- المطر........
- حلمٌ آخر دونتهُ في دفترها!!!!
- سالت الدموع مع الماء، اتحدت معه في صورة متماهية، شفافة لكن مخدوشة!!
- أجل ومن منا لديه صورة كاملة؟!!
- خاطبها دون أن يحول عينيه عن التلفاز:
- اشتري بسرعة ولا تتأخري.
- وأخيراً وجدته.
- أعوذ بالله من الشيطان الرجيم..
- بلى، يوجد، هو هو، أجل سأذهب إليه...
- غ..غ..غدير، معقول؟!
- ابتسمت، ازدادت ابتسامتها اتساعاً، لقد عرفها...
- (3)...
السلام عليكم ورحمة الله وبركاتة....
جيتكم بقصة جدأأأ رائعة....
ماأطول عليكم.....
إتفضلو القصة....
"أشعلتُ لقلبك شمعة"
(1)...
اليوم عطلة والنهار طويل، طويل لا نهاية له...
البيت هادئ على غير العادة، لاعجب فأمها وزوج هذه الأخيرة خرجا لا تدري إلى أين، ومنذُ متى أخبراها بشئ، هي تسمع فتُطيع ثم تسمع فتُطيع ثم تُضرب وتطيع أيضاً!!!
سارت الهوينى من على الدرج، تتأمل جدران البيت، ترى تشققاته، طلاءه الذي تكاد لا تميز لونه، أصبح قديماً مثلها ربما!!
وصلت للصالة، كان التلفاز مفتوحاً على قناة الجزيرة الرياضية، من غيره يشاهدها، تُراه أين ذهب؟!
دلفت إلى المطبخ لم تجده، سارت إلى الممر الخارجي، الميزة الوحيدة في هذا البيت أنهُ لم يكن مسقفاً!!
ركلت حصى اعترضت طريقها بأصابع قدمها الحافية إلاّ من دثار الأيام ومرارة الزمن، الترابُ ساخن قد كوتهُ الشمس، تشعرُ بحرارته تتماوج مع باطن قدميها، ومع ذلك تستعذبُ ذراته ورائحته خصوصاً حين يتحدُ مع المطر!!
المطر........
حلمٌ آخر دونتهُ في دفترها!!!!
حدقت في شمس الظهيرة وهي تستند على شجرة اللوز الضخمة، اتحدت مع جذعها الأجعف، فرقٌ شاسع بينها وبين هذه الشجرة، تلك لها جذور راسخة لا تُنتزع أما هي فلا تعرف لنفسها قرار أو مرسى، يا تُرى ماذا سيؤول إليه أمرها؟!
ضاقت عيناها الآن، كم من مرة حاولت أن تُطيل فترة تحديقها في الشمس، لكن بصرها لا يلبث أن ينقلب خاسئاً وهو حسير، ستدون هذه المحاولة الخامسة ربما في دفترها أيضاً....
التفتت لأفواجٍ من النمل الأسود تتسلق الجذع برتابة جندي، إحداها دغدغت ذراعها، انتابتها قشعريرة هزت جسدها فابتعدت لا شعورياً عن الجذع...
عن الجذع أم الجذور؟!
سمعت صوت سعلة مكتومة، مدسوسة بين الأزقة كلصوص الظلام...
التفتت لمصدر الصوت، وبخطوات لا تكاد تُسمع دارت إلى الجهة الأخرى، لقتهُ يُحني ظهره وهو يكح..
السجارة بيده قد احترقت إلى المنتصف ورائحتها الكريهة قد أغرقت المكان...
- "مجيد" ماذا تفعل؟ زمجرت فيه بغضب.
التفت مذعوراً إلى الخلف، ألقى السجارة من يده وكأن أفعى لسعته، لم يجب فوراً كانت المفاجأة قد ألجمته.
- تُدخن سجائر، ألا تخجل من نفسك، لازلت في الإعدادية وتُدخن.
استعاد رباطة جأشه بعد أن أطمأنّ من هويتها، نظر لها بإشمئزاز:- وما دخلكِ أنتِ؟
- أنا أختك الكبيرة.
