خلقه, لا يحده المكان, ولا الزمان لأنه( سبحانه) خالقهما, ولا يشكله أي من المادة أو الطاقة, لأنه( تعالي) مبدعهما, ولا نعرف عن ذاته العلية إلا ما عرف به نفسه بقوله( عز من قائل):
ليس كمثله شيء وهو السميع البصير
[ الشوري:11).
وقوله( سبحانه) مخاطبا خاتم أنبيائه ورسله( صلي الله عليه وسلم):
قل هو الله أحد, الله الصمد, لم يلد ولم يولد, ولم يكن له كفوا أحد( الإخلاص:1 4).
من هنا كان التفكر في خلق السماوات والأرض مدخلا عظيما من مداخل الإيمان بالله, ولذا حض عليه القرآن الكريم, كما حضت عليه السنة النبوية المطهرة حضا كثيرا.
تأكيد القرآن الكريم علي ما في السماوات والأرض من أدلة الخلق والإفناء والبعث
يؤكد القرآن الكريم علي ما في السماوات والأرض من الأدلة, التي تنطق بطلاقة القدرة الإلهية في خلقهما وإبداعهما, كما تنطق بحتمية إفنائهما, وإعادة خلقهما من جديد في هيئة غير التي نراهما فيها اليوم, وذلك في عدد غير قليل من الآيات التي منها قوله( تعالي)
وهو الذي خلق السماوات والأرض بالحق...( الأنعام:73).
وقوله( سبحانه):
خلق الله السماوات والأرض بالحق, إن في ذلك لآية للمؤمنين( العنكبوت:44)
وقوله( عز من قائل):
... ما خلق الله السماوات والأرض وما بينهما إلا بالحق وأجل مسمي, وإن كثيرا من الناس بلقاء ربهم لكافرون( الروم:8)
وقوله( تعالي):
ومن آياته خلق السماوات والأرض واختلاف ألسنتكم وألوانكم,إن في ذلك لآيات للعالمين
(الروم:22).
وقوله( سبحانه):
وهو الذي يبدأ الخلق ثم يعيده وهو أهون عليه وله المثل الأعلي في السماوات والأرض وهو العزيز الحكيم( الروم:27).
وقوله( سبحانه وتعالي):
خلق السماوات والأرض بالحق وصوركم فأحسن صوركم وإليه المصير( التغابن:3).
وقوله( عز من قائل):
خلق السماوات والأرض بالحق يكور الليل على النهار ويكور النهار علي الليل وسخر الشمس والقمر كل يجري لأجل مسمي ألا هو العزيز الغفار
( الزمر:5).
وقوله( سبحانه): لخلق السماوات والأرض أكبر من خلق الناس ولكن أكثر الناس لا يعلمون
(غافر:57).
وقوله( تعالي)
ومن آياته خلق السماوات والأرض وما بث فيهما من دابة وهو علي جمعهم إذا يشاء قدير
(الشوري:29).
وقوله( سبحانه وتعالي):
وما خلقنا السماوات والأرض وما بينهما لاعبين, ما خلقناهما إلا بالحق ولكن أكثرهم لا يعلمون( الدخان:38 و39).
تأكيد القرآن الكريم علي أن الله تعالي هو خالق السماوات والأرض وخالق كل شيء
جاءت مادة خلق بمشتقاتها في القرآن الكريم مائتين وإحدي وستين(261) مرة, لتأكيد أن عملية الخلق هي عملية خاصة بالله( تعالي) وحده, لا يشاركه فيها أحد, ولا ينازعه عليها أحد, ولا يقدر عليها أحد غيره( سبحانه وتعالي) إلا بإذنه, كذلك وردت لفظة السماء في القرآن الكريم بالإفراد والجمع في ثلاثمائة وعشر(310) مواضع, منها مائة وعشرون(120) مرة بصيغة الإفراد( السماء), ومائة وتسعون(190) مرة بصيغة الجمع( السماوات) معرفة وغير معرفة, كما وردت لفظة الأرض بمشتقاتها في أربعمائة وواحد وستين(461) موضعا, وذلك في مقامات كثيرة تؤكد أن الله( تعالي) هو خالق السماوات والأرض, وخالق كل شيء, من مثل قوله( عز من قائل):
ذلكم الله ربكم لا إله إلا هو خالق كل شيء فاعبدوه وهو علي كل شيء وكيل( الأنعام:102).
