- تندهش لذلك الجانب الحيوي من شخصيته ، لباقته .. وفطنته المغرقة بذكاء
- إذا سأل عني السيد فأنا في حجرتي ..
- هزَّ رأسه : أجل .. أختي في الرضاعة ..
- وقفت وتراجعت خطوات إلى الوراء لا تفهم .. قالت بحيرة :
تندهش لذلك الجانب الحيوي من شخصيته ، لباقته .. وفطنته المغرقة بذكاء
متقد .. حتى أناقته تبهرها ، ولعل قامته المهيبة كانت تشعرها – كلما وقفت في مواجهته – بتلك القوة الساحرة والمتدفقة من حضوره .. فتستكين إلى الضعف خاضعة لإرادته ، أجل .. إنها متيمة به ، لكنه لم يمنحها لا الوقت .. ولا الأجواء المناسبة لتطلق نحوه بنسائم عشقها ، فهو على الدوام مكبل بأعماله وإنجازاته .. منشغل بأرقامه وحساباته ، وإذا ما اقتنصت سانحة مواتية لتشاركه نجاحه ، قال يسكب على فضولها بفيض من سطوته :
- أنت هنا فاتنة هذا البيت الفاخر .. فضعي كل اهتمامك لتلوينه بلمساتك الناعمة ، أما أعمالي .. فلا شأن لك بها .
كيف لا تهابه .. وهي ترى الرجال بكل عنفوانهم يحسبون له ألف حساب .. رجال وموظفون وإداريون يهرعون للقائه .. ويسعون إلى رضائه ، عند هذا الحد أيقنت أن أسوار شامخة تحول بينها وبينه ، ففقدت الأمل في أن تسود علاقتهما شاعرية العواطف .. وانطوت على نفسها ترعى شؤونها .. تاركة له عمله الصاخب بالنجاحات المتتالية ..
في صباح يوم دافئ .. وقبل أن يخرج إلى أعماله ، أتته الخادمة بالهاتف .. تبلغه أن ابنة خاله تتصل من الخارج وتريده بأمر هام ، كان لا يزال يتناول إفطاره ، فلم تُلقِ هي بالاً في بادئ الأمر إلى ذلك الترحيب الحار الذي استقبل به قريبته ، لكنها تعجبت أن يملك " وسيم " ذلك القدر من الحنو
والمشاعر الرقيقة نحو امرأة ما ، وحين أخذ الهاتف وتسلل بعيداً عنها أدركت أن هناك ثمة أمر غريب يدور في الخفاء ، فألقت الشوكة من يدها وقالت للخادمة بعصبية :
إذا سأل عني السيد فأنا في حجرتي ..
ولم يتوقف الأمر بها عند هذه الواقعة ، حيث أصبحت المحادثات بين وسيم وابنة خاله شبه يومية ، كانت تهاتفه " جميلة " في الصباح والمساء .. وأحياناً بعد منتصف الليل .. وبعد أن تتجمر الغيرة بين جوانحها وتحرقها ، وكي تلجم صوت الشك الثائر في صدرها ، سألته ذات مساء بارتباك تدخل إلى تفاصيل الحقيقة :
- يبدو أنني لم ألتق بجميلة منذ زواجنا .. أليس كذلك يا وسيم ؟
قال ببرود وهو يتصفح جريدته اليومية :- أجل .. فقد كانت تقيم في الخارج منذ سنوات طويلة ..
سألته فجأة بعفوية :- وما كل هذه الاتصالات بينكما .. ماذا تريد منك .. ؟
شعرت أن سؤالها قد أغضبه حيث رمقها بنظرة ذات معنى من عينيه الداكنتين ، ثم أجاب باقتضاب :
- إنه مجرد عمل ، لقد كلفتني .. أن أشرف على ترميم منزلها القديم في الضاحية الشرقية ، لأنها ستحضر للإقامة النهائية هنا بعد أسابيع قليلة ، وخصوصاً وأن زوجها قد توفي قبل أشهر مضت ..
آه .. هكذا إذن .. فهي أرملة ، ولكن ما سر الاهتمام بها من جانبه ، هل يمكن أن يتجاوز الأمر قرابتهما وينحدر إلى الماضي مثلاً ، كأن يكون هناك قصة حب قديمة أو مشروع زواج فاشل بينهما .. !
