- المحور الديني
- أولاً: التهجد بالليل والاستغفار بالأسحار
- (3) وفي علة تفضيل هذه النافلة على ما سواها عدة أسباب نلخصها فيما يلي:
- وهذه الخيرات كلها تفوت المفرطين في هذه النافلة العظيمة.
- والسحر هو السدس الأخير من الليل.
- يقول الإمام النسفي في تفسيره:
- والاستيقاظ إنما يكون بعد نوم.
يمكن تشوفونة الموضوع طويل بس صدقوني ان قريتوة بتتغير حياتكم ....
المحور الديني
(1) يلفت القرآن الكريم أنظارنا إلى أن من رحمة الله بعباده أن جعل لهم الزمن يتنوع إلى ليل ونهار، وحياتهم تتقلب ما بين ظلام وضياء؛ فهي ليست ليلاً مظلماً دائماً، ولا نهاراً مضيئاً دائماً.
يقول رب العزة: "قل أرأيتم إن جعل الله عليكم الليل سرمداً إلى يوم القيامة من إله غير الله يأتيكم بضياء أفلا تسمعون. قل أرأيتم إن جعل الله عليكم النهار سرمداً إلى يوم القيامة من إله غير الله يأتيكم بليل تسكنون فيه أفلا تبصرون. ومن رحمته جعل لكم الليل والنهار لتسكنوا فيه ولتبتغوا من فضله ولعلكم تشكرون" (سورة القصص الآيات 71- 73).
(2) وقد رتب الله على هذا التنوع الصلوات المفروضة، بحيث يستقبل المرء يومه بالصلاة، ويختمه أيضاً بالصلاة، وبين الاستقبال والختام يجدد العبد لقاءه بربه كلما اجتذبته شئون الحياة، هذا إلى جانب ما رغب فيه الإسلام من الإكثار من نوافل الصلوات، والمحافظة على ذكر الله في جميع الأوقات.
(3) وفي التناسق والانسجام مع ما وضعه الله في كونه من نظام، بحيث يكون الليل للسكن، والنهار للسعي مع المحافظة على التبكير في اليقظة والمنام؛ كل هذا يتيح للإنسان الفرصة لاغتنام ألوان من الطاعات تزكو بها نفسه، وتسمو بها روحه، لم تكن لتتحقق دون مراعاة هذا الترتيب، ومن هذه الطاعات:
أولاً: التهجد بالليل والاستغفار بالأسحار.
ثانياً: صلاة الصبح في موعدها.
ثالثاً: ذكر الله بعد صلاة الصبح وحتى طلوع الشمس.
وفيما يلي نتعرف على كل واحدة منها، وعلاقة التبكير بالنوم واليقظة في تحصيلها، ودور السهر في تفويت المنفعة بها وتضييعها.
أولاً: التهجد بالليل والاستغفار بالأسحار
(1) رغب الإسلام في الإكثار من نوافل الطاعات، وجعل ذلك دليلاً على محبة الله لعبده، ففي الحديث: "من عادى لي ولياً فقد آذنته بالحرب، وما تقرب إلي عبدي بشيء أحب إلي مما افترضت عليه، وما يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه.. " (أخرجه البخاري ج24 ص 129، وأخرجه أحمد بنحوه ج6 ص256).
وقد علل العلماء لكون المحبة تحصل بالإكثار من النوافل؛ أن الذي يؤدي الفرض قد يفعله خوفاً من العقوبة، والذي يزيد على أدائه للفرائض فعل النوافل؛ إنما يدفعه إليه مزيد من الحب لربه، ورغبته في تحصيل الثواب منه، فيجازى بجزاء من جنس عمله (انظر فتح الباري ج24 ص 139).
(2) وقد جعل الإسلام لكل طاعة من الطاعات نوافل من جنسها، فللصلاة نوافلها، وللزكاة والصيام نوافلهما.. ألخ. وهذه النوافل تتفاوت في درجة أهميتها ومنزلتها.
ففي نوافل الصلاة تعلمنا السنة النبوية أن صلاة الليل هي أفضل نوافل الصلاة على الإطلاق، ففي الحديث: "أفضل الصيام بعد رمضان شهر الله المحرم، وأفضل الصلاة بعد الفريضة صلاة الليل" (أخرجه مسلم ج2 ص 812، وأخرجه أبو داود بنحوه ج1 ص 615، وأخرجه الترمذي ج2 ص 301، وأخرجه النسائي ج3 ص 168، وأخرجه أحمد ج2 ص 344).