وقوله( سبحانه):
ألا له الخلق والأمر تبارك الله رب العالمين( الأعراف:54).
وقوله( تعالي):
إنه يبدأ الخلق ثم يعيده...( يونس:41)
وقوله( سبحانه وتعالي):
.... قل الله خالق كل شيء وهو الواحد القهار( الرعد:16).
وقوله( تبارك وتعالي):
.... وخلق كل شيء فقدره تقديرا( الفرقان:2)
وقوله( عز من قائل):
الله خالق كل شيء وهو علي كل شيء وكيل( الزمر:62).
وقوله( سبحانه):
ذلكم الله ربكم خالق كل شيء لا إله إلا هو فأني تؤفكون( غافر:62).
وقوله( تعالي)
إنا كل شيء خلقناه بقدر( القمر:49).
وقوله( سبحانه وتعالي
هو الله الخالق الباريء المصور...( الحشر:24).
هذا, وقد أفاض القرآن الكريم في حسم قضيتي الخلق والبعث بنسبتهما الي الله( تعالي) وحده, وذلك لأن هاتين القضيتين كانتا من أصعب القضايا التي خاض فيها الجاحدون والمتشككون بغير علم ولا هدي عبر التاريخ, ولايزالون يستخدمون هذا الجحود والإنكار في معارضة قضية الإيمان بالله الخالق الباريء المصور, ويرد عليهم القرآن الكريم بقول الحق( تبارك وتعالي)
أفمن يخلق كمن لا يخلق أفلا تذكرون( النحل:17).
وقوله( تعالي) في السورة نفسها:
والذين يدعون من دون الله لا يخلقون شيئا وهم يخلقون( النحل:20).
وقوله( سبحانه وتعالي):
واتخذوا من دونه آلهة لا يخلقون شيئا وهم يخلقون( الفرقان:3)
وقوله( تبارك وتعالي):
أم خلقوا من غير شيء أم هم الخالقون, أم خلقوا السماوات والأرض بل لا يوقنون( الطور:35 و36).
وقوله( عز من قائل):
قل هل من شركائكم من يبدأ الخلق ثم يعيده قل الله يبدأ الخلق ثم يعيده فأني تؤفكون( يونس:34).
وقوله( تعالي)
أو لم يروا كيف يبديء الله الخلق ثم يعيده إن ذلك علي الله يسير, قل سيروا في الأرض فانظروا كيف بدأ الخلق ثم الله ينشيء النشأة الآخرة إن الله علي كل شيء قدير( العنكبوت:19 20).
موقف الحضارة الإسلامية من قضية الخلق
بعد بعثة المصطفي( صلي الله عليه وسلم) انطلق المسلمون من الإيمان بحقيقة الخلق, وحتمية البعث, ليقيموا( علي أساس من تلك العقيدة الربانية الخالصة) أعظم حضارة في التاريخ, لأنها كانت الحضارة الوحيدة التي جمعت بين الدنيا والآخرة في معادلة واحدة, واستمرت لأكثر من عشرة قرون كاملة, تدعو الي عبادة الله( تعالي) بما أمر( علي التوحيد الخالص لذاته العلية, والتنزيه الكامل لأسمائه وصفاته عن الشبيه والشريك والمنازع), والي حسن القيام بواجبات الاستخلاف في الأرض, وإقامة عدل الله فيها, علي أساس من شرعه المنزل علي خاتم أنبيائه ورسله, والذي تعهد( سبحانه وتعالي) بحفظه بنفس اللغة التي أنزل بها( كلمة كلمة وحرفا حرفا) فحفظ حتي لا يكون للناس علي الله حجة بعد نزول هذا الوحي الخاتم, وتعهد الله( تعالي) بحفظه من الضياع أو التحريف.
