- أنهيت الموقف قائلاً في استسلام:
- ((لا بأس، في المرة القادمة سأفعل ما يرضيك))
- ((ولكني كنت أستمتع به))
- أشاحت بوجهها عني وذهب غير مبالية.
- ((يا محسن أنت تشاغلني عن عملي، عد إلى البيت الآن وسنتحدث لاحقاً)).
- ضغطت بالوسادة على أذني معبراً عن انزعاجي.
- ((كما هربتي أنت واتهمتيني بأقذر التهم)).
- لكن كبرياءها لم ينكسر بعد فعادت تقول لي وصتها مفعم بالثقة:
- قلت ودون أسف أو ندم على شيء:
- واقترفنا، وشتتنا الأيام.
- تصوروا معي الموقف..
- طلبت لي عصير الأناناس الذي طالما كنت أحبه ولازلت.
- وتابعت:
زوجتي مسترجلة
بقلم: خولة القزويني
www. Kawlaalqazwini.com
تزوجها قطة مغمضة كما تقول الأمثال، وديعة، حالمة، رقيقة، حديثها همس، صوتها نغم، حضورها كنسمة الربيع الهفهافة، سارت حياتي معها هادئة كمجرى نهر ثابت يضفي على قلبينا بهجة وراحة.
كانت طالبة جامعية يومذاك ساعدتها في المذاكرة وتخطي المنعطفات الصعبة، حتى الإنجاب اتفقنا على تأجيله ريثما تتخرج.
كانت لنا خصوصية مستثناة عن غيرنا، لُحُمة قوية قلّما تجدها في الزيجات الأخرى، فهي تغدو وتروح تحت سمعي وبصري، ما تفعل في غيابي ما يستثير حنقي، مستأذنة في خطرانها وسكناتها، خاضعة بأنوثة وافرة جعلت من عاطفتي نبعاً هادراً لا ينضب.
حتى كان هذا المنعطف الذي حوّل القطة الأليفة إلى نمرة شرسة، وأعتقد أن الرجل الذكي هو من يضرب حول زوجته خندق حماية، ليس من الذئاب المفترسة فحسب بل من الأفكار المسمومة التي تفتك في خاطرها الهادئ، فسلوكها نتاج فكرة تخمرت في رأسها وعملت على شحذ باطنها بعدوانية واضحة، كنت ساذجاً حينما تركت لها أن تقرأ كل كتاب دون تمييز، ثقافات مختلفة، خليط يمتزج فيه الغث والسمين لم أحسب أنها ستتأثر بهذا الشكل وتنفعل بكل هذه الحرارة.
والبداية كان هذا الحوار، إذ أتتني ذات ليلة تسألني باستياء:((محسن، هل حقاً أن الرجل يحب المرأة القوية لكنه حين الزواج يختارها ضعيفة، خاضعة؟))
تسمرت في مكاني مدهوشاً
((من سمم أفكارك بهذا الشكل؟))
في غضب تتابع
((ما ألمسه في واقع الرجال، أنهم يختارونها ساذجة، غبية، يسهل السيطرة عليها، بينما قلوبهم تهفو إلى الذكية، القوية)).
((العكس تماماً، فالرجل يفضل أن يتزوج الذكية القوية لتحمي بيته إن كان هو رجلاً سوياً)).
شعرت بنظراتها المريبة تقلب كلماتي في ذهنها وأظنها لم تقتنع، وعدت أؤكد لها.
((حبيبتي نبيلة أصغي جيداً لما أقول، فالقوة المقصودة هنا قوة الشخصية المتوازنة، المتماسكة، الصابرة وقت الشدائد وليست المرأة السليطة اللسان، العنيدة، الجبّارة)).
صمتت على مضض وراودتها الشكوك في سلوكي اتجاهها، وعندما كنا مدعوان على مأدبة عشاء عائلية لاحظت اشتعال نظراتها وهي تقارن نفسها بالزوجات الأخريات كن يأمرن أزواجهن لفعل شيء بينما اعتادت دوماً على الامتثال لطاعتي، كانوا ((الأزواج)) يتهافتون على زوجاتهم يضعون الرز في أطباقهن، يعتنون بهن بشكل مبالغ بينما كنت وإياها نتعامل كما هو وضعنا المعتاد، تارة تصب لي الرز في الطبق وتارة أضع أمامها صنف الطعام الذي تفضله، لا أدري لِمَ تجهمت فتركت المائدة مستاءة وصعقت بثورتها المفاجئة.
