- قصة تبكي لها القلوب..اقرأ وتأمل...
- يرويها الأديب الشيخ..علي الطنطاوي
- قال : دفعت ما علي , وما قصرت .
- وألقيت النظر الى الطفل , فقال العجوز : اذهب , وقبل يده.
قصة تبكي لها القلوب..اقرأ وتأمل...
يرويها الأديب الشيخ..علي الطنطاوي
ذهبت سنة ست وأربعين الى مصر وكان الطريق على فلسطين , فأقمت فيها عشرة أيام , وكان لي فيها أصدقاء م الوطنيين العاملين , فلمتهم على قعودهم وقيام اليهود , واهمالهم جمع المال وشراء السلاح , فقالوا : ان الأيدي منقبضة والنفوس شحيحة . قلت بل أنتم المقصرون . قالوا : هذا تاجر من أغنى التجار فهلم بنا إليه تنظر ماذا تأخذ منه .
وذهبت معهم إليه في مخزن كبير حافل بالشارين , وكلمناه . وحشدت كل ما أقدر عليه من شواهد الدين , وأدلة المنطق , ومثيرات الشعور , فإذا كل ما قلته كنفخة وانية على صخرة راسية , ما أحست بها , فضلاً عن أن ترتج منها.
وقال : أنا لا أقصر , أعرف واجبي , وأدفع كل مرة الذي أقدر عليه .
قلت : وهل أعطيت مثل الذي يعطي التجار اليهود .؟
قال : وهل تمثلني باليهود .؟
قلت : وهل أعطيت مالك كله .؟
فدهش وفتح عينيه , وظن أن الذي يخاطبه مجنون , وقال : مالي كله .؟ ولماذا أعطي مالي كله.؟
قلت : إن أبابكر لما سئل التبرع للتسلح , أعطى ماله كله .
قال : ذلك أبا بكر , وهل أنا مثل أبي بكر .!؟
قلت : عمر أعطى نصف ماله , وعثمان جهز ....
قال : يا أخي أولئك صحابة رسول الله , رضي الله عنهم , وأين نحن منهم .!!؟
قلت : ألا ترى أن البلاد في خطر , وأننا إذا لم نبذل القليل سيذهب القليل والكثير .
قال : يا ابني ... الله يرضى عليك , اتركني بحالي , أنا رجل بياع شراء , لا افهم بالسياسة , وليس لي بها علاقة , هذا مالي حصّلته بعرق جبيني , وكدّ يميني, ما سرقته سرقة , فهل تريد أن أدفعه , وأن أبقى أنا وأولادي وأحفادي , بلا شيء ...!؟
قلت: ما نطلب مالك كله , ولكن نطلب عُشره .
قال : دفعت ما علي , وما قصرت .
يا سادة هذه حادثة أرويها لكم كما وقعت , ولو كان يجوز لي لعينت البلد والتاجر , ولولا أن قرأت في جريدة من الجرائد قصة مثلها , ما عرضت لها .
ومرت سبع سنوات ..وذهبت من سنتين الى المؤتمر الاسلامي في القدس , ومررنا في الطريق بمخيم للاجئين , وأقبل الناس يسلمون علينا , وأذا أنا بشيخ أبيض اللحية محني الظهر غاصر الصدغين , رث الثياب , أحسست لما التقت العينان كأن قد برقت عيناه برقة خاطفة وكاد يفتح فمه بالتحية , ثم تماسك وأغضى وارتبك كأنه يريد افرار , فلما انتهى السلام راغ مني وانتهى في غمار الناس , وولبثت أفكر فيه , من هو , وأين قابلته .؟ فما لبثت أن ذكرت , وتكشف لي المنسي فجأة , كأني كنت في غرفة مظلمة سطع فيها النور .
إنه هو , هو يا سادة .!!
وكلمته فتجاهلني , فلما ألححت عليه اعترف , ولم أشمت به , ومعاذ الله أن يراني انحدرت الى هذا الدرك , ولم أزعجه بلوم أو عتاب , ولكن كان في نظرتي ما يوحي بالكلام , لذلك استبقني فقال :
لا تقل شيئا ً , هذا هو المقدر , ولو كان لله إرادة لألهمني , وألهم إخواني التجار النزول عن نصف ما كنا نملك .
قلت : أولم يبقى لك شيء ..؟
فابتسم ابتسامة يقطر منحواشيها الدمع , وقال : بلى , بقيت الصح والثقة بالله تعالى , وبقي هؤلاء وأشار الى امرأة عجوز , وطفل صغير .!!
قلت : لا تيأس من رحمة الله .
قال : الحمد لله الذي جعلنا عبرة , ولكن أرجو أن إخواننا في الشام ومصر والأردن قد اعتبروا بنا
وألقيت النظر الى الطفل , فقال العجوز : اذهب , وقبل يده.
فجاء وجسده المحمر من البرد , يبدو من شقوق الثوب كزر من الورد , أخذت تتفتح عنه الأكمام , كان بثوب رقيق ممزق , وأنا في المعطف الثقيل والعباءة منفوقه , وأحس البرد يقرص عظامي , وأحسست بقلبي يتمزق , ولم يمن معي ما أساعده يه , كانت العين بصيرة واليد قصيرة , فقلت : فليسعد النطق إن لم تُسعد الحال , ورحت أكلمه , فلم أجد إلا أن قلت له : أتحب أبوك ..؟
وحسبت أن الشيخ أبوه .
قالت العجوز قل له : أبي في الجنة .
قال : أبي في الجنة .
أعاد لهجتها كأنه ببغاء ليس يدري ما يقول , فسكتُّ حائراً ملتاعاً .
قال عمي : ذبحوا بابا , نزلوا له الدم , ليش ما بحبوه لبابا , انا بحبو شو عمل لهم بابا .؟
يقول : ذبحوا بابا , وأنزلوا له الدم , لماذا لا يحبون بابا ؟ أنا أحب بابا . وأنا أوفر لأشتري سكين أذبح اليهود اللي ذبحوا بابا .
وسكن اللسان ونطقت العيون ,لقد بكيت وبكى الحاضرون جميعا ً , ومشيت وأنا لا أبصر من الدموع طريقي , وبقيت سنتين وأنا أفكر في ذلك الشيخ , وفي ذلك الغلام , وأسأل نفسي : هل اعتبر التجار والأغنياء حقيقة..؟
جزاك الله خير