الإحساس بالقرف يتصاعد، يتراكم بحجم الثرى وبطول الثريا!!! في حنايا الوجه يرتسم نفور، بغض، كراهية، حقدٌ أسود...
- أنتِ لستِ سوى خادمة في هذا المنزل، حشرة، بعوضة، كلما أراكِ أشعر بالقرف، كم ألعن اللحظة التي أصبحتُ فيها أخاكِ.
كلماته تنطلق بقوة، بسرعة، مغلفة بالطين، بالوحل، بكل شئٍ أسود!! كيف لا وهذا الشبل من ذاك الأسد!!
هوت بصفعة قوية على وجهه، ذهل في مكانه، هي أيضاً ذهلت من نفسها لكن ذهولها لم يستمر، إذ سُرعان ما سمعت صوت الباب الخارجي يفتح، دارت على عقبيها وهي تهرول إلى غرفتها، لا بد أنهم وصلوا، لا تريد أن تراه...
أغلقت باب غرفتها وهي تستند عليه، الدماء التي تجري في عروقها تكاد تُسمع من وقع ضخاتها، لا تدري أيهما طغى صوته على آذانها: دقات الباب أم دقات قلبها!!
أم تراها تتخيل ما تسمع؟!
تعالت الطرقات وهي ترتجف في مكانها.....
لماذا فعلتِ ذلك، لماذا صفعته، ألا تعرفين ابنُ من هو؟!
إنهُ ابنه، ابنُ الوحش، لكنها أخته أيضاً، أليس لها حقٌ عليه؟! أليس الدم الذي يسري بجسده جزءٌ منها..
خطأ، أنتِ مخطئة، فلقد أختلط بدمٍ آخر، دمٍ غريب، دمٍ منحط، دمٍ....
- افتحي الباب يا بنت ال......."يشتمني أنا نعم، لكن لم يشتم مذهبي"....
شرعت بفتح الباب بإرتجاف وهل لديها خيار آخر؟!
لقد اكتشفت من تجاربها أنهُ كلما طال انتظاره في دق الباب زادت سياط ضرباته على جسدها، ستفتحه الآن ربما تهدأ ثائرته على لحمها وترتاح منه.
فتحته ببطء، ببطءٍ شديد، دفعهُ هو بقوة في وجهها، ترنحت للخلف، صرخ:عيناها زائغتان، تلتفت يميناً وشمالاً، أيحاول أن يكون ديمقراطياً!!
"لم تسألني في كلتا الحالتين سأُضرب، سأُضرب حتى لو لم أفعل شيئاً"..
أرجوك أفرغ شحنة غضبك على جسدي، ولكن بسرعة، بسرعة شديدة، لا أطيق أن أرى وجهك الكريه، يقتلني ألف مرة....
اختنق صوتها في حنجرتها، كثيراً ما يخونها حين تراه، أنفاسها تجثو بهدوء، وكيف لا والجاثوم يقفُ أمامها!!
وبصوتٍ لا يكاد يسمع أجابته:- س..سجائر، رأيته يدخن سجائر..
هل رأيت الأوداج يوماً حين تنتفخ من حدة الغضب، انظر لرقبته وستعرف، حانت اللحظة الموعودة..
شدها من حجابها...
"أكرهه أكرهه أكرهه كم انتهك حرمتي في هذا المكان"....
حاولت أن تعيد شده لأسفل، لكنه ضربها على فمها بقوة...
سائلٌ حار يتدفق ويبلل الشفتين، يجري بسرعة بقوة زخات المطر، يتغلغل إلى اللسان وتستطعمه..
طعمه كريه لكنهُ دافئ يُشعرك بالخدر...
لم تصرخ كعادتها، بل عضت على نواجذها المتورمة كي تمنعها من الخروج، من زلزلة أركان هذا البيت المتهالك...
"صرختي هي تسليته الوحيدة في هذا البيت..أجل الوحيدة"!!