ويقول الصحابي الجليل عمرو بن العاص رضي الله عنه: "ركعة بالليل خير من عشر بالنهار" (لطائف المعارف فيما لمواسم العام من الوظائف ص36- ابن رجب الحنبلي).
(3) وفي علة تفضيل هذه النافلة على ما سواها عدة أسباب نلخصها فيما يلي:
(أ) أن الصلاة بالليل يتواطأ فيها القلب مع اللسان، فيكون المرء في صلاة الليل أكثر تدبراً
والقرآن الكريم يشير إلى هذا المعنى في قوله: "يا أيها المزمل. قم الليل إلا قليلاً. نصفه أو انقص منه قليلاً. أو زد عليه ورتل القرآن ترتيلاً. إنا سنلقي عليك قولاً ثقيلاً. إن ناشئة الليل هي أشد وطئاً وأقوم قيلاً" (سورة المزمل الآيات 1- 6).
(ب) في أوقات الليل (وبخاصة قرب الفجر) هي أفضل الأوقات التي تفتح فيها أبواب السماء، ويتجلى الله فيها على عباده، مما يجعل الصلاة والدعاء وغيرها في هذا الوقت أفضل من أي وقت آخر، ففي الحديث الشريف: "ينزل ربنا تبارك وتعالى كل ليلة إلى السماء الدنيا حين يبقى ثلث الليل الأخير ويقول: من يدعوني فأستجيب له؟ من يسألني فأعطيه؟ من يستغفرني فأغفر له؟" (أخرجه البخاري ج1 ص 200، وأخرجه أبو داود ج2 ص 585، وأخرجه الترمذي ج5 ص 526، وأخرجه أحمد ج1 ص388).
وقال عليه الصلاة والسلام: "أقرب ما يكون الرب من العبد في جوف الليل الآخر، فإن استطعت أن تكون ممن يذكر الله في تلك الساعة فكن" (أخرجه الترمذي وقال عنه: حسن صحيح ج5 ص 570، والنسائي ج1 ص 224).
(ج) أن صلاة الليل أشق على النفس من سائر النوافل؛ لكونها تقع في الليل الذي هو محل الراحة والدعة؛ فتكون الصلاة وقتئذ لوناً من المجاهدة يتضاعف بسببها الأجر، وتغفر لأجلها الذنوب.
وفي الحديث: "الصوم جنة، والصدقة تطفئ الخطيئة كما يطفئ الماء النار، وصلاة الرجل في جوف الليل" ثم قرأ: "تتجافى جنوبهم عن المضاجع .." حتى بلغ "يعملون" (سورة السجدة الآيتان 16- 17، والحديث أخرجه الترمذي، وقال عنه: حسن صحيح ج5 ص11).
(4) من أجل ذلك (وغيره) أمر ربنا تبارك وتعالى في كتابه، ورسولنا في سنته على هذه النافلة العظيمة، وأثنوا على فاعليها خيراً.
ففي ضرورة المحافظة على هذه النافلة يقول الله تعالى: "إن ربك يعلم أنك تقوم أدنى من ثلثي الليل ونصفه وثلثه وطائفة من الذين معك والله يقدر الليل والنهار علم أن لن تحصوه فتاب عليكم فاقرأوا ما تيسر من القرآن علم أن سيكون منكم مرضى وآخرون يضربون في الأرض يبتغون من فضل الله وآخرون يقاتلون في سبيل الله فاقرأوا ما تيسر منه" (سورة المزمل آية 20).
فقد ذكر الله تعالى أن هناك أفراداً لهم أعذار في عدم القدرة على قيام الليل كله، أو معظمه كالمرضى، أو الساعين في طلب الرزق، أو الغازين في سبيل الله، ومع ذلك فقد أمرهم ربنا بقيام بعض الليل بقوله: "فاقرأوا ما تيسر من القرآن" والمراد بالقراءة هنا قيام الليل، من باب تسمية الشيء باسم جزئه.