((تعاملني كما لو كنت جارية لك، خادمة ذليلة، أرأيت كيف يخدم الأزواج زوجاتهم وأنا كنت أنتظر المبادرة منك فلم تفعل)).
تماسكت وقلت لها بحنان:((هل نحتاج إلى هذه الشكليات كي نثبت أننا سعيدان ومتفاهمان أمام الناس))
وتمضي في صراخها تعنفني:((لكنك أحرجتني)).
أنهيت الموقف قائلاً في استسلام:
((لا بأس، في المرة القادمة سأفعل ما يرضيك))
بدأت تظهر انزعاجها من طريقتي وأسلوبي في الحياة، تتهمني بالتخلف والرجعية خصوصاً بعد انغماسها في انتخابات الجامعة وحضورها المكثف تلك الندوات التي تقودها ناشطات من النوع الثقيل وهن يتحدثن عن المساواة ودور المرأة في المجتمع وضرورة التحرر من تبعية الرجل، والحقيقة أنني لم أكن بحجم هذه التهمة الظالمة فأنا رجل مثقف، متدين، أتفهم حدود المرأة وأستوعب الحد الأدنى لطاقتها وأشعر أن هناك سقف معين لنشاط المرأة لا ينبغي أن تتعداه وأن انخراطها في هذه المجالات إلى حد الإفراط يشتت من ذهنها ويسلب وداعتها كأن المرأة ماء في إناء، والزواج هو الإناء الذي يحفظ لهذا الماء صفاءه، شفافيته، رونقه وعندما ينكسر تتبدد المرأة فلا تجد لها هوية أو ذات متزنة.
فواجهتها بالمقدار الذي يحفظ هدوءها النفسي واستقرارها الانفعالي لكنها كانت تشك بي وكأني متآمر آتي ليسلب شخصيتها ويحطم كيانها.
فيما مضى كانت تيقظني من النوم لأشرب معها الشاي فلا قدرة لها على الحراك إلى بطاقة حبي أقبلها مودعاً، كم من المرات أستيقظ على غيابها المر وأقول مبرراً إنها مشغولة وألتمس لها الأعذار.
طلبت لها خادمة تساعدها في التنظيف والترتيب وبالتدريج تركت لها مهام البيت بما فيها الطبخ الذي استهجنه إلا من يديها، حرمتني من طيب طعامها ونكهة أكلها الشهية، توقعت أنها الأيام الأخيرة من الدراسة غمرتها بحالة من القلق والتوتر فكانت غضوبة، عابسة، تتباعد في اللحظات الحميمة مبررة برودها بالانشغال والتعب.
تدفق فيها شيء وافر من النشاط فقالت لي:((أنا إنسانة مثقفة مبدعة أشاد بنجاحي الباهر الكثير من الأساتذة ورشحوني لأن أكون محامية ماهرة، فحرام أن تكون مثلي أسيرة أربع جدران، يُقمع فيّ كل هذا العطاء)).
بقيتُ حائراً في مكاني، أحسست بنفسي أتلاشى بين كلماتها الضخمة فصمت أكبح انفعالي.
تخرجت، كبرت، وكبر معها الطموح واستبدت بها غلظة عجيبة فاتحتها في مسألة الإنجاب تعذرت وسوفت قائلة:
((مازلت صغيرة اترك لي ثلاث سنوات أخرى لأكمل الماجستير))
ثارت ثائرتي:((الأولاد أهم من الماجستير، دعك من هذا الهراء، الحمد لله أنك تخرجت وضمنت الشهادة، وكان اتفاقنا أن تجلسي في البيت، العمل ليس ضرورياً الآن، راتبي كبير ويسعنا أن نعيش في مستوى لائق))
ارتفعت موجات صوتها وبغرور قالت:((أنا المتفوقة أجلس في البيت كالجواري والخادمات، لا يا محسن أنا موعودة بالنجاح والشهرة وقد تنبأ لي الجميع بأن لي مستقبل كبير))
اغتظت منها:((من هم الذين تنبأوا لك؟ أطلعيني على أسماءهم وسيرتهم لأقول لك ما وراء شعاراتهم))
ارتبكت بعض الشيء وأحست أنها مشحونة، متأثرة، تردد في بلاهة كل ما تسمع وتصدق كل ما يُقال لها.
