هل تجدين الغوص في هذا البحر الشاسع

1. خطأ مفيد


2. كنوز مخفية

هكذا يتم ادارة العالم من حولنا
هل يدار عالمنا المعاصر بواسطة المعلومات؟
هل يعني المزيد من المعلومات المزيد من المعرفة؟
هل يهددنا الغرق في بحر المعلومات الشاسع؟
في عام 1800 كان يعيش على وجه هذا الكوكب عدد لا يزيد على الألف شخص ممن يمكن تسميتهم فعلا بالعلماء، اما اليوم فان عدد العلماء يقدر بالملايين.
هذا ما يثبته مثلا الارتفاع المتواصل في عدد المقالات الصحفية العلمية المتخصصة بأقلام العلماء.
وإذا استمر التطور على هذا النحو في المستقبل فان عدد العلماء المقيمين على وجه الكرة الأرضية سيصل في عام 2200 إلى ما لا يقل عن مليار عالم.
هناك علاقة تناسب عكسي بين عدد العلماء وكم المعلومات والمعارف المتوافرة للبشرية. فكلما زاد عدد اصحاب العلم ازدادت المعارف . وفي العام الماضي بمفرده طبعت مجلات علمية دولية مرموقة مثل 'ساينس' (العلم)، و'نيتشر' (الطبيعة)، و'بروسيدينكس أوف ذا ناشيونال أكاديمي أوف ساينس' (إدارة الاكاديمية الوطنية للعلوم) ما زاد في مجموعه الاجمالي على اربعة آلاف مقال علمي، خضعت للتعليقات والتعقيبات من جانب خبراء متخصصين.
ولكن الخبرة تثبت في نفس الوقت ان التناسب الطردي السائد في العلاقة بين العلماء والمعارف لا يمكن تطبيقه بصورة تلقائية على العلاقة بين المعلومات والمعارف. أي ان ازدياد كم المعلومات لا يعني بالضرورة ازدياد حجم المعارف الانسانية.

خطأ مفيد

إن قسما كبيرا من الافكار الابداعية التي ينشرها الاعلام عبر وسائل الاعلام المعاصرة من دون توفير ما يدعمها من حجج وادلة وبراهين، هو اما غير مجد على الاطلاق، او انه خاطئ من الاساس، وفي كل عام تنشر العشرات من المقالات التي تشكك مثلا في القوانين والمعارف الفيزيائية الشائعة.
وسيثبت بمرور الوقت قطعا خطأ هذه المقالات وما حملته وتحمله من أفكار. لكن ذلك لا يعني خلوها من المغزى العلمي والاهمية العلمية.
فمن المنظور العلمي البحت لا يهم ان تكون هذه المقالات صحيحة او غير صحيحة، بقدر اهمية قابليتها للنقد واخضاعها للبحث والنقاش لاثبات صحتها من خطئها.
وبوسعنا ان نستعير في هذا السياق كلمات الفيزيائي الاميركي المرموق الحاصل على جائزة نوبل موري غيلمان: ' ان مهنة العالم هي خلق افكار غير صحيحة باقصى سرعة ممكنة'.
وثمة بعد آخر ينطوي عليه هذا الأمر: فثبوت صحة هذه أو تلك من الافكار الجديدة في نهاية المطاف لا يعني بحد ذاته اصابة النجاح المنشود.
اذ ان الغالبية العظمى من الافكار الجديدة لا تكون في العادة قابلة للتطبيق العملي والاستخدام الملموس.
اما المؤشر الاول على مدى جدوى وفائدة الفكرة الجديدة او الاكتشاف الجديد فهو مدى اعتماد اعمال العلماء الآخرين عليه كمصدر من المصادر، ودرجة تداوله والاقتباس منه في المقالات العلمية المتخصصة.
وفيما تقتبس آلاف المقالات مقاطع او مصطلحات او افكار من عدد ضئيل من المقالات العلمية المتخصصة، لا تتجاوز حالات الاقتباس من مقالات متخصصة اخرى العشر حالات في افضل الاحوال، ولربما غيبت تماما الافكار الواردة في هذه الاعمال العلمية، على صفحات الجرائد والمجلات، من هنا يستخلص ان المعارف العلمية المجدية فعلا في وسائل الاعلام (الصحف والمجلات) العلمية تمثل نسبة ضئيلة جدا من اجمالي ما تحمله هذه الوسائل الاعلامية المتخصصة من معارف.