على كلٍ .. لو كان هذا صحيحاً فهاهي تعود إليه من جديد بعد أن غيَّب الموت زوجها .. وأزاله من طريقهما ..
كانت كل هذه الهواجس تباغتها ، ولا تجعلها تشعر بالراحة أبداً ، وفي إحدى الليالي افتقدته .. كان فراشه خالياً بجوارها ، فتسربت تبحث عنه في كل مكان ، وفي القاعة الرئيسية لمحته يجلس في الظلام ويتحدث في الهاتف بما يشبه الهمس ، تناهت إليها ضحكاته العذبة .. وكلماته الناعمة .. كان يقول :
وتابع : اطمئني يا عزيزتي .. سأنهي الموضوع قريباً .. وسيكون كل شيء كما تريدين ..
وأردف وكأنه على مشارف الخيال :- سيكون حفل زفاف رائع .. وستكونين أجمل عروس ..
لم تقدر على الصمود لتسمع المزيد .. فهرعت إلى حجرتها يُسيَّرُها عذابها .. وأثناء مشيها تعثرت بأريكة جانبية وأسقطتها فتنبه هو لوجودها .. التفت إليها .. وقال بدهشة :
أجابته وتعاسة الدنيا تسكنها :- أجل .. أنا هنا لأسمع مخططك للتخلص مني .. لم أكن أعلم بأني مخدوعة إلى هذه الدرجة ..
وفرت إلى حجرتها تحزم حقيبتها ، وعندما وصل إليها كان اليأس قد أحال ملامحها إلى خطوط شاحبة .. سألها :
- لم كل هذا .. ماذا تفعلين ؟
صاحت تكتم شهقات بكائها المتربصة بصوتها المرتجف :- إني راحلة .. لأوفر عليك الوقت في الانتهاء من موضوعنا .. الآن فقط عرفت لماذا كنت تبعدني عن عالمك .. لم كنت تحصرني في دائرة حياتك كقطعة أثاث جميلة .. كل ذلك من أجل تلك ..
قاطعها وهو يهزها بعنف :قالت تجلس على حافة السرير منهارة :- أجل ... ألست تريد الزواج من ابنة خالك .. لقد سمعت كل شيء .. !؟
أطلق ضحكة مدوية جمدت الدم في عروقها ، قال يقترب منها :- أيتها المجنونة .. هل تعرفين أن جميلة هذه ليست إلا أختي ؟!
صرخت بذهول : ماذا .. أختك !
هزَّ رأسه : أجل .. أختي في الرضاعة ..
وقفت وتراجعت خطوات إلى الوراء لا تفهم .. قالت بحيرة :
- ولكنك كنت تتحدث إليها في موضوع زفافكما ..
- بل كنت أناقشها في موضوع زفافها إلى صديق لي كان قد تقدم لخطبتها منذ مدة ، لذلك طلبت هي إليَّ ترميم بيتها القديم ليكون عشهما الزوجي ..
وضعت يدها على فمها تشعر بالخجل ، بينما قال هو بسعادة غامرة يُضيق عيناه فجأة :
- ولكني .. ما كنت أعلم أن شخصيتك الهادئة .. تخفي كل هذا لغضب ..
رددت بحياء : هذا لأني .. لأني ..
نظر إليها بحنان يحثها على الكلام : لأنك ماذا ؟
أجابته تنظر إلى الأرض : لأني .. لا أريد أن أخسرك ..
ضحك يشاكسها بجاذبيته : وماذا أيضاً .. ؟!
قالت تتنفس بصعوبة ، فقد حانت اللحظة التي انتظرتها طويلاً .. ويجب أن تقول ما لديها .. تابعت ترتجف :
- ولأني لا أقدر على الحياة بدونك ..
صرخ بانتعاش : يا الله .. أين كانت كل هذه المشاعر الجميلة .. لماذا لم تظهريها لي قبل الآن .. ؟
قالت بحزن : لأنك لم تمنحني الفرصة لذلك ..
وقف يتأملها للحظات ثم قال يبتسم لها ابتسامته الدافئة : كم كنت مغفلاً .. كي أحرم نفسي من أحاسيس جميلة كهذه ..
قالت باعتراض تغطي فمه بكفها : لا تقل ذلك عن نفسك .. فأنت أعظم رجل بالنسبة لي ..
همس إليها يبدأ معها بداية جديدة : وأنت أيضاً .. أجمل .. وأرق .. وأعذب امرأة في وجودي ..