ثم دخلنا في معركة صاخبة، مندهش حقاً من نبيلة الوديعة وهي تتمرد على حياتها وتضغط عليّ من كل اتجاه كي أفتح لها مكتب مستقل أحسستُ بها تضيع من بين يدي، ويتلاشى الحب من قلبها، كل شيء فيها قد تغيّر، لونها، هيئتها، لم تعد تلك الأنثى الحنون التي يطيب لي دوماً أن أسكن في واحتها، نسيت كم نسي غيرها أن المرأة الناشطة لابد أن تخلع ثوبها الحديدي عند أعتاب بيتها وتستعيض عنه بغلالة من الحرير في خلوتها المحببة مع الزوج، بقيت معي في ذات القناع وبنفس النبرة.
كنت أحب شعرها الطويل وكأنه شال من الحرير يزدان به وجهها الملائكي ذو التقاطيع الناعمة، تفاجئني ذات مساء وهي عائدة بشكلها الصبياني الفوضوي، سألتها بفزع ((أين شعرك؟)).
أجابتني بتردد:((كان مزعجاً، فالقصير مريح في الغسل والتمشيط)).
ولِمَ فعلت ذلك؟
((الموضة)).
وواصلت محبطاً:((ألا يفترض بك أن تستأذني مني قبل قصه؟))
سخرت بشكل جارح.
((أستأذن منك؟ وهل أنا طفلة لأفعل ذلك؟)).
((ولكني كنت أستمتع به))
أشاحت بوجهها عني وذهب غير مبالية.
لم أكن أمتلك المال الكافي لأفتح لها مكتب فالتحقت مساعدة في مكتب محامي شهير، وودت في ذلك اليوم زيارتها لأستطلع وضعها، تفاجئت بأنها المرأة الوحيدة بين خمسة رجال، انقبض قلبي وبان على وجهي الوجوم، سألتني وهي مدركة لمصدر انزعاجي.
((ما بك مستاء؟))
((ألا توجد امرأة أخرى في المكتب؟)).
ترد بثقة وكأني أهذي أو أردد أقولاً وهراء.
((وما الضير في ذلك، المرأة الناجحة هي التي تثبت كفاءتها وجدارتها أمام الرجال، إنه تحدي لقوتي وإرادتي)).
حاولت ترطيب الأجواء فقلت لها:((ما رأيك لو نتناول غداءنا في مطعم)).
حدجتني بنظرة غاضبة وكأني اقترفت ذنباً لا يغتفر:((ألا ترى انشغالي؟!)).
وأشارت إلى مجموع من الملفات ملقاة على مكتبها قائلة:((انظر لابد لي من قراءة هذه القضايا المتراكمة والتعليق عليها)).
ثم رقت لهجتها بعض الشيء وقالت في شبه اعتذار:((يا محسن أنت تشاغلني عن عملي، عد إلى البيت الآن وسنتحدث لاحقاً)).
تركتها والغيظ يمزقني شر تمزيق، كتمت امتعاضي وبددت حرجي بابتسامة متكلفة.
شعرت حينها بالضيق، بالمهانة، بالقرف من وضعي وكأني أشحت اهتمامها بل حمل ثقيل على عاتقها أو كابوساً شديداً يهددها، تتهمني دائماً أنني عائق لنجاحها ولست أدري إلى متى تسيء فهمي بهذا الشكل، لا ضير أن تنجح وتكافح وتحقق ذاتها لكني أطالبها كزوج بشيء من التوازن والحضور العاطفي المبهج، لِمَ انهمكت في عملها وكأنه شاغلها الأوحد والأهم ألست شريكها الذي يشاطرها المسيرة في حلوها ومرها.
مازلت أحاول مداراة العلاقة ببعض اللين والصبر كي لا ينقطع الوصل وأحسب أن الفجوة مرحلة عارضة ستمتصها الأيام، حتماً سترجع إلى نداء الطبيعة، واستغاثة الفطرة، عطشها الأنثوي يستجلبها إلى العش بنعومة ولين، فضمنا ذات ليلة قمر الحب وبتنا نتناغم بأشواق ساحرة، أسعدني هذا الوهج يفيض جمالاً في تقاطيعها الرقيقة، ما هي إلا لحظات وإذا بالكدر يتسرب إلى محيّاها فيتغضن وجهها وتنقلب سحنتها الوردية الرائقة إلى أخرى منكمشة شاحبة أحسست بسيل مشاعري تنحسر وبرود ذات أطرافي.