- وما شأنك إذا شرب سجائر أم لا، ألم أقل لكِ ألا تتدخلي فيما لا يعنيكِ، كم مرة قلتُ لكِ ذلك.
دفعها على الأرض فسقطت على صدرها، كانت السقطة مؤلمة، أحست بعظامها تتهشم...
يا لهذا الوجع..
لم تقوى على الحراك ولا على الصراخ، لم تشفِ غليله بعد...
يا لهُ سادي، يلتذ بتعذيب الآخرين وسماع صراخهم، تباً له من رجل، بل تباً للرجال كلهم، كلهم دون استثناء!!
تقدم منها، أغمضت عينيها بقوة ووجهها لازال يقبّل الأرض، لا تريد أن تراه أو ترى ما سيفعله..
أفعل أي شئ وخلصني، أتُراه سيدوس على ظهري أم رأسي؟!
أرجوك أفعل أي شئ وأغرب، أغرب من هنا..
لم تشعر إلا بوقع حذائه الثقيل على أصابعها، يدعكها دعكاً ببطء وقوة، زاد من ضغطه، أصابعها تكاد تُسحق..أتراها لازالت باقية..أصابعي!!
مؤلم مؤلم مؤلم...
وصرخت بقوة، بأقصى طاقتها، بأقصى ما تصل إليه حنجرتها، وابتعد أخيراً، رفع حذائه عن أصابعها، الخدر يدبُّ في أطرافها بهون، ليس بها حاجة لتفتح عينيها، لا بد أنهُ يبتسم الآن، لقد أرضى ساديته...
- إذا لمسته مرةً أخرى سأكسر لكِ يدك الأخرى، أسمعتي؟
ثم خرج....
لم تقوى على رفع جسدها، أصابعها لا تتحرك، وخزاتٌ كنصل السكين تنبض عند قمم أصابعها والخدرُ يسري في الجسد كالتيار، يمنع أجهزة الجسم المعذب من العمل..
ليتني أبقى هكذا للأبد!!
حركت جفنيها بإضطراب، نظرت إلى اليد المدعوكة، انسحق الجلد، أصبح لونهُ داكناً، سال الدم وردياً يلمع بين طياته، حزّ في نفسها منظرها...
لقد تشوهت يدي...
وددتُ لو أصرخ، أن أبكي، ولكن طاقتي كانت قد استنفذت، لم يتبق إلا الأنين.....
أنّت بصوتٍ متقطع وكبدها تتلظى، جسدها يهتز، يهتزُ بعمق، بقوة، نكأته الجروح وأعياهُ السهاد..
لحظة!!! جروح الجسد أم جروح الذاكرة؟!!
ثم جاءت، طالما أتت بعد أن ينتهي هو، تأتي بدمعتها دوماً، تحاول أن تعتذر...
أتيتِ تعتذري عمّاذا وماذا؟!
جثت بجانبي، تمسح على ظهري، لكني لا أشعر بشئ..
ألم أقل لكم أنّ جسدي مخدر!!
كم أكرهها، أكرهها أكثر منه، صدقوني، هي أمي أعرف، لكنها زوجته، زوجته التي لا تقدر أن تنطق بكلمة أمامه، لا تقدر أن تفعل شئ، فقط تبكي، يا لدموعك!! يا لضعفك، أنتِ عارٌ على الأمهات، عارٌ على الأمومة..
أكرهك أنتِ السبب، لم تزوجتِ هذا الشيطان؟؟ ألكي تعذبيني، لتشقيني، لتدفنيني حية؟!!
أرتفع أنينها....
لا أطيقُ قربها مني....
نظرت إلى اليد المسحوقة وهي تشهق بالبكاء، رفعتها فندت من الفم صرخة:تركتها وهي تزدادُ نحيباً، انصرفت لتعود بثلج وكمادات تضمدها...
تركتها تفعل ما تشاء وعيناي تكادات تقفزان من محجريهما حين تحركها، الألم أشد من شفرة السكين يقطعني تقطيعاً، كأنهُ جمرة تكويني، تحرقني، تلسعني بسياطها...