وفي مدح المحافظين على هذه النافلة العظيمة جاء قوله تعالى في وصف عباد الرحمن: "وعباد الرحمن الذين يمشون على الأرض هوناً وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاماً. والذين يبيتون لربهم سجداً وقياماً" (سورة الفرقان الآية 63، 64).
ويمتدح المتقين من عباده بقوله: "إن المتقين في جنات وعيون. آخذين ما آتاهم ربهم إنهم كانوا قبل ذلك محسنين. كانوا قليلاً من الليل ما يهجعون. وبالأسحار هم يستغفرون" (سورة الذاريات الآيات 15- 18).
ونفى الله المساواة بين من يحيون ليلهم بالصلاة والذكر، ومن هم في غفلة، فقال تعالى: "أمن هو قانت آناء الليل ساجداً وقائماً يحذر الآخرة ويرجو رحمة ربه قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون.. " (سورة الزمر الآية 9).
وأما السنة: فقد جاء الأمر فيها بالمحافظة على هذه النافلة في نحو قوله صلى الله عليه وسلم: "أيها الناس أفشوا السلام، وأطعموا الطعام، وصلوا بالليل والناس نيام، تدخلوا الجنة بسلام" (أخرجه الترمذي، وصححه ج4 ص652، وأخرجه ابن ماجة ج2 ص 1083، وأخرجه أحمد ج5 ص 451).
وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: تذكرت قيام الليل، فقال بعضهم: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: نصفه، ثلثه، ربعه، فواق حلب ناقة، فواق حلب شاة (ذكره الهيثمي في مجمع الزوائد ج2 ص 252 وقال عنه: رواه أبو يعلى، ورجاله رجال الصحيح.
والأحاديث التي وردت بهذا الشأن كثيرة، وما ذكرنا فيه كفاية حتى لا نخرج عن موضوعنا الرئيسي.
(5) ومن ثم فقد حرص النبي صلى اله عليه وسلم على المواظبة على تلك الطاعة حياته كلها، حتى لم يكن يدعها أثناء مرضه.
فعن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها قالت لعبد الله بن أبي قيس: لا تدع قيام الليل، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان لا يدعه، وكان إذا مرض أو كسل صلى قاعداً (أخرجه أبو داود ج1 ص 329، وأخرجه أحمد ج1 ص 249).
وبلغ اجتهاده فيها صلى الله عليه وسلم حداً جعل قدميه تتورمان من طول القيام، فعن المغيرة بن شعبة رضي الله عنه قال: قام النبي صلى الله عليه وسلم حتى تورمت قدماه، فقيل له: غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر. قال: "أفلا أكون عبداً شكوراً ؟" (أخرجه البخاري واللفظ له ج3 ص 189).
(6) في الوقت نفسه حرص رسول الله صلى الله عليه وسلم على أن ينقل هذا الاهتمام إلى جميع أفراد الأمة.
فها هو صلى الله عليه وسلم يمر على ابنته السيدة فاطمة وزوجها سيدنا علي رضي الله عنهما ليلاً فيوقظهم ويقول: "ألا تصليان ؟" (أخرجه البخاري ج1 ص 197، وأخرجه مسلم ج1 ص 537).
وقال صلى الله عليه وسلم: "نعم الرجل عبد الله، لو كان يصلي من الليل". قال سالم: فكان عبد الله بعد ذلك لا ينام من الليل إلا قليلاً (أخرجه البخاري ج 1- ص 202).
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "رحم الله رجلاً قام من الليل فصلى وأيقظ امرأته فصلت، فإن أبت نضح في وجهها الماء، ورحم الله امرأة قامت من الليل فصلت وأيقظت زوجها، فإن أبى نضحت في وجهه الماء" (أخرجه أبو داود ج1 ص 330).
وعن أبي سعيد الخدري، وأبي هريرة رضي الله عنهما قالا: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من استيقظ من الليل وأيقظ امرأته فصليا ركعتين جميعاً كتبا من الذاكرين الله كثيراً والذاكرات" (نفس المرجع والصفحة).
(7) وقد أثمرت هذه التوجيهات ثمرتها في مجتمع المسلمين، فلم يخل عصر أو مصر من عباد لله تعالى يتنافسون في تحصيل هذه الفضيلة.