باستياء قلت لها:((ماذا دهاك؟)).
انكفأت بشكل نافر.
((أنا قلقة يا محسن، قضية غد صعبة ودقيقة أخشى الفشل فيها))
تولاني جزع كبير فنظرت إليها حانقاً وكانت في داخلي صرخة تمرد.
((إلى جهنم وبئس المصير)).
أخذت الوسادة ونفذت بجلدي بعيداً عنها.
تبعتني حانقة تطلق صواعقها الجارحة وقذائفها الحارقة:((أنت تغار من نجاحي لأنك موظف بائس، بسيط، يغيظك أن تراني نجمة لامعة)).
هبطت السلم متجهاً إلى الصالون وهي تلهث ورائي من شدة الغيظ تطلق حممها النارية في كل اتجاه بينما بقيت صامتاً أتعمد إثارة غضبها.
((انظر إلى السيدة المشهورة (..... ) و(أم.....) والأستاذة (......) والدكتورة (.....) سيدات مجتمع ناجحات والسبب أن لهن الحظوة في أزواج عبدوا لهن طريق النجاح، أما أنت فستظل في العتمة، نكرة، لا أحد يعرفك، ولهذا تريدني أن أغرق معك في الظلام)).
ضغطت بالوسادة على أذني معبراً عن انزعاجي.
تابعت وهي تزبد وترعد وكأن في داخلها حمم غضب مخنوقة ((افعل ما تشاء، لا تهمني بشيء، نم لوحدك، اهجرني فإنك تخفف عني وطأة الواجب الثقيل)).
غادرتني وهي بكامل انفعالها ولبثت وحدي استعرض في الذاكرة كلماتها النارية وأحلل حيثياتها وما تستبطن من نوايا ونوازع سلبية، شعرت أن شيء في داخلي يذوي بالتدريج حتى انطفأ تماماً، تخاصمنا لفترة طويلة لا نتحدث مع بعض، لا نأكل مع بعض كل منا في ناحية، عندما تعود إلى البيت أخرج وعندما آتي تخرج وهكذا بتنا في تنافر وتضاد، تواترت علينا الأيام باردة قاحلة، ناضبة، اتسعت الشقة بيننا إلى درجة عظيمة ولن تعود المياه إلى مجاريها.
صارت مخلوقة كريهة، بغيضة، تدخل البيت مشحونة بالغضب تصرخ بالخادمة المسكينة وكأنها نمرة تبحث عن فريسة لافتراسها والخادمة تفر من بين يديها هلعة كأرنب جبان وأنا مازلت متخذ الصمت مجناً لسهامها المدمرة، أشعر أنها تبعث لي رسائل في كل شكل وصنف وتوجه كلماتها القاسية بشكل يقصدني ((إياك أعني واسمعي يا جارة)).
خططت أن أغيظها فهي مخلوقة لا تستحق الرحمة واختارت أن تكون لي نداً، إنها تتصرف كرجل وتذعن في العناد والتصلب، ماذا لو أتتني خاضعة، آسفة لاحتضنتها على الفور واحتويت المسافة، بيد أنها قاسية لا تشعر بالجرح النازف في قلبي، لا تقدر سعة صدري في احتواء هفواتها.
لاحظت ثمة تغيير في جسدها فقد بدا أكثر امتلاءاً خصوصاً وهي ترتدي البنطلون الذي اتضح أنه أخذ مقاساً أكبر من ذي قبل.
توجست أن تكون حاملاً، وجهها المنتفخ، أطرافها المحتقنة لم أتجاهل هذه الدقائق الصغيرة، مازالت عيني رقيبة في انتظار ما يتمخض عنه الغيب.
في كل مساء أتعطر وأتأنق بشكل لافت وأنا أحدث صفيراً مبهجاً وثرثرة من يستبشر بشيء قادم ثم أعود إلى البيت متأخراً كنت أجدها غارقة في القلق، تتظاهر أنها نائمة وفي يقيني أنها تتقلب على موقد الشك لابد أن تفهم أنني فلت من قبضتها، فتولي وجهها شطر العمل والنجاح وتدعني لحياتي الخاصة، لن أقف عائقاً لمسيرتها لكنها كما توقعت انفجرت بعد أن بلغ بها الظن كل مبلغ قائلة وعيونها أمطار من التهم والإدانة:
((أضحيت يا محسن بارداً، جامداً، مشغول البال، أظنك وجدتها فرصة سانحة لتبحث عن أخرى)).