أمسكتها من خصرها، كانت لاتزال تلامس الأرض، تستمد الأمان منه، تطفئ لهيب قلبها، تُثلج صدرها قليلاً، فالصور ستتكرر قريباً ، لاتلبث أن تُعاد ولكن بيدٍ أخرى ألظى!!!
أجل...قريباً!!
رفعتها وهي تشعر بالتهالك، الإجهاد حطمها، بدت كقطعة لحمٍ عاجزة تتقلب على فحم، سرعان ما يتحول إلى رماد، أترى أسفله أي شئ؟!!
مررت اللحاف على جسدي، أشعر بدماغي يكاد ينفجر، بزغ الألم، لقد زال الخدر..
لمَ زال، كنتُ أفضل منذُ قليل..
قبلتني على جبهتي ووجهها مغرقٌ بالدموع.....
منظرها يمزقني أكثر من آلالام جسدي، يغيظني، يفتتني، أرجوكِ ابتعدي، لا أريد أن أرى وجهك، أنتِ مثله، بل أقسى منه، أنتِ السبب، لمَ تزوجته، لمَ؟!
أغلقت عيني لعلّها تفهم الإشارة وتنصرف، لكنها بقيت بجانبي، تنظر إلي وتبكي بصمت....
نامت "غدير"، لم تكن تدري أكانت نائمة أم تهذي!!
أكانت تحلم..أكان كابوساً؟!
يا ليت....
(2)....
لا أدري كم مرّ عليّ من الوقت وأنا نائمة.....
كان جسدي يشتعل بالحرارة، طنين في أذني وفي يدي، نظرتُ إليها، إذن لم أكن أحلم، فللتُ الرباط قليلاً.....
لونها قد أصبح غامقاً، أختلط لون الجلد الأبيض بثنايا زرقاء داكنة، حاولت تحريكها فعاد الألم قوياً قوياً..
نظرتُ حولي فلم أرها، ذهبت، أجل ذهبت، ربما منعها وهي أطاعت، اختارتهُ هو بجسده الذي يشبه الثور وتركتني أنا بأضلعي المتكسرة..
سمعت صرير الباب، التفتت نحوه، الإكرة تتحرك ببطء، لكأن من يمسكها يودُّ أن يفاجأ من بالداخل، يقبض عليه متلبساً!!
أخذ يحدق بها وهي على الفراش، تقدم منها وهو لايزال يتفحصها، ألقى عليها شيئاً، كانت 3 دنانير...
قال بصوتٍ باردٍ مثله:- يقولُ لكِ أبي خذي هذه النقود واذهبي للبقالة لتشتري زجاجتي حليب وبيض وماء لقاح.
نظرت له مبهوتة، كلماته ألجمت لسانها، أنستها الألم بأم عينه..
- يقول لكِ اذهبي بسرعة قبل أن يحل المغرب، وتعالي فوراً.
الأخوة تتلاشى والروابط تنعدم، تنفلت، كقشة، كريشة، ها هي تطير، تطير، ولكن أين هي وأين الجاذبية!!
لاتلبث أن تهوي، تهوي رغم أنفها، تهوي لأن الحياة هكذا، والقوانين تقودك، تحطمك لا يمكنك الفكاك منها، أين أنت يا "نيوتن" أين أنت؟!!
- أتمنى أن تكوني قد استفدتِ من درس اليوم وتعلمتي ألا تتدخلي فيما لا يعنيكِ..
لم تجب عليه، لسانها ثقيل ينوءُ بحمله، يرزء بتلال الألم والحسرة...
وقبل أن يغادر، التفت إليها وهو يبتسم ابتسامةً كريهة كأبيه:- اشتري بالباقي علبة سجائر لي..
"بأس ما أنجبتي يا أمي"..
حدقت في تلك الأوراق الحمراء التي التفّت حول نفسها، تأملتها طويلاً وهي تزفر، حركت أصابع يدها اليسرى بتعب لتلامسها، قبضت عليها، جعدتها وأبقتها هكذا في كفها الصغير..
