enas-maroc
01-05-2022 - 06:57 pm
أمام عرش الجمال هربتُ من الاجتماع وهِمْتُ في ذاك الوادي الواسع... مصغيًا إلى محاورات العصافير... وجلستُ أسامِرُ وَحْدَتي وأناجي نفسي. نفس ظامئة رأت كل ما يرى سرابًا وكل ما لا يرى شرابًا. ولما انطَلَقَتْ عاقِلَتي من محبس المادة إلى فضاء الخيال, التفتُّ فإذا... حورية لم تتخذ من الحلي والحلل سوى غصن من الكرمة تستر به بعضَ قامَتِها, وإكليلٍ من الشقيق يجمع شعرها الذهبي... وإذ عَلمَتْ من نظراتي أنني مسلوب الفجأة والحيرة, قالت: أنا ابنة الأحراج فلا تجزع. ... أنا رمز الطبيعة. أنا العذراء التي عبدها آباؤك فبنوا لها مذابح وهياكل في بعلبك وأفقا وجبيل... أما ألوهيتي فهي مستمدة من جمال تراه كيفما حولت عينيك. جمال هو الطبيعة بأسرها. جمال كان بدء سعادة الراعي بين الربى, والقروي بين الحقول, والعشائر الرحل بين الجبل والساحل. جمال كان للحكيم مرقاة إلى عرش حقيقة لا تجرح. قلتُ ودقاتُ قلبي تقول ما لا يعرفه اللسان: إن الجمال قوة مخيفة رهيبة. فقالت وعلى شفتيها ابتسامة الأزهار, وفي نَظَرِها أسرارُ الحياة: أنتم البشر تخافون كل شيء حتى ذواتكم. تخافون السماء وهي منبع الأمن. تخافون الطبيعة وهي مرقد الراحة... وبعد سكينة مازَجَتْهَا الأَحلامُ اللَّطيفة سألتها: ما هذا الجمال...? قالت: هو ما كان بنفسك جاذب إليه. هو ما تراه وتودُّ أن تُعطِي لا أن تأخذ. هو ما شَعَرْتَ, عند ملقاه, بأيد ممدودةٍ لضمّه إلى أعماقك. هو ما تحسبه الأجسام محنة والأرواح منحة. هو ألفة بين الحزن والفرح. هو ما تراه محجوبًا وتعرفه مجهولاً وتسمعه صامتًا. هو قوة تبتدئ في قدس أقداس ذاتك وتنتهي فيما وراء تخيلاتك... واقتَرَبَت ابنَةُ الأحراج منِّي, ووضعت يدها المُعَطَّرة على عيني, ولما رَفَعَتْهَا رأيْتُنِي وحيدًا في ذلك الوادي. فرجعت ونفسي مردّدة: إن الجمال هو ما تراه وتود أن تعطي لا أن تأخذ فقرات من مقال في كتاب (دمعة وابتسامة) بين الحقيقة والخيال تحْملنا الحياة من مكان إلى مكان. وتنتقل بنا التقادير من محيط إلى آخر... ونحن لا نرى إِلاَّ ما وَقَفَ عثرة في سبيل سيرنا ولا نسمع سوى صوتٍ يخيفنا. يتجلى لنا الجمال على كرسي مجده فنقترب منه. وباسم الشوق ندنّس أذياله, ونخلع عنه تاج طهره. يمرُّ بنا الحبُّ مكتسيًا ثوبَ الوداعة, فنخافه ونختبئ في مغاور الظلمة, أو نتبعه ونفعل باسمه الشرور. والحكيم بيننا يحمّله نيرًا ثقيلاً وهو ألطف من أنفاس الأزهار وأرق من نسيماتِ لبنان. تقف الحكمة في منعطفات الشوارع, وتنادينا على رؤوس الأشهاد, فنحسبها بُطلاً ونحتقر متَّبِعِيها. تدعونا الحرية إلى مائدتها لنلتذَّ بخمرها وأطعمتها, فنذهب ونشره... فتصير تلك المائدة مسرحًا للابتذال ومجالاً لاحتقار الذات. تمدُّ الطبيعَةُ نحونا يد الولاء, وتطلب منا أن نتمتع بجمالها, فنخشى سكينتها ونلتجئ إلى المدينة, وهناك نتكاثر بعضُنَا على بعض كقطيع رأى ذئبًا خاطفًا. تزورنا الحقيقة منقادة بابتسامة طفل, أو قبلة محبوبة, فنوصد دونها أبواب عواطفنا ونغادرها كمجرم دنس القلب البشري يستنجد بنا, والنفس تنادينا... ونحن أشدُّ صَمَمًا من الجماد لا نعي ولا نفهم. وإذا ما سمع أحد صراخ قلبه ونداء نفسه, قلنا: هذا ذو جِنَّة, وتبرَّأنا منه. هكذا تمر الليالي ونحن غافلون. وتُصَافِحُنَا الأيَّامُ ونحن خائفون من الليالي والأيام. نقترب من التراب, والآلهة تنتمي إلينا. ونمرُّ على خبز الحياة, والمجاعة تتغذى من قوانا. فما أحب الحياة إلينا, وما أبعَدَنَا عن الحياة فقرات كتاب (الموسيقى) ابتهال للموسيقى أيتها الموسيقى! يا (أوتربي) المقدسة. لقد رقصت أَخَوَاتُكِ الفنونُ فيما غبر من الأجيال زمنًا وَوُضِعْن في معاقل النسيان آخر... وأنتِ تهزئين بهنّ, ولم تتنازلي عن مسرح النفس يومًا واحدًا, كأنَّك صدى القبلة الأولى التي وضعها آدم على شفتيْ حوَّاء. صدًى له صدًى له صدى تتناقل وتتناسخ وتكتنف الكلّ وتحيا بالكلّ... يا بْنة النفس والمحبة. يا إناء مرارة الغرام وحلاوته. يا أخيِلةَ القلب البشري. يا ثمرَةَ الحزن وزهرةَ الفرح. يا رائحةً متصاعدة من طاقة زهور المشاعر المضمومة. يا لسان المحبين ومذيعة أسرار العاشقين. يا صائغة الدموع من العواطف المكنونة. يا موحِيَةَ الشّعر ومنظّمَةَ عقودِ الأوزان. يا موحّدة الأفكار مع نتف الكلام, ومؤلّفةَ المشاعر من مؤثِّرات الجمال... ياأيتها التموّجات الأثيريَّة الحاملة أشباح النفس... إلى أمواجِكِ نُسَلّم أنفُسَنَا وفي أعماقك نستودع قلوبنا, فاحمليها إلى ما وراء المادّة وأَرِينَا ما تُكِنُّه عوالم الغيب