يقول الفضيل بن عياض رضي الله عنه: (أدركت أقواماً يستحيون من الله في سواد الليل من طول الهجعة، إنما هو على الجنب، فإذا تحرك قال: ليس هذا لك، قومي خذي حظك من الآخرة) (صفة الصفوة ج2 ص 241).
(8) فإذا لم يوفق المسلم لأداء هذه النافلة فقد حرم نفسه من خير كثير في الدنيا والآخرة، واستحق على ذلك الذم، ووصف بما لا يليق ومنزلة الإنسان الذي فضله الله على سائر المخلوقات.
ففي الدنيا ينعم على قوام الليل بنعم كثيرة تتمثل في نضرة الوجه، وشرح الصدر، وجلب العافية للبدن، هذا إلى جانب ما يمنحه الله لهم من رفعة في الدرجات وتكفير للسيئات، ففي الحديث: "عليكم بقيام الليل؛ فإنه دأب الصالحين قبلكم، وإن قيام الليل قربة إلى الله، ومنهاة عن الإثم، وتكفير للسيئات، ومطردة للداء عن الجسد" (أخرجه الترمذي بسنده عن بلال، وبسند آخر أصح منه عن أبي امامة).
وسئل الإمام الحسن البصري: ما بال المتهجدين بالليل من أحسن الناس وجوهاً؟
فأجاب قائلاً: لأنهم خلوا بالرحمن فألبسهم نوراً من نوره. (إحياء علوم الدين ج4 ص 636).
فإذا كانت الآخرة ظهرت ثمرات قيام الليل فيما أعده الله لأصحابه من نعيم مقيم، وذلك بصورة تفوق سائر أعمال الطاعات، كما ورد عن بعض العارفين أنه رؤي بعد وفاته في المنام فسئل، فقيل: ماذا فعل الله بك؟ وقد كان من مشاهير العلماء.
فأجاب قائلاً: طاشت العلوم وضاعت تلك الرسوم، ولم ينفعنا إلا ركعات كنا نركعها بالليل.
وهذه الخيرات كلها تفوت المفرطين في هذه النافلة العظيمة.
ومع فوات هذا الخير ينالهم الذم، ويوصفون بالتقصير؛ فقد ورد في الصحيحين من حديث عبد الله رضي الله عنه قال: ذكر عند رسول الله صلى الله عليه وسلم رجل نام ليلة حتى أصبح، فقال عليه الصلاة والسلام: "ذاك رجل بال الشيطان في أذنيه" أو قال: "في أذنه"(أخرجه البخاري ج1 ص 200، وأخرجه مسلم واللفظ له ج1 ص 537).
والمراد بقوله: "بال الشيطان في أذنيه" أي سخر الشيطان منه وظهر عليه وتحكم فيه، حتى نام عن طاعة الله عز وجل، وخصت الآذان بالذكر؛ لأنها حاسة الانتباه (انظر شرح النووي على صحيح مسلم ج 6 ص 64).
وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن الله يبغض كل جعظري جواظ، (الجعظري هو الفظ الغليظ المتكبر، والجواظ: الجموع المنوع- هكذا في النهاية مادة (جعظ) ومادة (جوظ)).
"سخاب في الأسواق (سخاب في الأسواق: السخاب والصخب بمعنى الصياح- هكذا في النهاية مادة 0سخب)).
"جيفة بالليل، حمار بالنهار، عالم بالدنيا، جاهل بالآخرة" (أخرجه البيهقي، وصححه الألباني في صحيح الجامع الصغير ج1 ص 144).
وهو تشبيه منفر لأولئك الذين يستغرقون كل طاقتهم في العمل لأجل الدنيا، فإذا جن عليهم الليل استلقوا على فراشهم كالأموات، ولا يكادون يستفيقون إلا مع شمس اليوم التالي لتدور بهم طاحونة الحياة من جديد.
وقال الفضيل بن عياض رضي الله عنه: (إذا لم تقدر على قيام الليل وصيام النهار، فاعلم أنك محروم) (إحياء علوم الدين ج4 ص 636).
(9) لأجل ذلك لا نعجب أن يُطلق الدعاة على التهجد بالليل مدرسة الليل، هذه المدرسة التي يتدرب فيها المسلم عملياً على إخلاص العمل لله، ومجاهدة النفس في تحصيل مرضاته، وبلوغ أقصى درجات السعادة بالتضرع إليه ومناجاته، كما تعبر عن ذلك أقوال أهل تلك المدرسة والمنتسبين إليها.