وبهذا الجمع المتزن بين وحي السماء والاجتهاد في كسب المعارف النافعة, حملت حضارة الإسلام مشاعل المعرفة في كل مناشط الحياة الدينية والعمرانية, وأقامت قاعدة صلبة للدين والعلم والتقنية, وآمنت بوحدة المعرفة, وبأن الحكمة هي ضالة المؤمن, أني وجدها فهو أولي الناس بها, فجمعت المعارف من مختلف مصادرها مهما تباعدت أماكنها, واختلفت الحضارات التي انبثقت عنها, ومعتقدات أصحابها, ولكنها لم تقبل تلك المعارف قبول التسليم, فقامت بغربلة تراث الإنسانية المتاح لها, بمعيار الإسلام العظيم القائم علي أساس من التوحيد الخالص لله, وذلك لتطهير هذا التراث من أدران الشرك والكفر والجحود بالله, وأضافت اليه إضافات أصيلة عديدة في كل المجالات, مما مثل القاعدة التي انطلقت منها النهضة العلمية والتقنية المعاصرة, كما يعترف بذلك عدد غير قليل من العلماء المعاصرين غربيين وشرقيين.
ولم يحل الإيمان بالغيب دون التقدم العلمي والتقني في الحضارة الإسلامية, بل حض عليه الإسلام حضا, واعتبره نمطا من أنماط عبادة الله( تعالي), والتفكر في خلقه, ووسيلة منهجية لاستقراء سنن الله في الكون, وتوظيفها في عمارة الأرض, وهي من واجبات الاستخلاف في الأرض, والوجه الثاني للعبادة التي يمثل وجهها الأول عبادة الله( تعالي) بما أمر, واتباع سنة خاتم الأنبياء والمرسلين( صلي الله عليه وسلم).
موقف الحضارة المادية المعاصرة من قضية الخلق
انطلقت الحضارة المادية المعاصرة في الأصل من بوتقة الحضارة الإسلامية, ولكن علي مغايرة من حضارة المسلمين, فإن الغرب بني حضارته علي أساس من المادية البحتة, فنبذ الدين, ووقف موقف المنكر لقضية الإيمان بالله, وملائكته, وكتبه, ورسله, واليوم الآخر, الرافض لكل أمر غيبي, في عداء صريح, واستهجان أوضح, فتنكب الطريق, وضل ضلالا بعيدا علي الرغم من القدر الهائل من الكشوف العلمية, والانجازات التقنية المذهلة التي حققها, والتي يمكن أن تكون سببا في دماره في غيبة الالتزام الديني والروحي والأخلاقي, وصدق الله العظيم الذي أنزل من قبل ألف وأربعمائة سنة قوله الحق:
فلما نسوا ما ذكروا به فتحنا عليهم أبواب كل شيء حتي إذا فرحوا بما أوتوا أخذناهم بغتة فإذا هم مبلسون, فقطع دابر القوم الذين ظلموا والحمد لله رب العالمين( الأنعام:44 45).
وبنبذ الإيمان بالله, وصلت المجتمعات الغربية الي مستوي متدن من التحلل الأخلاقي, والانهيار الاجتماعي, ومجافاة الفطرة التي فطر الله الخلق عليها, في وقت ملكت فيه من أسباب الغلبة المادية ما يمكن أن يعينها علي الاستعلاء في الأرض, والتجبر علي الخلق, ونشر المظالم بغير مراعاة لرب أو مخافة من حساب, مما يمكن أن يهدد البشرية بالفناء...!!
ولاتزال المعارف الإنسانية بصفة عامة, والعلمية منها بصفة خاصة, تكتب الي يومنا هذا, من منطلقات مادية صرفة, لا تؤمن إلا بالمدرك المحسوس, وتتنكر لكل ما هو فوق ذلك, فدارت بالمجتمعات الإنسانية في متاهات من الضياع, ضلت وأضلت, علي الرغم من الكم الهائل من المعلومات التي تحتويها, وروعة التقنيات التي أنجزتها.
وكان ضلال الحضارة المادية المعاصرة أبلغ ما يكون في القضايا التي لايمكن اخضاعها لإدراك الإنسان المباشر, من مثل قضايا الخلق والإفناء والبعث( خلق الكون, خلق الحياة, خلق الإنسان, ثم إفناء كل ذلك وإعادة خلقه من جديد), وهي من القضايا التي إذا خاض فيها الإنسان بغير هداية ربانية فإنه يضل ضلالا بعيدا, وصدق الله العظيم إذ يقول في الرد علي هؤلاء الظالمين من الكافرين والمشركين والمتشككين من الجن والإنس:
ما أشهدتهم خلق السماوات والأرض ولا خلق أنفسهم وما كنت متخذ المضلين عضدا( الكهف:51).
