القاصة الصغيرة
06-06-2022 - 08:42 am
كلمة:
وقفت على جرف الصخرة السوداء بينما تناثرت الطحالب الخضراء على سطحها لترسم غابات مجهرية صغيرة تشابكت لتعكس لونها الأخاذ في وجهها، حرك الهواء صمت شعرها الأصفر ليتقلب أمام وجهها بعينيها الزمرديتين رأت خط الأفق يصارع أمواج البحر العاتية و تحول السكون إلى جو عاصف بعيد عنها وعن الشاطيء، وبعين الخيال شاهدت لمعانا عاتيا يخترق الصفوف الزرقاء فضغطت على منديلها الحريري بقوة وأدارت للبحر ظهرها.
عندما تغمر مياه المحيط الأرض ستعرف أنها عادت .. و لكن لتنتقم من ذلك الأمير الأرضي الذي قتلها عندما قتل قلبها...
القاصة الصغيرة
شعر برعشة تسري في جسده بينما وقف شعره الرمادي بضجر إنه يعلم تماما متى تطلبه سيدته فقال بنبرة هادئة محاولا بذلك إخفاء مشاعر الخوف داخله : أخبريها أنني في طريقي إليها.
وقف ليعدل قميصه الأبيض ويضع معطفه الرمادي على كتفيه، تأمل وجهه في المرآة فخاطبته التجاعيد لتذكره بسنين مضت مودعة إياه على وادٍ سحيق ألقَ فيها آماله و أحلامه بل عالمه بأجمع.
كانت واقفة بشموخ لا يستطيع وصفه أيا كان فلديها معاييرها الخاصة، شعرها الطويل الأصفر أشرق كشمس الظهيرة الاذعة و بعينين زمرديتين وجهت نظرة متحدية للرجل المسن الواقف أمامها و قالت بهدوء يسبق عاصفتها: سيد (جمايل) منذ متى و أنت تعمل لدينا؟
قال (دانييل جمايل) و عيناه تحدقان في حذائه الجلدي: منذ زمن طويل يتعدى الثلاثين عاما.
رفعت أحد حاجبيها و قالت بالنبرة ذاتها: و هذه المدة جعلتك تعرف طباعنا و ما نحب و ما نكره، أليس كذلك؟
مازال (جمايل) محدقا في حذائه : نعم هذا صحيح.
عندها قالت بهدوء وارتفعت نبرة صوتها في كلماتها الأخيرة وهي تلقي بورقة ملونة في وجهه: حقا؟! إذن أخبرني ماهذا الذي أراه في هذه الورقة؟
شعر (جمايل) بخوفه يتصاعد على هيئة قطرات عرق باردة على جبهته و لم يجب لأنها ستتابع حديثها مهما كان رأيه.
قالت متابعة: لقد عملنا في السنوات الأخيرة على إخفاء أي تمرد من هذا النوع ، كيف؟!، بمراقبتنا أي جهاز كمبيوتر على هذه الأرض، كما أننا سحبنا كل الأجهزة القديمة واستبدلناها بأخرى من عندنا لنتمكن من مراقبة كل ما يحدث على هذه القطع و بالتالي نخرس كل متمرد في مهده، إذن أخبرني كيف استطاع هذا المتمرد من اختراق شبكاتنا و نشر هذه الكلمات السخيفة ضدنا؟! ، أريد منك أن تطرد كل موظف غبي في القطاع الذي ظهر فيه التمرد ثم تجد لي هذا المتمرد لتنتهي قصته، الآن تحرك ما الذي تنتظره عندك؟!
خرج (جمايل) بسرعة و ركض كما لا يستطيع من هم في سنه ليخرج من الباب الفولاذي ذا الإطار الرخامي.