يقول أبو سليمان الدارني رضي الله عنه: (أهل الليل في ليلهم ألذ من أهل اللهو في لهوهم، ولولا الليل ما أحببت البقاء في الدنيا) (إحياء علوم الدين ج4 ص 641) لأبي حامد الغزالي).
وقيل لحسان بن أبي سنان في مرضه الذي مات فيه: ما تشتهي؟ قال: (ليلة شاتية طويلة أحيي ما بين طرفيها في عبادة الله) (انظر حلية الأولياء لأبي نعيم الأصبهاني ج3 ص 117).
ولولا خشية الإطالة والخروج عن الموضوع لأتيت على أقوال وأحوال أكثر مما ذكرت، وأحيل من أراد الاستزادة إلى الكتب التي فصلت في هذا الشأن (انظر إحياء علوم الدين لأبي حامد الغزالي، وانظر رهبان الليل للدكتور سيد حسين العفاني، وانظر قيام الليل للشيخ محمد عبد الله الخطيب).
(10) وأما الاستغفار بالأسحار: فإنه يعقب قيام الليل، ولذا ذكره الله في إثره في معرض الثناء على المتقين، فقال تعالى: "إن المتقين في جنات وعيون. آخذين ما آتاهم ربهم إنهم كانوا قبل ذلك محسنين. كانوا قليلاً من الليل ما يهجعون. وبالأسحار هم يستغفرون" (سورة الذاريات الآيات 15- 18).
والسحر هو السدس الأخير من الليل.
وفي علة استغفار المتقين بالأسحار- رغم الثناء عليهم بأنهم يقومون معظم ليلهم لله ولا ينامون إلا قليلاً- هو شعور هؤلاء المتقين رغم اجتهادهم في طاعتهم لربهم أنهم مقصرون في حق خالقهم، فيبادرون إلى الاستغفار.
يقول الإمام النسفي في تفسيره:
(وصفهم بأنهم يحيون الليل متهجدين، فإذا أسحروا أخذوا في الاستغفار كأنهم أسلفوا في ليلهم الجرائم) (تفسير النسفي ج4 ص 184).
كما ورد الثناء على المستغفرين بالأسحار في آية أخرى من كتاب الله تعالى في سياق الحديث عمن خصهم الله تعالى بالنعيم المقيم في الآخرة، وفي ذلك يقول ربنا: "الصابرين والصادقين والقانتين والمنفقين والمستغفرين بالأسحار" (سورة آل عمران آية 17).
(11) إن الأسحار (كما ورد في كثير من الأحاديث) هي أفضل الأوقات التي تستجاب فيها الدعوات، وتهبط فيها الرحمات، وتكثر فيها النفحات.
وقد مر بنا قول النبي صلى الله عليه وسلم: "أقرب ما يكون الرب من العبد في جوف الليل الآخر، فإن استطعت أن تكون ممن يذكر الله في تلك الساعة فكن" (سبق تخريجه).
وفي الدلالة على هذا المعنى أيضاً سئل رسول الله صلى الله عليه وسلمك أي الدعاء أسمع؟ قال: "جوف الليل الآخر، ودبر الصلوات المكتوبات" (أخرجه الترمذي وحسنه ج5 ص 526).
وقال الإمام سفيان الثوري رحمه الله. (إن الله تعالى خلق ريحاً تهب بالأسحار، تحمل الأذكار والاستغفار إلى الملك الجبار) (رسالة أيها الولد ص 114 لأبي حامد الغزالي).
وتحدث الإمام الجليل شمس الدين ابن القيم في كتابه 0مدارج السالكين) (المرجع المذكور ج3 ص 13). عن منزلة المحبة بين العبد وربه، وبعد أن ساق كلاماً طيباً في أهمية تلك المنزلة، وتنافس الصالحين فيها، بين الأسباب الجالبة لتلك المحبة، فكان فيما قال: (الثامن (أي من تلك الأسباب): الخلوة بالله تعالى وقت النزول الإلهي (ورد في حديث سبق ذكره أن هذا النزول الإلهي يكون في الثلث الأخير من الليل) لمناجاته وتلاوة كلامه، والوقوف بالقلب، والتأدب بأدب العبودية بين يديه، ثم ختم ذلك بالاستغفار والتوبة).
