اعتقد المصريون القدماء أن يوم شم النسيم هو بداية خلق العالم ، ولأن الحياة في اعتقادهم بدأت في الماء قدسوا أكل الأسماك في يوم إشراق الحياة "شم النسيم" ، وكذلك البصل الذي ارتبط في أساطيرهم القديمة بقدرته علي طرد الأرواح الشريرة ، فالتاريخ يؤكد أن الفراعنة هم أول من احتفل بعيد الربيع المعروف بشم النسيم .وهو واحد من أعياد مصر القديمة ، و يعود الاحتفال به إلى ما يقرب من خمسة آلاف عام ، وقد سمي بهذا الاسم نسبة للكلمة الفرعونية "شمو"، وهي كلمة أصلها هيروغليفي قديم ، ويرمز شم النسيم إلي بعث الحياة .محيط عواطف عبد الحميد :وكانت أعياد الفراعنة ترتبط بالظواهر الفلكية، وعلاقتها بالطبيعة، ومظاهر الحياة؛ ولذلك احتفلوا بعيد الربيع الذي حددوا ميعاده بالانقلاب الربيعي، وهو اليوم الذي يتساوى فيه الليل والنهار وقت حلول الشمس في برج الحمل .ويحل عيد الربيع في الخامس والعشرين من شهر برمهات حسب التقويم القبطي ، وكان قدماء المصريين يحتفلون بذلك اليوم احتفالاً رسمياً كبيراً ، فكانوا يجتمعون أمام الواجهة الشمالية للهرم قبل الغروب ليشهدوا غروب الشمس، فيظهر قرص الشمس وهو يميل نحو الغروب مقتربًا تدريجيًّا من قمة الهرم، حتى يبدو للناظرين وكأنه يجلس فوق قمة الهرم ، و تخترق أشعة الشمس قمة الهرم، فتبدو واجهة الهرم أمام أعين المشاهدين وقد انشطرت إلى قسمين .ويخرج المحتفلون بعيد شم النسيم في جماعات إلى الحدائق والحقول والمتنزهات؛ ليكونوا في استقبال الشمس عند شروقها، وقد اعتادوا أن يحملوا معهم طعامهم وشرابهم، ويقضوا يومهم في الاحتفال بالعيد ابتداء من شروق الشمس حتى غروبها، وكانوا يحملون معهم أدوات لعبهم، ومعدات لهوهم، وآلات موسيقاهم، فتتزين الفتيات بعقود الياسمين (زهر الربيع)، ويحمل الأطفال سعف النخيل المزين بالألوان والزهور، فتقام حفلات الرقص الزوجي والجماعي على أنغام الناي والمزمار و القيثار، ودقات الدفوف، تصاحبها الأغاني والأناشيد الخاصة بعيد الربيع، كما تجري المباريات الرياضية والحفلات التمثيلية .كما أن الاحتفال بالعيد يمتد بعد عودتهم من المزارع والمتنزهات والأنهار إلى المدينة ليستمر حتى شروق الشمس سواء في المساكن حيث تقام حفلات الاستقبال، وتبادل التهنئة أو في الأحياء والميادين والأماكن العامة حيث تقام حفلات الترفيه والندوات الشعبية .ومن ذلك الوقت وإلي الآن والمصريون يحتفلون بعيد شم النسيم يوم الاثنين التالي مباشرة ليوم الأحد الذي يوافق عيد الفصح وفق تقويم الكنيسة القبطية الأرثوذوكسية .وقد تم تحريف الاسم بمرور الزمن حيث أضيفت إليه كلمة "النسيم" لارتباط هذا الفصل باعتدال الجو، وطيب النسيم، وما يصاحب الاحتفال بذلك العيد من الخروج إلى الحدائق والمتنزهات والاستمتاع بجمال الطبيعة .فسيخ وبيض وحمصومن أهم الأطعمة التي يتناولها الناس في هذا اليوم والتي لازالت قائمة إلي الآن ، البيض، والفسيخ (السمك المملح)، والخَسُّ، والبصل، و الملانة (الحُمُّص الأخضر)، وهي أطعمة مصرية ذات مدلول لدي المصريين القدماء. فمثلاً البيض يرمز لدي قدماء المصريين إلى خلق الحياة من الجماد، وقد صوَّرت بعض برديات منف الإله "بتاح" إله الخلق عند الفراعنة وهو يجلس على الأرض على شكل البيضة التي شكلها من الجماد ، فقد كانوا ينقشون على البيض دعواتهم وأمنياتهم للعام الجديد، ويضعون البيض في سلاسل من سعف النخيل يعلقونها في شرفات المنازل أو في أغصان الأشجار؛ لتحظى ببركات نور الإله عند شروقه فيحقق أمنياتهم . . . . تابع
