- أم العيال لا تزال نائمة.
- لاتظنوا أن حبيبتي مهملة...
- أعددتُ لها كأسا من الماء الدافئ الممزوج بالكمون...
- افتتحتُ سورة البقرة... واستعنت بالله... وبدأتُ العمل...
- سمعتُ صوت الماء في الحمام...
قصه قرأتها وأحببت أن أنقلها لكم
أتمنى أن تنال أعجابكم
.
.
.
.
.
.
.
استيقظتُ مبكرا... كالعادة.
أم العيال لا تزال نائمة.
سحبتُ يدها من تحت عنقي برفق...أثار انتباهي أن رؤوس أناملها اليسرى مطبوعة ٌ بشقوق خفيفة يصبغها اسوداد باهت...
سامحك الله يا أم فاطمة... كم مرة انتزعتُ حبة البصل من يدك... وأخرجتُ لوح التقطيع من صوان المطبخ... ما اشتريتُ اللوح إلا لكي تحافظي على تلك الأنامل الحبيبة إلى قلبي...لكن النفوس تأبى أن تقلع عن عاداتها...
تأملتُ وجهها...لا أصباغ... لا كحل... الشعر منكوش... والاصفرار الناتج عن الحيض... تعجبت من نفسي.... أي سحر ذاك الذي جعل هذه المرأة في عيني... ويا سبحان الله... أجمل نساء الدنيا... شعرة منها أحب إلي من كل زهور العالم؟؟؟!!!
الحب الحقيقي شيء آخر غير الهوس الجسدي المادي...
تسللتُ من اللحاف بهدوء حتى لا أوقظ الحبيبة النائمة...
دلفتُ إلى المطبخ... صحون العَشاء لا زالت متراكمة بعضها فوق بعض تستجدي من يغسلها...
لاتظنوا أن حبيبتي مهملة...
حبيبتي أنظف امرأة رأتها عيني... لكنها كائن إنساني... ليس لها أكثر من يدين... بشر جعل الله لقوته حدا لا يستطيع أن يتجاوزه حتى ولو كان حريصا على ذلك.
اشتغلتِ المسكينة أمس بالتوأم طيلة المساء... وما إن وضعَتْ البنتين في فراشهما، وقرأتْ عليهما كالعادة الإخلاصَ والمعوذتين، حتى انتابتها أسفلَ البطن تلك الآلامُ التي تعاودها بين الفيبنة والفينة في فترات الحيض...
أعددتُ لها كأسا من الماء الدافئ الممزوج بالكمون...
ساعدتُها على الذهاب إلى الفراش... دثرتُها جيدا... طبعتُ قبلة حنان ورحمة على جبينها الدافئ... وضعتُ يدا على رأسها، وأخرى على بطنها، وقرأت ما تيسر من كتاب الله تعالى... أغمضتْ أجفانها كأنها طفلة في السابعة... واستسلمت للنوم...
حبيبتي تحب كثيرا أن تسمعني وأنا أقرأ القرآن... تقول إن صوتي بالقراءة أجمل عندها من كبار شيوخ الإقراء في العالم... أعرف أنها صادقة في ذلك... ليس لأن صوتي جميل... أبدا... ولكن لأنها تستمع إليَّ بأذن مختلفة عن الأذن التي يستمع بها الناس... لاشك أنكم تعرفونها... إنها أذن المحب العاشق التي تجعل صوت المحبوب أجمل من تغريد البلبل، وأطربَ من تنغيم العندليب.
أغلقتُ خلفي باب المطبخ... لقد قررت أن أغسل الصحون... وأنظف الأرض...وأرتب الأدوات المبعثرة...
لستُ متعودا على الغسيل... ولكنها ليست المرة الأولى التي أقوم فيها بذلك... فأنا أحب أن أنتهز الفرصة أحيانا لأمد يد العون إلى حبيبة القلب... خصوصا إذا كانت الظروف تدعو إلى ذلك... ومما يشجعني عليه أنها تعي جيدا تلك الرسالة التي أود من كل قلبي أن أبعث بها إليها من خلال هذا العمل... في كل مرة أقوم بذلك أرى في وجهها فرحة طفولية... ألمح في عينيها بريق تقدير وإعجاب عميقين...
حبيبتي تعرف جيدا وجهة نظري في الأعمال التي تقوم بها المرأة في المنزل...