(12) لأجل ذلك اغتنم الطائعون هذه الأوقات، وربما ادخروا بعض ما يريدون سؤاله لله ليقع منهم في هذه الساعات المباركة.
ففي الدلالة على الشق الأول ورد أن الصحابي الجليل عبد الله بن عمر رضي الله عنهما كان يصلي من الليل، ثم يقول: يا نافع هل أسحرنا؟ فإذا قال: نعم، أقبل على الدعاء والاستغفار حتى يصبح (تفسير ابن كثير ج1 ص 3535).
ولئن كانت هذه حادثة عين تخص صحابياً جليلاً هو عبد الله بن عمر رضي الله عنهما، فإن الثابت في حق غيره من الصحابة أنهم كانوا كذلك حريصين على نفس الترتيب، حتى قيل في وصفهم:
(كانوا رهباناً بالليل، فرساناً بالنهار)، وكان دوي القرآن يسمع من بيوتهم في ظلمة الليل كدوي النحل، وقد قال الصحابي الجليل أنس بن مالك رضي الله عنه: (كنا نؤمر إذا صلينا من الليل أن نستغفر في آخر السحر سبعين مرة) (نفس المرجع السابق والصفحة).
ففي قوله: (كنا) بالجمع يدل على أن هذا لم يكن ترتيباً يخص فرداً أو أفراداً قليلين، بل كان سلوكاً عاماً في حياتهم.
وفي الدلالة على الشق الثاني؛ ورد أن نبي الله يعقوب عليه السلام لما قال له بنوه: "يا أبانا استغفر لنا ذنوبنا إنا كنا خاطئين" قال لهم: "سوف أستغفر لكم ربي إنه هو الغفور الرحيم" (سورة يوسف الآيتان 97، 98).
قيل في سبب تأخيره الاستغفار لهم أنه أخرهم إلى وقت السحر (تفسير ابن كثير ج1 ص 353).
(13) فإذا لم يبادر المسلم إلى اغتنام هذه الأوقات بالصلاة والدعاء والذكر والاستغفار فهو من الغافلين المحرومين.
يقول الإمام سفيان الثوري رحمه الله: (بلغني أنه إذا كان أول الليل نادى مناد: ليقم القانتون، فيقومون كذلك يصلون إلى السحر. فإذا كان عند السحر نادى مناد: أين المستغفرين؟ فيستغفر أولئك، ويقوم آخرون فيصلون، فيلحقون بهم. فإذا طلع الفجر نادى مناد: ألا ليقم الغافلون، فيقومون من فرشهم كالموتى نشروا من قبورهم) (تفسير القرطبي ج3 ص 1281- تفسير سورة آل عمران).
وقال لقمان الحكيم لابنه: (يا بني: لا يكن الديك أكيس منك (أي اعقل)، ينادي بالأسحار وأنت نائم) (المرجع السابق ص 1282).
(14) وبعد أن تعرفنا فيما سبق على فضل التهجد بالليل والاستغفار بالأسحار ننظر في دور التبكير في النوم والإعراض عن السهر في تحصيل هاتين الفضيلتين.
إن التهجد الذي نتحدث عنه لابد وأن يسبقه نوم حتى يصح إطلاق الاسم عليه.
جاء في لسان العرب: (وأما المتهجد فهو القائم إلى الصلاة من النوم، وكأنه قيل له متهجد؛ لإلقائه الهجود عن نفسه) (لسان العرب ج 14 ص 4616 مادة: هجد).
وفي حديث مر ذكره: "من استيقظ من الليل، وأيقظ امرأته فصليا ركعتين جميعاً كتبا من الذاكرين الله كثيراً والذاكرات" سبق تخريجه).
والاستيقاظ إنما يكون بعد نوم.
ومن هدي النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يكره النوم قبل العشاء والحديث بعدها، وأخبرنا بأن أفضل القيام قيام نبي الله داود عليه السلام، وكان ينام نصف الليل، ويقوم ثلثه، وينام سدسه (أخرجه البخاري ج2 ص 250، وأخرجه مسلم ج2 ص 815).