وقد تطورت هذه النقوش فيما بعد لتصبح لونًا من الزخرفة الجميلة والتلوين البديع للبيض ، حيث يعتبر البيض الملون مظهراً من مظاهر الاحتفال بعيد شم النسيم، ومختلف أعياد الفصح والربيع في العالم أجمع، واصطلح الغربيون على تسمية البيض (بيضة الشرق) .وبدأ ظهور البيض على مائدة أعياد الربيع - شم النسيم- مع بداية العيد الفرعوني نفسه أو عيد الخلق حيث كان البيض يرمز إلى خلق الحياة ، كما ورد في متون كتاب الموتى وأناشيد (اخناتون الفرعوني) ، وهكذا بدأ الاحتفال بأكل البيض كأحد الشعائر المقدسة التي ترمز لعيد الخلق، أو عيد شم النسيم عند الفراعنة . أما فكرة نقش البيض وزخرفته، فقد ارتبطت بعقيدة قديمة أيضاً؛ إذ كان الفراعنة ينقشون على البيض الدعوات والأمنيات ويجمعونه أو يعلقونه في أشجار الحدائق حتى تتلقى بركات نور الإله عند شروقه - بحسب زعمهم - فيحقق دعائهم و يبدأوا العيد بتبادل التحية (بدقة البيض)، وهي العادات التي ما زال أكثرها متوارثاً إلى الآن .أما عادة تلوين البيض بالألوان الزاهية وهو التقليد المتبع في أغلب أنحاء العالم فقد بدأ في فلسطين بعد زعم النصارى صلب اليهود للمسيح - عليه السلام - الذي سبق موسم الاحتفال بالعيد، فأظهر النصارى رغبتهم في عدم الاحتفال بالعيد؛ حداداً على المسيح، وحتى لا يشاركون اليهود أفراحهم . ولكن أحد القديسين أمرهم بأن يحتفلوا بالعيد تخليداً لذكرى المسيح وقيامه، على أن يصبغوا البيض باللون الأحمر ليذكرهم دائماً بدمه الذي سفكه اليهود .وهكذا ظهر بيض شم النسيم لأول مرة مصبوغاً باللون الأحمر، ثم انتقلت تلك العادة إلى مصر وحافظ عليها الأقباط بجانب ما توارثوه من الرموز والطلاسم والنقوش الفرعونية .ومنهم انتقلت عبر البحر الأبيض إلى روما، وانتشرت في أنحاء العالم الغربي المسيحي في أوربا وأمريكا، وقد تطورت تلك العادة إلى صباغة البيض بمختلف الألوان التي أصبحت الطابع المميز لأعياد شم النسيم والفصح والربيع حول العالم .كما بدأ أكل الفسيخ في شم النسيم في عهد الأسرة الخامسة، مع بدء الاهتمام بتقديس النيل "نهر الحياة" (الإله حعبى) عند الفراعنة الذي ورد في متونه المقدسة عندهم أن الحياة في الأرض بدأت في الماء ويعبر عنها بالسمك الذي تحمله مياه النيل من الجنة حيث ينبع -حسب زعمهم-. وقد أظهر المصريون القدماء براعة شديدة في حفظ الأسماك وتجفيفها وصناعة الفسيخ .وقد كان للفراعنة عناية بحفظ الأسماك، وتجفيفها وتمليحها وصناعة الفسيخ والملوحة واستخراج البطارخ - كما ذكر هيرودوت ذلك المؤرخ الإغريقي الذي اعتنى بتواريخ الفراعنة والفرس،وقال عنهم: "إنهم كانوا يأكلون السمك المملح في أعيادهم، ويرون أن أكله مفيد في وقت معين من السنة، وكانوا يفضلون نوعاً معيناً لتمليحه وحفظه للعيد، أطلقوا عليه اسم (بور) وهو الاسم الذي حور في اللغة القبطية إلى (يور) وما زال يطلق عليه حتى الآن .الأرواح الشريرةو يعد البصل من أهم الأطعمة التي حرص المصريون القدماء على تناولها في تلك المناسبة ، ذلك لأنه ارتبط في عقيدتهم بإرادة الحياة وقهر الموت والتغلب على المرض ، فكانوا يعلقون البصل في المنازل وعلى الشرفات، كما كانوا يعلقونه حول رقابهم، ويضعونه تحت الوسائد، وما زالت تلك العادة منتشرة بين كثير من المصريين حتى اليوم . . . . تابع