أطبقت جفنيها باستسلام، ولقد أنزوى في جانب المقلة شيءٌ كابدته، حاربته، قاومته طويلاً، لكنهُ انتصر و ها هو يعلق بأهدابها ندياً وهي صاغرة....
جرجرت نفسها من السرير جراً، كانت يدها اليمنى بجانبها، تحاول عدم تحريكها ولكن هيهات..
جسدها يهتز وهي تهتز وشعر جسدها يهتز أيضاً من شدة الألم..
ذهبت إلى الحمام لتغتسل، لتبرد اللهيب المستعر بداخلها، لتمرر الماء على صدرها لعلهُ يخترق الجلد وينفذ إلى القلب، يطفئه ويثلج خواطره المجنونة..ظلم، هذا ظلم ظلم ظلم...
سالت الدموع مع الماء، اتحدت معه في صورة متماهية، شفافة لكن مخدوشة!!
أجل ومن منا لديه صورة كاملة؟!!
أحست بالراحة قليلاً، بالإرتخاء، البخار يتصاعد، يُثير فيها النعاس، ترنحت في خطاها، ارتدت ملابسها وعباءتها بوهن، فتحت درجها الصغير، تناولت حبتي بندول، وأعادت ربط الضماد بخفة وهي تمسح عليها بحنو أقرب إلى هدهدة القطط..
خرجت من غرفتها، لقتهم في الصالة، هي وزوجها وابنهم يشاهدون التلفاز وكأنَّ شيئاً لم يكن، كأنها ليست منهم، بل مجرد قطعة ناشزة!!
لم يدعوني يوماً للجلوس معهم، لم يحسسوني بإنتمائي لهم..
خاطبها دون أن يحول عينيه عن التلفاز:
اشتري بسرعة ولا تتأخري.
"اخرس أيها الظالم، يا عديم الرجولة، ترسلني للبقالات وأنا فتاة وأنت في البيت، وأنتِ أيضاً لا تنظري إليّ هكذا بوجهك ودموعكِ البلهاء، أنتِ لا تستحقين لقب أم، الأمومة تتبرأ منكِ، أكرهكِ وأكرهكم جميعاً، متى أرتاح منكم، متى؟!!"
سارت ببطء، لم يكن المكان بعيداً، تشاهد المارة والسيارات وتتصفح الوجوه لعلها تجد كتاباً مثلها، صفحة ألم تشبهها، تواسيها، تقرأ فيها حروف الظلم والقهر واليتم..
لو كان أبي موجوداً، لو كان لي أب يحميني، يواسيني، يدفع عني جرعات الظلم، لو...
أستغفر الله، لو تعمل عمل الشيطان...
وصلت إلى البقالة، لتنفذ أمراً آخر....
حملت السلة الصغيرة بيدها اليسرى بصعوبة، نقلت بصرها حول المكان، تبحث عن زجاجات الحليب والبيض وماء اللقاح!!
وضعت السلة على الأرض ثم أمسكت البيض ووضعته، ذهبت إلى الثلاجة ووضعت علبتي الحليب أفقياً بجانب البيض كي لا ينكسر، حملت سلتها لتبحث عن زجاجة ماء اللقاح الذي يعشقه زوج أمها وتكره طعمه هي..
وأخيراً وجدته.
لم تشأ أن تنزل السلة من ذراعها اليسرى مرة أخرى، رفعت يدها المضمدة ببطء نحو الزجاجة، أمسكتها من زندها وحاولت أن تضغط عليها بقوة لتلامس جذعها، لكن مظهر الزجاجة المصقول لم يكن خادعاً، أخذت تنزلقُ بنعومة شيئاً فشيئاً وهي تزيد من الضغط عليها..
ودون مقدمات.....
ودون رحمة....
سقطت، وتناثرت قطع الزجاج في أرجاء المكان..