ومن مجموع هذه الروايات وغيرها نرى أن التهجد يسبقه نوم، وأن ثواب التهجد يتضاعف بسبب هجره لذيذ المنام، ووثير الفراش، والوقوف بين يدي الله تبارك وتعالى.
فإذا عرفنا أن حاجة الإنسان إلى النوم ضرورة لا غنى له عنها، رأينا أن تبكير الإنسان منا بالذهاب إلى فراشه يتيح له فرصة بأن ينال جسده حاجته من النوم، فإذا قام كان مقبلاً على طاعته بنشاط واجتهاد.
ذكر أبو نعيم في حلية الأولياء (ج2 ص 299) بسنده عن معاوية بن قرة: أن أباه كان يقول لبنيه إذا صلوا العشاء: (يا بني ناموا، لعل الله أن يرزقكم من الليل خيراً).
وترشدنا السنة إلى ضرورة تنظيم أوقاتنا مع طول الليل أو قصره، بحيث لا نحرم من هذا الخير، ففي الصيف حيث يقصر الليل يستحب أن نستعين بالقيلولة - وهي النوم وقت الظهيرة- على قيام الليل، وأما في الشتاء حيث يطول الليل؛ فإننا بالتبكير في النوم نأخذ قسطاً وافياً لراحة أجسادنا في الليل، وتبقى بقية لا بأس بها نباشر فيها تلك الأعمال، وفي هذا يقول أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه: (الشتاء ربيع المؤمن، طال ليله فقامه، وقصر نهاره فصامه).
أما إذا خالف الإنسان هذا الهدي، وعمد إلى أن يسهر طويلاً، ويسمر مع من حوله إلى أن يمضي وقت طويل من الليل؛ فإن قيامه للتهجد بالليل، واستغفاره بالأسحار؛ من الأمور الصعبة، خاصة إذا كان مطالباً في النهار بعمل يتكسب منه لنفسه ولأولاده.
ولله در سيدنا عمر الذي لاحظ الارتباط الوثيق بين موضوع السهر هذا وتضييع الفضائل المشار إليها، فكان رضي الله عنه يضرب الناس على الحديث بعد العشاء، ويقول: (أسمّرا أول الليل ونوَّما آخره؟ أريحوا كُتابكم) (فتح الباري ج3 ص 267).
يعني: أريحوا الملائكة الذين يحصون أعمالكم، ويكتبونها في صحائفكم.
ويقول الصحابي الجليل عبد الله بن عباس رضي الله عنه: (إنما كره السمر حين نزلت هذه الآية: "مستكبرين به سامراً تهجرون" (سورة المؤمنون آية 67).
يعني أن الله تعالى ذم أقواماً يسمرون في غير طاعة الله تعالى، إما في هذيان، وإما في إذاية) (تفسير القرطبي ص 4529 تفسير سورة المؤمنون).
ومما روي في التشديد على مسألة السهر تلك قول سيدنا عبد الله بن عمر رضي الله عنهما: (من قرض بيت شعر بعد العشاء؛ لم تقبل له صلاة حتى يصبح) (نفس المرجع ص 4530).
ويضاف إلى ما سبق أن الذي يبكر بالنوم يختم يومه بصلاة العشاء، فينام وقد كفرت خطاياه فينام على سلامة، وأما الذي يسمر فإن كلامه لا يخلو من لغو وباطل، وبذلك ينام وقد أضاع ثمرة الصلاة التي صلاها، ما لم يكن سمره في طاعة، كطلب علم، أو مداعبة أهل، أو مؤانسة ضيف، على ألا يكون ذلك دأبه دائماً، ولأن تؤدي هذه الأعمال في النهار، ويُتَّبع هدي النبي صلى الله عليه وسلم في التبكير بالمنام؛ لكان خيراً للمرء في الدنيا والآخرة.
ثانياً: صلاة الصبح في موعدها مع الجماعة
(15) تشير آيات القرآن الكريم وأحاديث النبي الأمين صلى الله عليه وسلم إلى أن الله تبارك وتعالى حين شرع الصلاة حدد لها مواقيتها والمواعيد التي تؤدى فيها.
قال الله تعالى: "إن الصلاة كانت على المؤمنين كتاباً موقوتاً" (سورة النساء آية 103).
وفي إشارة إلى مواعيدها تفصيلاً قال ر