كنوز مخفية

إن اي اكتشاف اصيل وغير مطروق من قبل يعتبر نجاحا علميا مرموقا، ولكن ما ان يزداد عدد العلماء المهتمين به، حتى ترتفع حصة المعلومات غير المفيدة، ولنقل 'الضوضاء' المحيطة، لكي تغطي في نهاية المطاف على جوهر الاكتشاف الجديد ذاته، والحقيقة ان المعارف غير الصحيحة وغير العلمية اسرع انتشارا بكثير من تلك العلمية او الصحيحة، وهذه الحقيقة تسري اليوم اكثر من اي يوم مضى، وذلك نظرا لانتشار وسائل الاعلام الالكترونية - الصحف الالكترونية اليومية على شبكة الانترنت، التي اكتسحت تدريجيا جميع اشكال التعبير اللغوي الاخرى الشائعة المعروفة في العالم.
لقد تجاوز عدد هذه الصحف الكترونية اليومية حدود المائة مليون وهو يتضاعف مرة كل ستة اشهر، ومن الكم الهائل من المعلومات التي تنقلها هذه اليوميات الالكترونية هناك كم ادنى يتمتع بقيم علمية فعلية، وهو فوق ذلك مستتر في بحر من النفايات غير المفيدة.
بمثل هذه الخبرة لا بد ان يخرج كل انسان يحاول عبر شبكة الانترنت التفتيش بواسطة برامج البحث عن معلومة ضئيلة الشأن والاهمية، واذا به وجها لوجه امام اطنان من النفايات المعلوماتية غير المجدية على الاطلاق. وفي محاولة لمواجهة هذه الظاهرة السلبية يعمل البعض على خلق موسوعات، يجري فيها جمع وفرز وتدقيق وترتيب المعلومات.
وهي في العادة تكون موسوعات مفتوحة للمساهمات الجادة. هذا هو مثال موسوعة ويكيبيدي Wikipedie التي تعتبر نموذجا للتعامل مع المعلومات غير الصحيحة وغير المفيدة على شبكة الانترنت، وان ظل هذا التعامل بعيدا عن الكمال.
فرز البذور عن القشور
ان كل ذرة، بل وكل مكون من مكوناتها، يمكن ان يكون وسيلة لحمل المعلومات ونقلها، فهو يمكن ان يتواجد في واحد من وضعين معرفين مسبقا ب'اما... او...'، او تحديدا ب' نعم' او 'لا'.
ويمكن الرمز للوضع الاول بالرقم 1 والوضع الثاني بالرقم 2. هكذا يمكن التعبير عن كل مكون من مكونات الذرة بوحدة قياس المعلومات - بيت bit.
ولكن العدد الفعلي للاوضاع التي يمكن ان تتخذها مكونات الذرة هو عدد هائل ويصعب تخيله. على سبيل المثال السنتيمتر الواحد من الماء يحتوي على مليارات المليارات من الذرات،
اي على كم من المعلومات يفوق ما تحتويه الكتب البشرية، والكمبيوترات وكل الذاكرة الانسانية مجتمعة، غير ان اكثرية هذه المعلومات غير مفيدة، لأنها نتاج عمليات عشوائية بين المكونات الذرية.
ان الفرز بين البذور والقشور، اي بين المعلومات المجدية القابلة للاستخدام وتلك غير المفيدة - العشوائية - هو اهم واجبات ومهام جميع الكائنات الحية في الفضاء الشائع، وفي وقت ما قبل اربعة مليارات سنة، تعلمت الكائنات الحية الاولى انتقاء المعلومات المفيدة من تلال النفايات المحيطة من كل جانب، والحفاظ على هذه المعلومات، ونقلها للاجيال اللاحقة، وما كان ليقدر لاول انواع البكتريا على هذا الكوكب الازرق ان تظل على قيد الحياة لو لم تحصل على آلية مضت بواسطتها تحمي المعلومات المهمة المحفوظة في شفراتها الوراثية من التلف الناجم عن الحرارة المرتفعة او الضوضاء الشديدة او حتى عملية التكاثر ذاتها، ان تسليم المعلومات سليمة، غير تالفة، الى الاجيال اللاحقة كان من الازرق ولايزال وسيظل شرط بقاء الحياة على كوكب الارض.
واليوم اضحى على البشرية تعلم ما تعلمته البكتريا قبل اربعة مليارات عام، ولكن على درجة ارقى من التطور، لقد اقتصرت مهمة الاجيال الاسبق من العلماء على جمع المعلومات في المقام الاول، اما المهمة الرئيسية لجيل العلماء المعاصر فهي فصل المعلومات القيمة عن تلك المفتقدة الى اي قيمة.
وفقكن الله