سال الماء ليبلل القطع، يزيدها لمعاناً ويزيدُ قلبها حرقة، رددت بهمس:- انكسرت..انكسرت، ماذا أفعل يا ربي، سيقتلني، لا أملك نقوداً أخرى، سيذبحني، رحماك يا رب رحماك..
جثت على الأرض، تراقب الزجاج المتناثر بعينين زائغتين.
- ماذا أقول له؟! أقول الحقيقة، لكن لا لا، لن يصدقني.
هزت رأسها وهي تخاطب نفسها:وانحدرت الدموع من عينيها بصمت.....
أتعرف إلى أي مدى يقودك اليأس والخوف؟!!
كان بريق الزجاج مغرياً، يجذبك لتلامسه، لتتحسسه، لتتأكد من حدة شفرته، أيقطع بسرعة كلمح البصر دون ألم؟!
نظرت إليه من بين دموعها، لازال يناديها، يدعوها بإغراء، مدت يدها اليسرى وهي ترتجف، لا تدري يدها التي ترتجف أم القطعة كانت ترتجف؟!!
مجرد ضغطة قوية نحو العروق وينتهي كل شئ، ينتهي الألم، ينتهي العذاب وكل أيام الشقاء، ترتاح من وجوههم، من ظلمهم، من هذه الحياة..
سيسيل الدم عبيطاً بلذعة وستتألم في البداية ربما، لكنها عروق، والعروق نبض الحياة، سيكون الأثر قاضياً إذن..
لكن ماذا لو أنقذها أحدهم في اللحظة الأخيرة؟!
هزت رأسها بقوة، أسقطت القطعة من يدها، رنت على البلاط، تتراقص بخفة حول هودج الموت، ها هي تستقر أخيراً على الأرض حيثُ مكانها الحقيقي..
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم..
أنهضت نفسها بصعوبة، دفعت ثمن زجاجة اللقاح المكسورة وباقي الأشياء، تمشي دون أن ترى الطريق بعينيها، عاد ألم يدها بقوة والوخز لا يكف عن جنونه..
- ماذا أفعل الآن، أأعود للمنزل ليكسر ضلعاً آخر من جسدي، أأعود لذلك السادي وأترجاه أن يسامحني وأن يقتص من مصروفي حتى أسدد ثمن الزجاجة وأشتري أخرى، ماذا أفعل؟أغمضت عينيها وهي تسير، كانت شمس المغيب قد ألقت بظلالها على الجميع والطيور قد سارت لتختبئ في أعشاشها فقد حان وقت المبيت، خفت حركة البشر، والطريق إلى المنزل يبدو طويلاً طويلاً لا نهاية له، أتلقى حتفها اليوم؟! ربما...
سمعت صوت بوق سيارة خلفها، نظرت وراءها، كان شاباً يلاحقها بسيارته، يسير ببطء بجانبها، تكلم كثيراً وفي أشياء كثيرة، لم تكن تسمع أي شئ، لم تكن تقوى على استيعاب أي شئ آخر سوى الزوبعة التي تنتظرها في المنزل...
عادت إلى واقعها ونظرت إلى الشاب...
من هذا وماذا يقول هذا المجنون؟!!
غيرت مسارها وسارت بسرعة في طريقٍ آخر لا يؤدي إلى المنزل، كانت تمسكُ الكيس بيدها السليمة، لا تدري أسيبقى لها عظمٌ سليم هذا اليوم!!!
عاد الشاب ليلاحقها، خافت فأوقفت سيارة أجرة..
"أين أذهب يا ربي..ليس لدي مكان أختبئُ فيه، أين أذهب، كل الطرق مسدودة..."
بلى، يوجد، هو هو، أجل سأذهب إليه...
أعطت السائق العنوان، ثم أغمضت عينيها بقوة وهي تتنهد...لطالما كان يزورهم على أيام حياة والدها، تسترق من وجهه نظرات الحنان والشفقة، يحضر لها دمى وقطع الشوكلاته بعد أن يمط وجنتيها المكتنزتين بقوة، غاب الآن وغارت وجنتاها فقد منعه "حميد" من أن يلامس عتبة بيتهم حتى!! وكان ذلك منذُ خمس سنوات، آخر عهدهم به وبأبيها....