اللقمة التي يأكلها الزوج من يد زوجته أهم عندي من كل الملفات التي يجتمع لمناقشتها مجلس الأمن...
عملها ليبدوَ عشُّ الزوجية نظيفا أنيقا صالحا لكي يعيش فيه قلبان جمعتهما المودة والرحمة هو أخطر في نظري من كل القضايا التي تطنطن بها الفضائيات ويحتد فيها الجدال على أعمدة الجرائد والمجلات...
وأما تعبها طيلة اليوم في العناية بالكتاكيت... فهذا هو العمل المقدس الذي أقِر أمام محكمة التاريخ وأنا في كامل قواي العقلية أنه أقدس وظيفة عرفتها البشرية على الإطلاق، وأنه الدَّين الذي يطوق عنقي، والذي لا أستطيع أن أوفِيه إياها مهما فعلت.
افتتحتُ سورة البقرة... واستعنت بالله... وبدأتُ العمل...
سمعتُ صوت الماء في الحمام...
الظاهر أنني في غمرة الحماس نسيت نفسي، فرفعت صوتي بالقراءة قليلا... يبدو أن إعجابَ حبيبتي بصوتي قد تسرب إلى اللاشعور مما يجعلني أقرأ بزهو وحماس... لكن النتيجة ليست بذلك السوء، فعملي أوشك على النهاية... ولا بأس من أن تستفيق العصفورة النائمة...
بينما أنا أسرع في إنجاز ما تبقى، إذا بالباب يٌفتح بحذر... ويطل منه ذلك الوجه الذي كانت رؤيتي له بفضل الله هي السببَ في سعادة دامت عشر سنوات...
وكالعادة... ابتسمنا...
لا أدري ما هو ذلك الشيء الذي يقهرنا على الابتسام كلما التقت عيوننا؟؟؟!!!
حاولنا مرارا أن نُقلِع عن هذه العادة اللذيذة لأنها تسبب لنا الحرج في الشارع... ولكن عبثا حاولنا... وذهبتْ جهودنا أدراج الرياح... إنه شيء فوق طاقتنا...
ألقتِ السلام وهي تقترب...
طوقتني من الخلف بذراعيها...
وضعت خدها على ظهري...
وقالت: تقبل الله منك حبيبي!
يا الله... ما أعذب تلك العبارة... وما أسمى تلك الكلمات... إنها تفعل في قلبي فعل السحر...
تلك العبارة لم تأت من فراغ... ولا هي عادة مبتذلة... بل هي منهاج حياة كامل...
انتابني إحساس عميق بعظيم نعمة الله تعالى عليَّ... لقد وفقني إلى أن أغرس في حبيبة قلبي تلك المعاني السامية...
من أول يوم ضمَّنا فيه عش واحد... كنت أراقب ما تقوم به العروس المتحمسة في مملكتها الجديدة...
أصارحكم أن اسم المملكة لا ينطبق عليها إلا مجازا... ومع ذلك فهي تُصر على أن تسميها مملكتها... البيتُ ضيق بعض الشيء... والفرش أغلبه مستعمل وقديم... ثم... ويا للهول... بِتنا معا في أول ليلة على الأرض... ليس لنا إلا لحاف واحد... نفترش نصفه... ونتغطى بالنصف الآخر... ولكنها والله يشهد كانت أحلى ليلة عشناها حتى كتابة هذه السطور... لا تظنوا أن هذا الكلام من نسج الخيال... أو اجترار لقصص الصحابة الكرام... والله إنه عين الواقع والحقيقة.
لا زلتُ أذكر...لم تسمح حبيبتي لأحد أن يدخل غرفة النوم... منعت حتى أمها... ليس شعورا بالنقص... أبدا... هي أقوى من ذلك وأسمى... ولكن حتى لا يكثر القيل والقال من أناس لا تسمح لهم عقولهم الصغيرة أن يستوعبوا: كيف أن فتاة جميلة مدللة تترك الحياة المخملية في بيت أبويها، وترفض الخُطاب ذوي الجيوب المنتفخة، وتقبل بالحياة مع شاب فقير، ليس له من الدنيا إلا الكفاف؟؟؟!!!...
إنه لمن المحزن جدا أننا أصبحنا عاجزين أن نتصور أن بني آدم ليسوا مجرد بهائم تحتاج إلى العلف... قاصرين أن نفهم أن الدين والخلق والحب والسعادة أهم بكثير من المظاهر المادية الخداعة التي تخفي وراءها الكآبة والشقاء في كثير من الأحيان.