ظهر البصل ضمن أطعمة عيد شم النسيم في أواسط الأسرة الفرعونية السادسة وقد ارتبط ظهوره بما ورد في إحدى أساطير منف القديمة التي تروى أن أحد ملوك الفراعنة كان له طفل وحيد، وكان محبوباً من الشعب، وقد أصيب الأمير الصغير بمرض غامض عجز الأطباء والكهنة والسحرة عن علاجه، وأقعد الأمير الصغير عن الحركة، ولازم الفراش عدة سنوات، امتُنِع خلالها عن إقامة الأفراح والاحتفال بالعيد مشاركة للملك في أحزانه .وكان أطفال المدينة يقدمون القرابين للإله في المعابد في مختلف المناسبات ليشفى أميرهم، واستدعى الملك الكاهن الأكبر لمعبد آمون، فنسب مرض الأمير الطفل إلى وجود أرواح شريرة تسيطر عليه، وتشل حركته بفعل السحر .وأمر الكاهن بوضع ثمرة ناضجة من ثمار البصل تحت رأس الأمير في فراش نومه عند غروب الشمس بعد أن قرأ عليها بعض التعاويذ، ثم شقها عند شروق الشمس في الفجر ووضعها فوق أنفه ليستنشق عصيرها .كما طلب منهم تعليق حزم من أعواد البصل الطازج فوق السرير وعلى أبواب الغرفة وبوابات القصر لطرد الأرواح الشريرة .وتشرح الأسطورة كيف تمت المعجزة وغادر الطفل فراشه، وخرج ليلعب في الحديقة وقد شفى من مرضه الذي يئس الطب من علاجه، فأقام الملك الأفراح في القصر لأطفال المدينة بأكملها، وشارك الشعب في القصر في أفراحه، ولما حل عيد شم النسيم بعد أفراح القصر بعدة أيام قام الملك وعائلته، وكبار رجال الدولة بمشاركة الناس في العيد، كما قام الناس -إعلاناً منهم للتهنئة بشفاء الأمير- بتعليق حزم البصل على أبواب دورهم، كما احتل البصل الأخضر مكانه على مائدة شم النسيم بجانب البيض والفسيخ .ومن الجدير بالذكر أن تلك العادات التي ارتبطت بتلك الأسطورة القديمة سواء من عادة وضع البصل تحت وسادة الأطفال، وتنشيفهم لعصيره، أو تعليق حزم البصل على أبواب المساكن أو الغرف أو أكل البصل الأخضر نفسه مع البيض والفسيخ ما زالت من العادات والتقاليد المتبعة إلى الآن في مصر وفي بعض الدول التي تحتفل بعيد شم النسيم أو أعياد الربيع .أما الخَسُّ فهو من النباتات المفضلة في ذلك اليوم، وقد عُرِف منذ عصر الأسرة الفرعونية الرابعة، وكان يُسَمَّى بالهيروغليفية "عب"، واعتبره المصريون القدماء من النباتات المقدسة. كان الخس من النباتات التي تعلن عن حلول الربيع باكتمال نموها ونضجها، وقد عرف ابتداء من الأسرة الفرعونية الرابعة حيث ظهرت صوره من سلال القرابين التي يقربونها لآلتهم من دون الله -تعالى- بورقه الأخضر الطويل وعلى موائد الاحتفال بالعيد، وكان يسمى الهيروغليفية (حب) كما اعتبره الفراعنة من النباتات المقدسة الخاصة بالمعبود (من) إله التناسل، ويوجد رسمه منقوشاً دائماً تحت أقدام الإله في معابده ورسومه -تعالى الله عن إفكهم وشركهم .الحمص أو الملانةوهي ثمرة الحمص الأخضر، وأطلق عليه الفراعنة اسم (حور - بيك) أي رأس الصقر لشكل الثمرة التي تشبه رأس حور الصقر المقدس عندهم .وكان للحمص -كما أن للخس- الكثير من الفوائد والمزايا التي ورد ذكرها في بردياتهم الطبية .وكانوا يعتبرون نضج الثمرة وامتلاءها إيذاناً بميلاد الربيع ، وهو ما أخذ منه اسم الملانة أو الملآنة.وكانت الفتيات يصنعن من حبات الملانة الخضراء عقوداً، وأساور يتزين بها في الاحتفالات بالعيد، كما يقمن باستعمالها في زينة الحوائط ونوافذ المنازل في الحفلات المنزلية .عيد القيامة وشم النسيموعندما دخلت المسيحية مصر جاء "عيد القيامة" موافقًا لاحتفال المصريين بعيدهم، فكان احتفال النصارى بعيد الفصح - أو "عيد القيامة" - في يوم الأحد، ويليه مباشرة عيد "شم النسيم" يوم الاثنين، وذلك في شهر "برمودة" من كل عام . . . . تابع