نقدت السائق 500 فلس ثمن السجائر التي أوصاها "مجيد" بها...
"لو قُطعت يدي الأخرى ما اشتريتُ له هذا السم"..
سارت تترنح في مشيتها، وقفت أمام سورهم، فقد عاشت هناك لمدة عام قبل أن تتزوج أمها مرةً أخرى، كانت أياماً جميلة حقاً..
أُعيد ترميم البيت وأعيد طلاءه، بدى كبيراً وجميلاً، أشياء كثيرة تتغير في لمح البصر..
دقت الجرس، انتظرت كثيراً حتى فُتح، ظهرت خادمة أندونيسية في وجهها، خاطبتها بتعب:
هزت الخادمة رأسها بإيجاب ولكن دون أن تسمح لها بالدخول.
- بابا "محمد" في المزرعة هناك. وأشارت بيدها للقطعة الخضراء الملاصقة للبيت.
شكرتها وهي تجرُّ نفسها وتجرُّ الكيس معها، مضى وقتٌ طويل، لا بد أن الثور الموجود في بيتهم قد أظهر قرنيه!!
سارت الخادمة أمامها، كانوا قد أقتربوا...
تناهى إلى مسمعها ضحكات تخرج من القلب صافية، من القلب إلى القلب..
"أيوجد في هذا العالم شئ يُضحك؟!!"..
أحست بالغيرة، بالحسد ربما، هؤلاء يتجرعون من الحياة حلوها، عذوبتها، أما هي فتتجرع العلقم، العلقم فقط..
رائحة الشواء تملأ المكان، لم تتناول شيئاً منذُ الصباح، معدتها تصارع الجوع، تتلوى، لا بد أن الغشاء المخاطي المبطن لمعدتها قد انقلب على عقبيه!!!
- إلى متى سأظل انتظر لبس الفستان، أريد أن ينبهر الجميع بجمالي.
ضحك الجميع على تعليقها، لكنها أكملت:- حراام، ناصر أصغر منك وتزوج، عمرك 28 عاماً ولا زلت عازباً...
ابتسم "عمر" في وجه شقيقته الصغيرة، لقد أخذت دور الأم مبكراً بعد وفاة والدتهم.
- يا حبيبتي، ما لي والزواج؟! يكفيني صداعك، أنتن تجلبن الهم للرجل مبكراً، لا يوجد شئ أحلى من العزوبية..
التفت "ناصر" لزوجته وهو يغمز:- صدقت في هذا، ليتني سمعتُ نصيحتك هذه من قبل.
ضربته زوجته على كتفه وهي تضحك والجميع يضحك معهم.
- اشتقت للعزوبية؟! لولاي ما عرفت أن تربط خيط حذائك.
وتظاهرت بالغضب فذهب ليراضيها.
- انظروا "أشار عمر" انظروا كيف يذل الرجل نفسه هكذا بعد الزواج.
وضعت "ندى" يدها على خصرها وهي تهزُّ نفسها:- نحنُ ملح الحياة بدوننا لا تساوون شيئاً.
صفر الجميع لكلامها فشعرت بالخجل، أحاطها والدها بذراعيه وهو يثني على كلامها:
وشرد قليلاً يتذكر ملح حياته التي ذهبت، حياته بدونها أصبحت لا طعم لها..
أحسّ الجميع به، فحاولوا أن يغيروا الموضوع، لا زال يذكرها، لم ينسها بعد رغم مرور عامين....
- بل قولي نحنُ شرٌّ لا بد منه. ردّ ناصر.
ضحك الجميع وندى تنظر لهم بغيظ.جاءت الخادمة الأندونيسية لتخبره عن الزائرة، كانت واقفة على مسافة بعيدة، لم يلاحظوها.
أشار لها بيده كي تقترب، ترددت في خطاها، لقد جنَّ الليل والثور في البيت لا شك يُعربد وقد شحذ قرنيه..