ابتسمت بتخابث:((أليس من حقي بعد أن هجرتني زوجتي)).
صرخت بكل ما تعانيه من أسى
((لا ليس من حقك أن تفعل))
ووجدت التبرير المناسب.
((من تحرمني من الإنجاب أبحث عن أخرى بديلة)).
أطرقت مستاءة ثم بكت.
((صدقني كنت أفكر في الحمل لاسترضائك، تأخرت دورتي الشهرية وذهبت إلى طبيبة الحمل والولادة لمعرفة السبب قالت لي أن هرموناتي مضطربة والتبييض عندي ضعيف وخضعتني لعلاج طويل))
عنفتها
((طبعاً لأنك عصيتني، كنت تتناولين أقراص منع الحمل حتى اضطربت صحتك))
بنبرة خافتة قالت:((لا.. لم أفعل)).
((بل فعلت)).
وفتحت خزانة الثياب ومددت يدي تحت الأثواب المطوية واستخرجت العلبة ورفعتها كدليل اتهام في وجهها.
((هذا هو البرهان)).
نكست رأسها خجلة، محرجة.
وتابعت وسط دموعها:((إنني أعالج الآن فقد ارتفع عندي هرمون الذكورة بشكل لافت، لاحظت بزوغ شعيرات في جسدي وزيادة ملحوظة في وزني)).
قاطعتها
((والآن جئت ذليلة، صاغرة، عندما أحسست بالضعف والحاجة))
احتدت بنبرتها من جديد:((يبدو أنك ظمئت إلى الشجار وإيقاظ نار الخصام من جديد لتبحث عن مبرر للهروب)).
((كما هربتي أنت واتهمتيني بأقذر التهم)).
لكن كبرياءها لم ينكسر بعد فعادت تقول لي وصتها مفعم بالثقة:
((لا تتصور أنني سأتنازل عن نجاحي مطلقاً، إنني مرشحة الآن لحضور مؤتمر عالمي يجمع أنجح سيدات العالم وقد سعيت وأنا في قمة نجاحي على إرضائك فأخذتك الأنفة والعزة بالإثم، لو لم تكن مستعداً لمواصلة الدرب معي فأنت حر)).
قلت ودون أسف أو ندم على شيء:
((أرجوك، لا أريدها منّة أو تفضّل عليّ، فالرابطة الزوجية لا تقوم على بنود واتفاقيات مشروطة خالية من الروح والحياة فنبرتك جافة لم أحس بها ذرة عاطفة أو حنين ولا أريد أن أشحت منك الحب، اذهبي إلى مسعاك والله معك)).
تسمرت واقفة كطود شامخ وبدهشة أردفت:((لم أظن نفسي بهذا الرخص لتتركني هكذا بكل سهولة وأنا المرأة المعروفة بالمجتمع يشار لي كنجمة لامعة)).
عاودني اشمئزاز عنيف جارف.
((سئمت هذه النبرة المغرورة، أنا أبحث عن زوجة أسكن إليها دفئاً لقلبي، شريكة في السرّاء والضرّاء لكن أضحيت بليدة الحس بطيئة الإدراك رغم علمك وثقافتك.
تولاها ذهول:((لقد تغيرت كثيراً يا محسن وأظن أن في حياتك امرأة أخرى لم تعد تحبني وتتودّد إليّ كالسابق)).
أتمت حديثها وهي مطرقة مستسلمة، انحدرت مدامعها على وجهها وخامرها إحساس بالضعة والهوان، فلم تلبث أن فرت مني كما تفر من شيء مريع.
خمد غيظي وتضاءل حنقي، ما عاد في قلبي ناحيتها ذرة حب أو بذرة حنين، تلاشت العاطفة من قلبي، لست مضطراً أن أعيش مع إنسانة ناضبة الأنوثة، خسرت جاذبيتها بتنا نتنافر وكأننا من طاقة واحدة، عندما ألمس يدها لم يعد ذلك المس يكهرب عروقي، برودة جثمت على حياتي، رغبة اندثرت تحت ركام الإذلال والمهانة فقد أخذت أقصى ما تستطيع أخذه حتى أصبحت الآن عديم النفع لها، فحدث الطلاق وأظنها تقبلت الأمر بشموخ، وكأنها في معركة تحدي، خرجت في النهاية ظافرة بحريتها وهمست عندما اقترفنا عند باب المحكمة ((أنت الخاسر!)).
