- هناك أمر آخر.. أهم..
- لأنني أحب الحرية وأكره القيود!
- قلت:
إن عنوسة الفتاة تصبح أليمة جداً، حين يكون السبب هو أباها، فقد يرد الخطاب لكي يستأثر براتبها ثم يُصوِّح شبابها كالهشيم، ومؤلمة جداً حين يكون سببها مغالاة أهلها في المهر وحفلة ال
عرس، ومؤلمة أكثر حين تكون بسبب سوء خلق أبيها وأمها أو سلوكهما، فيتحاشاها الناس مع أنها لا ذنب لها،
- سبق أن عرضنا مقاطع من قصيدة لنزار قباني، قالها على لسان امرأة عانس، لها أخت عانس أيضاً صوَّر فيها مشاعرها وأحاسيسها، ومسارب الألم الدفين في حياتها، ورسم لنا بالكلمات أبعاداً من الواقع الاجتماعي الذي أوصلها إلى نفق العنوسة..
وقلنا.. ونقول إن شعر نزار قباني لا يُترك كله ولا يؤخذ كله.. فالجانب الذي فيه أدب مكشوف يحسن أن يظل مستوراً .. والله أمر بالستر.. أما الجانب الذي فيه شاعرية رقيقة مغلفة ببعض الحياء فإنه يُمتع وينفع.. وحين يتناول موضوعاً اجتماعياً فيحسن الاستماع إليه.. كصوت آخر.. إننا دائماً نسمع أصواتاً متشابهة وآراء مكرورة، في الموضوعات الاجتماعية المختلفة، كالزواج والعنوسة والطلاق ونحو هذا.. وسماع الأصوات المكرورة ممل.. لأن ترديد الكلام أثقل من حمل الحجارة.. كما يقال..
هذا من ناحية..
ومن ناحية أخرى فإن الاستماع لمختلف الأصوات يفتح لنا نوافذ مغلقة، ويرينا الموضوع من جوانب لم نكن نراها منه، ويجعلنا أوسع آفاقاً، وأرحب صدوراً في تفهم الأمور..
هناك أمر آخر.. أهم..
وهو أن الشعر يجعلنا نتعاطف مع القضية الاجتماعية.. أو مع الضحية الاجتماعية.. إلى آخر الحدود.. والتعاطف يجعلنا أقرب، ويجعل قلوبنا أرق.. وإحساسنا بآلام الآخرين أكثر رهافة.. وهذا بغض النظر عن شعر نزار نفسه - من مزايا الشعر الجيد .. الشعر الإنساني الذي يلمس فينا موضعاً.. ويجد في قلوبنا موقعاً.. ويجعلنا نتعاطف مع الصديق والقريب.. بل ومع الغريب وعابر السبيل..
@@@
والشعر - بالطبع - ليس كالبحث أو المقالة، إنه يثير الأسئلة ويصور المسألة ولا يُقدِّم الحلول، هو في حدِّ ذاته جزء من الحل الحقيقي، وإن لم يتحدث عن الحلول نهائياً؛ لأن ما يثير الشعر الإنساني فينا من تفاهم وتعاطف، وما ينميه فينا من إحساس بالناس، هو في حد ذاته حل.. أو جزء من حل..
@@@
وقصيدة نزار عن (العانس) على شكل يوميات..
ومن مقاطعها:"أفك
ِّر أيُّنا أسعَدء؟
أنا أم قطُّنا الأسود؟
أنا؟..
أم ذلك الممدود.. سلطاناً على المَقءعَدء
أفكِّر أيُّنا حُرُّ
ومَنء مِنَّا طليق اليدء
أنا أم ذلك الحيوانُ
يلحسُ فروَة الأجعدء؟
لهذا القطُّ عالمه
له طُرءرٌ .. له مسندء
له في السطح مملكة
وراياتٌ له تُعءقَد
له حريِّة وأنا
أعيش بقُمقم مؤصد"
إن مملكة هذا القط الأسود في السطح هي قطته وصغاره.. وهي مثار حريته..
أذكر أنني ناقشت رجلاً رافضاً الزواج وقلت له حباً له:فقال:لأنني أحب الحرية وأكره القيود!
قلت:
- المتزوج هو الحر.. والعازب هو المقيد.. إن الحرية هي المسؤولية الجميلة التي يختارها الإنسان ويحملها ويسعد بها.. وإذا كانت حرية مقيدة بالأولاد وبزوجة محبة فلنعم الحرية هي!.. إن العقيم يبدو - ظاهراً - أكثر حرية؛ لأنه لم يرزق بأولاد.. ولكنه مع هذا مستعد ليدفع ثروته لكي يرزق بأولاد.. فالحرية ليست هي العقم.. هذا تعريف مغلوط..
إن النثر أكثر حرية من الشعر ومع هذا فإن الشعر أجمل وأبعد في الإيحاء والدخول إلى القلوب، والتأثير في الوجدان .. وهو يحفظ والنثر لا يحفظ إلا قليلاً.. ولولا قيود الوزن والقافية ما استمتع الشعر بكل هذه المكانة التي منحتها له حرية الإبداع..
قلت: وكذلك هذا القط الأسود الذي عاش على سجيته وتزاوج وأنجب فإنه قد عاش حياته كاملة - كما هي حياة أمثاله - فلا يستغرب أن تتساءل عانس تتأمله وهو يداعب صغاره:
أينا أسعد.. أنا أم قطنا الأسود؟!
@@@
ويصف الشاعر حياة عانس كادت تيأس من الزواج والإنجاب - ولا يأس من رحمة الله -
يصور لنا حياتها على لسانها وكما تراها: ... التتمة