وعلي الرغم من تأكيد القرآن الكريم أن أحدا من الجن والإنس, لم يشهد خلق السماوات والأرض, ولا خلق نفسه, فإنه يؤكد ضرورة التفكر في خلق السماوات والأرض, وخلق الحياة لأن ذلك من أعظم الدلائل علي طلاقة القدرة الإلهية, وكمال الصنعة الربانية, وعلي كل من حتمية الآخرة وضرورة البعث والحساب والجنة والنار, وذلك لأن الخالق( سبحانه وتعالي) قد ترك لنا في صخور الأرض وفي صفحة السماء ما يمكن أن يعين الإنسان علي فهم قضيتي الخلق والبعث, بالرغم من محدودية قدراته الذهنية والحسية, واتساع الكون وضخامة أبعاده وتعقيد بنائه, وكذلك تعقيد بناء الجسد الإنساني وبناء خلاياه, وهي صورة رائعة لتسخير الكون للإنسان, وجعله في متناول إدراكه وحسه.
خلق السماوات والأرض في القرآن الكريم:
من قبل أكثر من ألف وأربعمائة سنة, لخص لنا ربنا( تبارك وتعالي) في صياغة كلية شاملة عملية خلق السماوات والأرض, وإفنائهما وإعادة خلقهما من جديد, في خمس آيات من القرآن الكريم علي النحو التالي:
(1) والسماء بنيناها بأيد وإنا لموسعون( الذاريات:47)
(2) أو لم ير الذين كفروا أن السماوات والأرض كانتا رتقا ففتقناهما وجعلنا من الماء كل شيء حي أفلا يؤمنون( الأنبياء:30)
(3) ثم استوي الي السماء وهي دخان فقال لها وللأرض إئتيا طوعا أو كرها قالتا أتينا طائعين( فصلت:11)
(4) يوم نطوي السماء كطي السجل للكتب كما بدأنا أول خلق نعيده وعدا علينا إنا كنا فاعلين( الأنبياء:104)
(5) يوم تبدل الأرض غير الأرض والسماوات وبرزوا لله الواحد القهار( إبراهيم:48)
وهذه الآيات الكريمات تشير الي أن الكون الذي نحيا فيه يتسع باستمرار, وإذا عدنا بهذا الاتساع الي الوراء مع الزمن فلابد أن يتكدس علي هيئة جرم واحد( مرحلة الرتق), وهذا الجرم الابتدائي انفجر بأمر من الله( مرحلة الفتق), فتحول الي غلالة من الدخان( مرحلة الدخان), خلقت منه الأرض والسماوات( مرحلة الإتيان), وأن الكون منذ لحظة انفجاره في توسع مستمر, وأن هذا التوسع سوف يتوقف في المستقبل الذي لا يعلمه إلا الله, بأمر منه( تعالي), فيبدأ الكون في الانطواء علي ذاته, والتكدس في جرم واحد كهيئة الجرم الابتدائي الأول, الذي بدأ منه خلق السماوات والأرض, فتتكرر عملية الانفجار والتحول الي الدخان الذي تخلق منه أرض غير أرضنا الحالية, وسماوات غير السماوات التي تظللنا في الحياة الدنيا, وهنا تنتهي رحلة الحياة الدنيا وتبدأ رحلة الآخرة, ومراحل الرتق والفتق والدخان, والاتيان بالسماوات والأرض, وتوسع السماء ثم طيها تعطينا كليات مراحل الخلق والإفناء والبعث دون الدخول في التفاصيل.
وهذه الحقائق القرآنية لم يستطع الإنسان إدراك شيء منها إلا في أواخر القرن العشرين, مما يؤكد سبق القرآن الكريم للمعارف الإنسانية بأكثر من أربعة عشر قرنا, وهذا وحده مما يشهد للقرآن بأنه لايمكن إلا أن يكون كلام الله الخالق, كما يشهد لخاتم الأنبياء والمرسلين( صلي الله وسلم وبارك عليه وعليهم أجمعين), بأنه كان موصولا بالوحي, معلما من قبل خالق السماوات والأرض, حيث إنه لم يكن لأحد علم بهذه الحقائق الكونية في زمن الوحي, ولا لقرون متطاولة من بعد نزوله, وتشهد هذه الآيات الخمس بدقة الإشارات الكونية الواردة في كتاب الله, وشمولها, وكمالها, وصياغتها صياغة معجزة يفهم منها أهل كل عصر معني من المعاني يتناسب مع المستوي العلمي للعصر, وتظل هذه المعاني تتسع باستمرار مع توسع دائرة المعرفة الإنسانية في تكامل لا يعرف التضاد, وهو من أبلغ صور الإعجاز العلمي في كتاب الله.