منذ اللحظات الأولى حرصتُ على أن أبدي لها امتناني لما تقوم به... أن أظهر لها إعجابي بما تفعله... أن أريها انتباهي للمجهود الذي تبذله... كل ذلك بصدق وإخلاص... لا مجاملة كاذبة باردة... كنتُ وما زلت أرفض من أعماق كياني أن أعامل زوجتي في بيتها معاملة الخادمة... هي قبل كل شيء حبيبتي... وهذا الذي تفعله هو من أجلي...من أجلي أنا... وأكثر شيء يؤلم قلب الإنسان هو أن يرى نفسه يبذل الغالي والنفيس في سبيل إنسان آخر... ثم... ويا للأسف... لا يجد منه التفاتا وإحساسا... أو حتى كلمة امتنان وشكر... شعور قاتل فعلا...
كنت أحيانا أدخل عليها المطبخ... أو أجدها منغمسة في التنظيف... فأحاول أن أضمها وأشمها...
كانت المسكينة تقفز مذعورة.. كأنها غزال ينفر من صياده... تجري من ههنا وههنا...
لا تريد من حبيبها أن يجد منها رائحة العرق أو البصل...
ومع مرور الوقت ذهب الذعر والنفور... لقد أيقنتْ حبيبتي أن رائحة عرقها وبصلها هو أحب إلى نفس حبيبها من كل العطور المسكوبة على أجساد نساء الدنيا...
شيء مقزز أن يتقذر الرجل من رائحة الزوجة المخلصة المنهمكة في إعداء طعامه... الغارقة في كنس غرفته... المجتهدة في كي ملابسه... شيء يُشعرني بالدناءة والقرف...
كانت أول كلمة أبدي بها إعجابي وشكري لما تقوم به: تقبل الله منك حبيبتي... وجعل ذلك في ميزان حسناتك...
هذه الكلمة جعلَتْها تعي جيدا أن حبيبها لا يراها خادمة... بل هي في عينه قبل كل شيء إنسان راقٍ منهمك في عملٍ هو في حقيقته أشرف الأعمال... نعم... هو في ظاهره طبيخ وكنس وغسيل... لكنه في حقيقته تقرب إلى الله تعالى، وعبادة له عز وجل... لقد سمعتْ من حبيبها أن النبي صلى الله عليه وسلم يعتبر اهتمام المرأة بزوجها عبادة تنال بها المرأة ثواب الملاحم التي يخوضها الرجل خارج البيت سعيا وراء لقمة العيش، وعملا على إصلاح المجتمع، واجتهادا في نشر الخير...حتى إنها تنال بحسن تزينها وتغنجها لزوجها ثواب المجاهد في سبيل الله.
فهمتْ حبيبتي الدرس جيدا... إنها تلميذة نجيبة... ومعملة بارعة أيضا... استطاعت أن تعلم زوجها وهو من طلبة العلوم الدينية كثيرا من الأمور التي كان يجهلها... ومما ساعدها على أن تتقبل التعلم من حبيبها أنها رأته يتواضع للتعلم منها... ولا يشمخ بأنفه بتكبر كاذب... أخبروني بالله عليكم: هل هناك أفضل من أن يكون الإنسان معلما ومتعلما؟...
لا زلتُ أذكر موقفا لن أنساه ما حييت...
زارني في بيتي أحد الأصدقاء...
فجاءت الحبيبة بما يلزم لإكرام الضيف...
أخذتُ منها الأغراض من وراء الباب... وقلت لها: جزاك الله خيرا...
دخلتُ...فإذا بصاحبي يحملق فيَّ باندهاش شديد!!!...
خيرا يا أبا عبد الله!!!... ماذا هناك؟؟؟...
رد علي سائلا: هل تقول لزوجتك: جزاك الله خيرا؟؟؟!!!...
صعقني سؤاله...
فلم أستغرب عندما جاءت زوجته يوما من الأيام باكية تطلب الطلاق...
ولولا أن الله أعان على إصلاح ذات البين لوقع المكروه...
وضعتُ الصحن...
نفضت يدي من الماء...
أدرت رأسي، فلمحت في عينيها بريقا يتألق... مزيجا من الامتنان والفخر والحب...
قلت لها: وإياك فجزى الله خيرا حبيبتي...
انتهى
و يسلمو