كانت تسمع صوت دقات قلبها الذي خبت كلما سمعت صوت الأمواج الحانقة، وضعت إصبعها على مربع صغير لتظهر فجوة تعمل بضغط الهواء فدخلتها لتنزل حوالي 80 كيلو مترا تحت الأرض في ثوان قليلة ترافقها صوت الغناء المقيت الذي ترفض سماعه، في النهاية وصلت إلى حوض مائي زجاجي كبير يأخذ مساحة كبيرة من البحر وقالت ضاحكة: أرأيت يا أختي ما تفوتينه بغنائك السخيف، إنها القوة و العظمة التي نتمتع بها على بني البشر، أولائك الذين رفضونا و ضحكوا من وجودنا، أنا أبذل مجهودا كبيرا في بناء إمبراطوريتنا على سطح الأرض و أنت تغنين لتشعريني بالذنب، لكنك لن تنجحي فقد تبدلت منذ قرون و لن يستطيع أحد تغيير ما حدث.
من خلف الفقاقيع الذي يحدثها الفلتر لمعت عيناها الزمرديتين و شاهدت الماضي و كأنه الأمس.. اقتليه يا (آيرينا).. اغمدي الخنجر في قلبه لتعودي إلينا يا (آيرينا).. عودي إلينا.. عودي..
أمسكت الخنجر البلوري و سالت دماؤها على وجهه و لكنه كان متعبا فلم يستيقظ هو و عروسه ، كانت تشعر بالألم، خيانة ، وصوت كسير، لقد أعماها حبه و كلماته العابثة، و لكنه تخلى عنها و كأنها لاشيء، ظل صامتا رغم كل ما قيل عنها فضل ذاته الإنسانية الغبية عليها و في صورة مزعجة لن ينساها استطاعت أن تنطق بكلماتها الأخيرة كإنسانة و حورية عندما غرست الخنجر البلوري في قلب عروسه، لا لن تقتله فذلك رحمة به وهذا مالا تريده ، تريده أن يعاني الأمرين ، و أن يسود قلبه بالحزن كما هو قلبها، سمعت صوت البحر يناديها من بعيد ، لا لن تلقي بنفسها في بحر لتتحول إلى زبد، كانت قد عقدت إتفاقا مع ساحرة الأعماق ليلة أمس إن هي استطاعت أن تقتل قلب الأمير حيا ستعيد لها صوتها فحذرتها الساحرة أنها بذلك لن تستطيع العودة كحورية أبدا و ستظل إنسانة إلى أن يقتل أحدهم قلبها ...، و هاهي قتلت قلبه حيا بقتل من يحب، وحكت الأطيار قصتها بشكل مختلف لنهاية حزينة .
وفي مكان آخر..
قالت (دانا ) بتحد : (تاكا) إما أن تساعدني أو تغرب عن وجهي.
جلس (تاكاجي) على الرصيف الصخري ولوى شفتيه متذمرا ثم قال محاولا ردعها: (دانا) أنت مجنونة.
وضعت (دانا) يديها على خاصرتها و أدارت ظهرها مبتعدة فوقف (تاكاجي) بسرعة ليلحق بها: انتظريني كنت أمزح معك..
قالت (دانا) متجهة نحو طريق عشبي بين الصخور الجبلية القاسية: علينا أن نسرع قبل أن يكتشف غيرنا هذا المكان، هل اتصلت ب ( كاسامي) وأخبرته أن يأتي بمعداته إلى شقتي؟
قال (تاكاجي) بهدوء محاولا إخفاء حرجه: نعم ..
اختلج (تاكاجي) دمعته الداخلية فقانون الأصدقاء يمنحه مساحة صغيرة على طريق صخري مشابه لما يسير عليه الآن تلك الحقيقة التي وضعها بنفسه عندما رفض أن يصارحها بكل شيء و قرر أن يكون برفقتها دوما و إن كان مجرد صديق أخرق توجهه كيفما و وقتما شاءت ، إن مشاركة (دانا) صاحبة العينين البندقيتين المعروفه باسم ( skull) أي الجمجمة يعد فخرا له و لجميع الثوار المتمردين على سلطة (آيرينا) التكنولوجية.