((أتمنى لك التوفيق من كل قلبي)).
لكنها لم ترتدع أحسست أنها تستبطن حباً دفيناً تداريه بغلالة من الكبرياء.
((لن أدعك تستمر في تعذيبي، لن أسمح لك بالتنكيل بي)).
قلت ودون أن أخرج عن حالة هدوئي:((اعذريني لأني أجسد حلمك المنشود وحاولت بأقصى طاقتي وفشلت أتمنى أن تلتقين يوماً بمن هو كفؤ لك)).
حملقت فيّ مشدوهة كأنها لم تفهم ولا تعي، طافت في وجهها سحابة من الضيق وغام نظرها وكأن الدنيا اسودت في عينيها.
واقترفنا، وشتتنا الأيام.
تابعت حياتي بهدوء وانتظام، فأنا رجل عملي ليس من ذلك النوع الذي يلتفت إلى الوراء ويبكي على أطلال الحبيبة، إنها لم تترك في قلبي ذلك الأثر العميق الذي ينخر في النفس فيعذ بها بألم، تزوجت من ابنة خالتي وهي فتاة يتيمة طيبة، فيها ذلك الزخم المريح من الحنان، عشت معها بسلام وسعادة وكانت لي نعم الزوجة الخاضعة المطيعة، أنجبت لي ولدان واندثرت نبيلة مع الأحداث اللهم إلا المصادفات التي تذكرني بها، صورتها تباغتني في الصحف أو مقابلة لها في التلفزيون، لم تستطع بحضورها الفخم أن تحرّك أوتار قلبي بشيء من الحنين.
حتى قرأت ذات صباح في الجريدة خبر تعرضها لحادث ورقدت على أثره في المستشفى، أرعبني هذا الخبر وأفزعني بشكل كبير، شعرت في داخلي شيء يضطرب ويمور، قررت زيارتها للاطمئنان عليها فهي كانت لي زوجة في يوم ما ولا بأس أن أقوم بهذا الواجب الإنساني، اشتريت لها باقة ورد بيضاء وفررت إليها زائراً يشحذني فضول نابت في الأعماق.
تصوروا معي الموقف..
هذه العظيمة، اللامعة، نجمة المجتمع الراقي، ترقد لوحدها منكسرة، ضعيفة، مهشمة، جئتها محملاً بكم هائل من العطف جعلني أوبخ فيّ رجولة مفتعلة في موقف كان يحتاج مني حكمة وتدبر.
ما أن دخلت حتى التقت عينانا وشعرت بنظراتها اللهفى رُسُل أشواق وحمائم حنين تهفو بشغف إليّ وجوارح عطشى إلى الماضي تستجيب بتوق محموم هتفت باسمي محتفية، استعادت في ذاتها طاقة شفاء كامنة غلبت آلامها، وجعها.
جلست مبهوتاً لمرآها الذابل وشعرها الأشيب.
قد غزاها باكراً.
خرج لساني من عقلة الصمت.
((الحمد لله على السلامة)).
التاعت من حرقة الإحساس المضطرم داخلها فبكت ورددت بصوت متهدج.
((كيف حالك؟))
أشفقت عليها، فقد تغضن وجهها بشكل نافر، كأنها عود ناضب أحسست بعينيها ثمة حسرة وآهة ندت عن كبد محرور.
هتفت
((كم أنت محب ووفي))
أطرقت أسد عليها المنافذ.
((إنه الواجب)).
حاولت أن تستميلني.
((ألازلت تحبني؟)).
((كل شيء قسمة ونصيب)).
((لِمَ زرتني إذن؟)).
((لا تجهدي نفسك)).
وتصر:((أريد محادثتك))
نهضت لفوري قائلاً:((أظن من الواجب أن أرحل)).
شدت انتباهي من جديد.
((أتعرف أنه حادث مدبر بسبب عداء أحدهم لي)).
ارتخت أعصابي.
((أرجوك، الأمر لا يعنيني، المهم أنت بخير وعافية)).
شئت أن أودعها، لكنها تضرعت بضعف دفعني لأن أجلس.
