- كأس يتكلم؟! ياللعجب!!
- فردّ الكأس..
قصة كأس..
دخل عبد الرحمن إلى منزله قريباً من أذان العصر بعد عمل يوم شاق، وألقى بنفسه على
أقربكرسي إلى المُكيف، ليناله شيء من نسمات الهواء البارد..
رفع يده بصعوبة لينظر إلى الساعة، ويحسب المدة الباقية على الإفطار..
بقيت ساعتان..
قال في نفسه.. وأخذ يفكر في صنوف الطعام اللذيذة التي ستُعدّها والدته للإفطار، فهي أطباق
مميزة لا يراها إلا في رمضان..
أخذ عبد الرحمن يُجيل بصره في صالة الجلوس، وإذا به يلمح كأس ماء على الطاولة القريبة منه..
كيف لم أرَ هذا الكأس؟؟ ومن أين جاء؟؟
وبحركة لا شعورية مدّ يده إلى الكأس ليتناوله، ثم تذكر فجأة أنه صائم، فتراجع، وعاد واسترخى
على كرسيه ثانية، وهو يشعر أن عطشه الذي كان يشعر به قبل أن يرى الكأس، قد ازداد أضعافاً
مضاعفة..
بدأ عبد الرحمن يشعر بالنعاس يداعب أجفانه، فأغمض عينيه، وعندما شعر أن النوم قد تملكه تماماً، إذا به يسمع هاتفاً يهتف به..
- هيه أنت! لماذا لا تتناولني وتروي ظمأك؟؟
(أخذ عبد الرحمن يتلفت بدهشة يميناً وشمالاً بحثاً عن مصدر الصوت، فلم يكن هناك أحد غيره في الصالة)..
فظن أنه كان واهماً، إلا أن الصوت عاد من جديد..
- أنا هنا من يُكلّمك! ألا تراني؟؟ أنا الكأس!
عقدت المفاجأة لسان عبد الرحمن وهو يحدق بفزع في الكأس، ثم تكلم بعد برهة..
كأس يتكلم؟! ياللعجب!!
فردّ الكأس..
- وما العجب في ذلك؟؟ إن ما تقوم به أنت، لهو أشد غرابة من كوني أتكلم معك الآن..
- ماذا؟؟ وأي شيء يمكن أن يكون أغرب من أن يتكلم الجماد؟؟
- تناقضك العجيب يا عزيزي! تناقضك هو الذي دفعني للتكلم معك..
- تناقض؟؟ عن أي شيء تتحدث أيها الكأس؟؟ أنا لا أفهم..
- حسناً، دعني أشرح لك.. ألم تكن قبل قليل على وشك أن تشرب مني؟؟ ثم امتنعتَ لكونك صائماً؟؟
- أجل هذا صحيح، وما المشكلة في ذلك؟؟
- المشكلة هي أنك يا صديقي، تمتنع عن شرب الماء الزلال الذي أحله الله، ولكنك لا تمتنع عن
الحرام الصريح الذي حرمه الله!! أليس هذا تناقضاً؟؟
- ماذا تقصد أيها الكأس؟؟ لا شك أن الماء حلال حقاً، ولكنه حرام أثناء الصوم كما يعرف كل مسلم..
- جميل جداً!! هذا صحيح، الماء والطعام الطيب حلال للمسلم في كل وقت مالم يكن صائماً؛
ولكن تأخير الصلاة عن وقتها – مثلاً –..
وتفويت صلاة الجماعة من كبائر الذنوب، وهي حرامٌ في كل وقت سواء كنت صائماً أم لا! وأنت كثيراً
ما تنام عن المكتوبة وتفويت الجماعة!
والغيبة أيضاً من كبائر الذنوب..
والنظر إلى مفاتن النساء وصورهن حرام في كل وقت، وأنت تفعله!
وسماع الغناء من المحرمات، وأنت لا تتورع عن ذلك!
أليس عدم امتثالك لأوامر الله بفعلك لكل هذه الأمور المحرمة في كل وقت، مع امتناعك عن الحلال –
امتثالاً لأمره – يُشكل تناقضاً صارخاً يصعب تفسيره؟؟
فإن كنتَ تقول أن الله أمرك بعدم الأكل والشرب أثناء مدة الصوم، فهو كذلك أمرك بعدم تفويت الصلاة
وتأخيرها أثناء حياتك كلها!
ونهاك عن الغيبة، والنظر إلى الحرام، وعن سماع الغناء..
وقل مثل هذا في سائر المحرمات الأخرى التي ترتكبها، فلماذا لا تلتزم بأمر الله هنا كما التزمتَ به هناك؟؟
أم أن الأمر بالمزاج واللعب أيها الصديق؟؟
بدت الحيرة ظاهرة على وجه عبد الرحمن الذي أفحمه منطق الكأس وقوة حجته، فأراد أن يقول
شيئاً يُبرر التناقض في أعماله، ولما لم يجد شيئاً يحتج به قال بتلعثم..