إنه يتذكر كيف كان طفلا صغيرا يركض على الأعشاب الخضراء بينما شكلت السماء الزرقاء بسحبها البيضاء العميقة كخراف من القطن الطائرة سقفا جميلا لا يستطيع التخلي عنه في مدينته الجبلية، الحياة البسيطة الهادئة ورعي خرافه وبقرة جاره ، إلى أن جاء ذلك اليوم رجل غريب حتى عن أقرب مدينة فقد كانت بشرته بيضاء شاحبة وعيناه زرقاء باردة وشعره الأسود طويل قاتم، يرتدي معطفا طويلا بنيا من الجلد و وشاحا صوفيا أبيض يلف به رقبته الطويلة، كانت البدلة الرمادية بتصميمها الغريب هو ما دله على أنه غريب حقا فصرخ مناديا والدته: أمي رجل من الفضاء قادم بإتجاهنا.
خرجت والدته و كانت في الثلاثين من عمرها بثوبها القطني الأحمر الطويل وغطاء رأسها الأبيض الذي أظهر نصف شعرها البني الطويل، بدت على وجهها علامات الدهشة عندما وقف الرجل الغريب ونظر خلفه ثم ابتعد جانبا لتظهر فتاة صغيرة بيضاء بعينين بندقيتين وشعر أسود قصير ،ملامحها تدل على أنها ليست من هنا هي الأخرى.
على طاولة المطبخ الخشبية القديمة جلست والدته والرجل الغريب والفتاة الصغيرة بينما ركن (تاكاجي) نفسه على الحائط مواجها الفتاة الصغيرة المرعوبة وشعر أن عليه حمايتها من شيء ما لايعرفه.
قال الرجل الغريب بلهجة ساحلية: أدعى (زكاري) و أنا الوصي المؤقت حاليا على الآنسة (دانا مايكل رياس).. ابنة شقيقتك (كام لي)..
كانت الفتاة صامتة تنظر برعب من خلال النافذة المفتوحة فقالت والدة (تاكاجي) والدمع في مقلتيها: ماالذي حدث؟
قال (زكاري): تعرضا لحادث سير في فلوريدا .
لم تستطع والدته منع صيحة باكية على شقيقتها فأسرع (تاكاجي) بكوب ماء ليناوله والدته ويقف بجوارها، إنه رجل البيت بعد أن أخذوا والده المسالم إلى الحرب.
بعد صمت قصير تابع (زكاري) قائلا: إن السيد (مايكل رياس) يتيم كما تعرفين وبعد زواجه من السيدة (كام) رحلا إلى أمريكا لأن مكتب عمله الأساسي هناك، إنني نائبه وصديقه المقرب عينني وصيا على ابنته (دانا) إلى أن أجدك لأسلمك إياها على أن أهتم بأملاكها حتى تصل إلى السن القانوني الذي يسمح لها بإدارتها.. إن (دانا) تجيد ثلاث لغات فلاتقلقي من الحديث معها.
لم تهتم (دانا) برحيل (زكاري) كما أنها لم تتحرك عن الكرسي الخشبي الذي جلست عليه منذ مجيئها، خرجت والدة (تاكاجي) لجلب الماء من الجدول بينما وقف (تاكاجي) أمام الفتاة صامتا ثم إبتسم فجأة لقد حظي بإنسان يلعب معه أخيرا ، أخذ يغير ملامح وجهه بحركات حمقاء فرفعت رأسها الصغير وضحكت قال بعد أن أمسك بيدها ويجذبها معه إلى الخارج: اسمي (تاكاجي) تعالي لنلعب.
كانت (دانا) واقفة أمام حفرة في كهف مظلم عندما أعاد صوتها (تاكاجي) إلى الواقع: (تاكا) أسرع وناولني الحبل لأنزل.
يتبع