((أرجوك استرح لأحدثك عن مشوار حياتي بعد الطلاق، رجاء أخير ثم اذهب كما شئت)).
طلبت لي عصير الأناناس الذي طالما كنت أحبه ولازلت.
وتابعت:
((اعتبرني مريضة تهذي وهي تحت تأثير الحمى، لكن يكفي أن تعرف أنني نادمة على كل شيء، اكتشفت حماقتي فيما بعد، الآن اسأل نفسي بعد أن شلت قدماي في هذا الحادث ماذا أفعل وكيف أتصرف وأتدبر أمري وأنا عاجزة لا زوج ولا ولد، وحدة قاتلة، نجاح فارغ من الطعم، تنهشني الغربة والحاجة، الجدران الباردة، الليل الطويل الذي يفترسني بوحشة كئيبة توفت والدتي فعشت لوحدي، أخي هاجر إلى أمريكا منذ زمن ولم يعد لي أحد سوى العمل أتشبث به كقوة تحميني من غدر الزمان نجحت وكلما أنجح يفر الرجال مني وكأني شبح مخيف، هل تذكر عندما قلت لك أنني كنت أعالج في مسألة الحمل، للأسف كانت كل النتائج سلبية وعيناك كانتا تطالباني حتى وأنت صامت بالولد.. أين الولد؟ وأنا عاجزة تعيسة يا محسن، خسرتك ولم أشعر بفداحة الخسارة إلاّ لاحقاً، فتحت الآن مكتب وأصبحت محامية مشهورة يُشار لي بالبنان، لكني أقف في خريف العمر وقفة متأملة فيها المحاسبة والمساءلة للنفس بعد طيش الطموح ونزق الشباب ونزوة الظهور المستبدة في النفس نكتشف ذاتنا أننا نخسر عمرنا دون ثمر، دون امتداد، لم يعد لنجاحي مذاق كالسابق، لست أدري لِمَ كنت في الماضي أشعر بلذة النجاح وشهوة الصعود إلى السلطة، كنت قوية وحادة حتى أغمضت عيني عن الواقع ودخلت في متاهات معتمة، كان هدفي أشبه بالسراب يحسبه الظمآن ماءاً، كلما اقتربت منه تباعد وخيّل لي أنه قيد نظري وإذا به يتبدد لأجد نفسي خالية الوفاض ودخلت في ميدان منافسة مع صفوة من النساء لا هم لهنّ إلا الظهور الإعلامي يتبارين من أجل أن تظل الواحدة تحت الأضواء، سئمت هذه التناقضات المريضة التي أوقعتني في براثن الادعاء والتمثيل.
صمتت وهي تلتقط أنفاسها ثم زفرت زفرة محرقة ومضت تستطرد في هذيانها البائس.
((كنت أينما أذهب يشار لي بالعظمة والتبجيل وفي الخفاء وفي الهمس الخافت أنعت بالمسترجلة التي تناطح الرجال وتنافسهم في ميادينهم الخاصة، وتعرضت لهذا الحادث بسبب قضية مخدرات كان المجرم يحاصرني كي أتنحّى عنها لكني صمّمت بعناد فكانت هذه النتيجة.
كنت أتفرس معالم وجهها وقد امتص الزمن نعومته وتناثر الزغب الأسود على خديها فأضفى عليها عتمة وصوتها الذي شاب نبرته عنفوان غلام مراهق، استحضرتها قبل سنوات، رقراقة، تتثنى في دلع محبب، تتضرج وجنتيها حياء كلما لاطفتها، تتلفت كطفل خائف، مسكونة بدماثة فطرية، تتورع النفس عن خدش صفاءها استهجن فيها ذلك الانقلاب الجذري وقد تحولت إلى مخلوقة اقتحامية مرتابة من كل شيء، وتظن العالم كله يتآمر على نجاحها حتى تحولت الذكورة إلى عدو يتربص بها كلما أوغلت في الطموح.
أعادني نداءها إلى الواقع.
((محسن.. ما بك صامتاً؟)).
نهضت أودعها وأنا أشفق على امرأة نسيت أن الأنوثة جمال يعتمر به الكون.
همسة:((افتح عينيك جيداً قبل الزواج واتركهما نصف مغمضتين بعده))
النهاية
ومشكوره حبيبتي عالقصة
من جد روعه بس تحزن
عالعموم يسلمو