- أيها الكأس الناصح، صدقني أنه بودي أن أكون طائعاً لله في كل أوامره، مجتنباً لكل نواهيه،
ولكنني لا أستطيع! صدقني لقد حاولتُ تغيير حالي إلى الأفضل بترك بعض المعاصي، ولكنني
فشلتُ وعدتُ إليها..
- ها أنت ثانية تناقض نفسك بقولك (لا أستطيع)، لأنك بكل بساطة تستطيع!
ألم تمتنع عن كثير من المحرمات طوال فترة صومك؟؟
- هذا صحيح..
- إذاً فما الذي يمنعك أن تواصل بنفس الطريقة بقية عمرك؟؟
- !!!!
- الحقيقة هي أنك تستطيع، ولكنك تخدع نفسك عندما تصدق حيلة إبليس التي يقنعك بها،
وهي أنك لا تستطيع وبالتالي تجعل من نفسك فريسة لإبليس وإخوانه..
- أيها الكأس، إنني أرى في كلامك الكثير من الحكمة.. ولكن هّلا بيّنتَ لي كيف يمكنني تغيير
حياتي من المعصية إلى الطاعة؟؟
- الأمر يسير إن شاء الله، فقط تذكر أن الله يراك في كل وقت..
يراك عندما تطيعه فيرضى عنك، ويراك حينما تعصيه فيغضب عليك، راقب ربك، وعندها ستجد من
نفسك نشاطاً واندفاعاً نحو الطاعة، لأنك تعلم أنك بعين الله..
وستمتنع عن المعصية، لأنك تعلم اطلاعه عليك وكراهته ذلك منك، وبالتالي ستخاف من أن يسخط
عليك.. وستجد أنك كلما أخطأتَ وأذنبتَ، رجعتَ إلى نفسك فتبتَ واستغفرتَ، وهذا ما يريده الله منك..
إنك اليوم صائم، وإن من أعظم ثمرات الصوم تحصيل تقوى الله عز وجل.. وإذا لم تحصل هذه الثمرة
فلا فائدة ترجوها غير الجوع والعطش..
وباختصار، اعلم يا صديقي أن الدنيا ليست سوى ساعة، فاجتهد أن تجعلها طاعة..
الزم أهل الخير الذين يعينونك على دينك ففي ذلك نجاة لك..
واترك رفقة السوء والبطالة عنك، فليس منهم إلا دمار الدنيا والآخرة..
وتذكر يوم العرض على الله، وأنت لا تدري أتأخذ كتابك باليمين كما هو حال المتقين؟؟ أم تأخذه
بالشمال كحال أهل الخسارة والشقاء؟؟
واختر طريقك من الآن، فمن كان طريقه طريق أهل الخير والصلاح كان مصيره الفوز والفلاح، ومن
اختار طريقاً غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه؛ فليس هناك إلا نارٌ تلظى!
كان عبد الرحمن مطرقاً من التأثر بما يسمع من الكأس، فلما توقف الكأس عن الحديث عند ذلك الحد، رفع عبد الرحمن رأسه وقال..
- أيها الكأس العزيز، لقد عزمتُ أن أغير طريقة حياتي منذ هذه الساعة! فجزاك الله خير الجزاء على
نصيحتك الغالية، فإنني لن أنساها ما حييتُ إن شاء الله..
- لا شكر يا صديقي، ولكن دعني أنبهك أن الوقت قد داهمنا، وأذان العصر قد حان، فقم الآن وابدأ
حياتك الجديدة من المسجد!
وفي هذه اللحظة..
فتح عبد الرحمن عينيه، فوجد كأس الماء كما كان على الطاولة، قام من كرسيه واقترب منه، حمله
بيده، وأخذ يتأمله..
قال عبد الرحمن في نفسه، بينما كان المؤذن يرفع أذان العصر عذباً ندياً..
أنصت عبد الرحمن له وأخذ يردد خلفه..
شعر ببرودة لذيذة تغمر قلبه هو الذي لم يصلّ ِ العصر جماعة منذ مدة..
ترقرقت عيناه بالدمع، توجه نحو المغسلة فتوضأ، ثم انصرف ذاهباً إلى المسجد، وفي طريقه إلى
باب المنزل، لمح عبد الرحمن كأس الماء في طريقه، فابتسم ابتسامة عريضة وهو يقول بصوت
خافت..
- * شكراً لك أيّها الكأس! **
انشالله تعجبكم القصه
جزاكي الله خير
قصة جميلة