بدايات تعرف الإنسان علي ظاهرة توسع الكون
الي مطلع العقد الثاني من القرن العشرين, ظل علماء الفلك ينادون بثبات الكون وعدم تغيره, في محاولة يائسة لنفي الخلق والتنكر للخالق( سبحانه وتعالي) حتي ثبت عكس ذلك بتطبيق ظاهرة دوبلر علي حركة المجرات الخارجة عن مجرتنا, ففي النصف الأول من القرن التاسع عشر, كان العالم النمساوي دوبلر C.Doppler قد لاحظ أنه عند مرور قطار سريع يطلق صفارته فإن الراصد للقطار يسمع صوتا متصلا ذا طبقة صوتية ثابتة, ولكن هذه الطبقة الصوتية ترتفع كلما اقترب القطار من الراصد, وتهبط كلما ابتعد عنه, وفسر دوبلر السبب في ذلك بأن صفارة القطار تطلق عددا من الموجات الصوتية المتلاحقة في الهواء, وأن هذه الموجات تتضاغط تضاغطا شديدا كلما اقترب مصدر الصوت, فترتفع بذلك طبقة الصوت, وعلي النقيض من ذلك, فإنه كلما ابتعد مصدر الصوت تمددت تلك الموجات الصوتية حتي تصل الي سمع الراصد, فتنخفض بذلك طبقة الصوت.
كذلك لاحظ دوبلر أن تلك الظاهرة تنطبق أيضا علي الموجات الضوئية, فعندما يصل الي عين الراصد ضوء منبعث من مصدر متحرك بسرعة كافية, يحدث تغير في تردد ذلك الضوء, فإذا كان المصدر يتحرك مقتربا من الراصد فإن الموجات الضوئية تتضاغط وينزاح الضوء المدرك نحو التردد العالي( أي نحو الطيف الأزرق), وتعرف هذه الظاهرة باسم الزحزحة الزرقاء, وإذا كان المصدر يتحرك مبتعدا عن الراصد, فإن الموجات الضوئية تتمدد وينزاح الضوء المدرك نحو التردد المنخفض( أي نحو الطرف الأحمر من الطيف), وتعرف هذه الظاهرة باسم الزحزحة الحمراء, وقد اتضحت أهمية تلك الظاهرة عندما بدأ الفلكيون في استخدام أسلوب التحليل الطيفي للضوء القادم من النجوم الخارجة عن مجرتنا في دراسة تلك الأجرام السماوية البعيدة جدا عنا.
ففي سنة1914 م أدرك الفلكي الأمريكي سلايفر Slipher أنه بتطبيق ظاهرة دوبلر علي الضوء القادم الينا من النجوم, في عدد من المجرات البعيدة عنا, ثبت له أن معظم المجرات التي قام برصدها تتباعد عنا وعن بعضها البعض بسرعات كبيرة, وبدأ الفلكيون في مناقشة دلالة ذلك, وهل يمكن أن يشير الي تمدد الكون المدرك بمعني تباعد مجراته عنا وعن بعضها البعض بسرعات كبيرة؟
وبحلول سنة1925, تمكن هذا الفلكي نفسه Slipher من إثبات أن أربعين مجرة قام برصدها تتحرك فعلا في معظمها بسرعات فائقة متباعدة عن مجرتنا( سكة التبانة), وعن بعضها البعض.
وفي سنة1929 م تمكن الفلكي الأمريكي الشهير إدوين هبل Edwin Hubble من الوصول الي الاستنتاج الفلكي الدقيق الذي مؤداه: أن سرعة تباعد المجرات عنا تتناسب تناسبا طرديا مع بعدها عنا, والذي عرف من بعد باسم قانون هبل Hubble sLaw
وبتطبيق هذا القانون تمكن هبل من قياس أبعاد العديد من المجرات, وسرعة تباعدها عنا, وذلك بمشاركة من مساعده ملتون هيوماسون Milton Humason
الذي كان يعمل معه في مرصد جبل ولسون بولاية كاليفورنيا, وذلك في بحث نشراه معا في سنة1934 م.