واستمر الاحتفال بهذا العيد تقليدًا متوارثًا تتناقله الأجيال عبر الأزمان والعصور، يحمل ذات المراسم والطقوس، وذات العادات والتقاليد التي لم يطرأ عليها أدنى تغيير منذ عصر الفراعنة وحتى الآن ، فهي نفس العادات التي ما زال يمارسها المصريون حتى اليوم .سحر الزهوروتزخر مقابر مدينة الأقصر الأثرية الفرعونية بالصور المرسومة على جدرانها لصاحب المقبرة وهو يشق طريقه في قارب وسط المياه المتلألأة بينما تمد ابنته يدها لتقطف زهرة لوتس. وكانت أعواد اللوتس تقدم ملفوفة حول باقات مشكلة من نبات البردي ونباتات أخرى. كما تشكل باقات الورود اليوم كما ترى أعمدة المعابد الفرعونية مزخرفة في طراز "لوتسي" يحاكي باقات براعم الزهور. وقد صور المصريون أنفسهم على جدران مقابرهم ومعابدهم وهم يشمون الأزهار في خشوع يرجع بعضه إلى الفرحة ويوحي بسحر الزهور لديهم .وقد اهتم المصريون القدماء بزهرة اللوتس وخصصوا لها مكانة كبيرة لدى قدماء المصريين فكانوا يطلقون عليها اسم الجميل. وكان المصري يقضي أكثر الأوقات بهجة في فصل الربيع وكانوا في ذلك الفصل يحرصون على ارتداء الملابس الشفافة ويهتمون بتصفيف شعورهم ويزيدون من استخدام العطور و الأدهنة لإظهار مفاتنهم. وهكذا كانت وستظل عودة الربيع التي تتميز بتفتح الزهور تقابل دائما بفرح وترحاب من المصريين العامة والخاصة علي مر العصور .يذكر أن قدماء المصريون اعتادوا الاحتفال بالأعياد للخروج من حدود حياتهم الضيقة إلى عالم رحب يهيج . وقد سجلت نقوش ونصوص معابد مدينة هابو الشهيرة غرب الأقصر طقوس وأحداث 282 عيدا عرفتها مصر القديمة عبر الزمان .ويرجع بدء احتفال الفراعنة بذلك العيد رسمياً إلى عام 2700 ق.م أي في أواخر الأسرة الفرعونية الثالثة، ولو أن بعض المؤرخين يؤكد أنه كان معروفاً ضمن أعياد هيليوبوليس ومدينة (أون) وكانوا يحتفلون به في عصر ما قبل الأسرات .وقد أخذ كثير ممن يحتفلون بأعياد الربيع في دول الغرب والشرق كثيراً من مظاهر يوم شم النسيم ونقلوها في أعيادهم الربيعية .عطور الطبيعة ومن بين تقاليد شم النسيم الفرعونية القديمة التزين بعقود زهور الياسمين وهو محرف من الاسم الفرعوني القديم (ياسمون) وكانوا يصفون الياسمين بأنه عطر الطبيعة التي تستقبل به الربيع، وكانوا يستخرجون منه في موسم الربيع عطور الزينة وزيت ال
بخور الذي يقدم ضمن قرابين المعابد عند الاحتفال بالعيد .وفي الربيع تغني الشعراء كثيراً وقالوا كلاماً أصفي من الأديم وأرق من النسيم ولعل من أجمل ما نذكره من الشعر العربي ما قاله لنا البحتري مصوراً الحياة في عيد الربيع في مشهد بديع :أتاك الربيع الطلق يختال ضاحكامن الحسن حتى كاد ان يتكلماوقد نبه النيروز في غسق الدجىاوائل ورد كن بالأمس نومايفتقها برد الندى فكأنهيبث حديثا كان قبل مكتمافمن شجر رد الربيع لباسهعليه كما نشرت وشيا منمنماورق نسيم الريح حتى حسبتهيجيء بأنفاس الأحبة نعما