صمت الجميع يرقبون الزائرة الغريبة، زاد ترددها، أرادت أن تعود إلى حيثُ كانت، لا تريد أن تتطفل على الآخرين....
بانت ملامحها، شهق الأب وقد اتسعت عيناه:غ..غ..غدير، معقول؟!
ابتسمت، ازدادت ابتسامتها اتساعاً، لقد عرفها...
هرعت إليه تحضنه، تتعلق برقبته كما أيام الطفولة وهي تبكي والجميع ذاهل..أسقطت الكيس الذي بيدها، لايهم، ينكسر البيض، يتسرب الحليب، المهم أنها وجدته، وجدت ذلك الحضن الدافئ، صدرٌ تستند عليه، يحسسها بالأمان ولو بشكلٍ مؤقت!!!
- خالي ..... خالي.كان جسدها يهتز مع شهقاتها، خمسُ سنواتٍ لم ترهُ فيها، خمسُ سنواتٍ عمرٌ طويل أليس كذلك؟!
زادت من تطويقها لرقبته، بالرغم من شعورها بالألم في يدها، لا تريد أن تفلته، لا تريد أن تترك هذا الصدر حتى لو قطعت يدها!!!
قربت شفتها المتورمة من أذنيه لتهمس بإرتجاف:أبعدها عن صدره، مسكها من كتفيها وهو يقول والدموع تملأ عينيه:لكنها أنقضت عليه مرةً أخرى، تمسكت بصدره...
أرجوك حسسني بالأمان...
عادت لتهمس، لم تكن تقوى على الكلام، تخاف أن يسمعها ذلك الثور، تتخيل أطياف شكله المجنونة.
- سي ...ذ..ب..ح..ني.
- ماذا تقولين يا ابنتي، لا أفهم؟!
صرخت، لم تتمالك أن تكتم أكثر، صرخت بقوة، بأقصى ما تستطيع، إنها لا تلبث إلا أن تُشبع ساديته، ربما سيهدأ في منزله الآن!!
الليلُ يزدادُ حلكة، تشعر بنفسها خفيفة، تُحلق في ثناياه، تدورُ مع نسيمه، تشتمه، انزلقت ببطء من ذلك الجسد، ببطءٍ شديد وصورة ذلك الثورُ المعربد تطوفُ أمام عينيها...
(3)...
فتحت عينيها بتثاقل، زادت من رمشها لعلَّ الصورة تتضح أمامها، رائحة المستشفى تملأ رئتيها، لها رائحة مميزة لا يخأطأها أي أنفٌ أبداً..تطلعت إلى أزواج العيون الثلاثة المحدقة بها، كان خالها و"ندى" جالسين بجانبها، أما "عمر" فقد بقي واقفاً عند الباب مكتفاً ذراعيه، شعرت بالخجل من الجميع....
التفتت إلى خالها وهي تسأله بغباء كما في الأفلام:ردت "ندى" بدلاً عنه:- أنتِ في المستشفى الآن يا ابنة عمتي.
وابتسمت، إنها تشبه أباها، بل تكادُ تكون نسخة مصغرة منه.
ردت لها "غدير" ابتسامة واهنة وهي تحاول أن تُسند نفسها..
ارتكزت بيديها على السرير لترفع جسدها، أفلتت من فمها صرخة قصيرة، وسرعان ما أرخت يدها، كانت مُجبرة...
هرعت "ندى" لتسندها على ظهرها، كادت دموعها تنزل لكنها حبستها إلى وقتٍ آخر، لم تنظر إلى أيٍ منهم، أطرقت فقط للأرض..
رفعت وجهها ببطء، كان ينظر لها بحنان، بحنان الأبوة، أيُّ قلبٍ تحمل، ليتك كنت معي...
أطرقت مرةً أخرى ولم تُجب.- لا تخافي يا ابنتي، أخبريني..
لازالت مطرقة، خرجت الكلمات من فمها متكسرة:تنهد الخال وهو يست
للأمانة
....