الفراشة أصبح فتيات Ftayat.com : يتم تحديث الموقع الآن ولذلك تم غلق النشر والمشاركات لحين الانتهاء من اتمام التحديث ترقبوا التحديث الجديد مزايا عديدة وخيارات تفاعلية سهلة وسريعه.
فتيات اكبر موقع وتطبيق نسائي في الخليج والوطن العربي يغطي كافة المجالات و المواضيع النسائية مثل الازياء وصفات الطبخ و الديكور و انظمة الحمية و الدايت و المكياج و العناية بالشعر والبشرة وكل ما يتعلق بصحة المرأة.
*المتمردة*
27-01-2022 - 03:34 am
  1. المطر........

  2. حلمٌ آخر دونتهُ في دفترها!!!!

  3. سالت الدموع مع الماء، اتحدت معه في صورة متماهية، شفافة لكن مخدوشة!!

  4. أجل ومن منا لديه صورة كاملة؟!!

  5. خاطبها دون أن يحول عينيه عن التلفاز:

  6. اشتري بسرعة ولا تتأخري.

  7. وأخيراً وجدته.

  8. أعوذ بالله من الشيطان الرجيم..

  9. بلى، يوجد، هو هو، أجل سأذهب إليه...

  10. غ..غ..غدير، معقول؟!

  11. ابتسمت، ازدادت ابتسامتها اتساعاً، لقد عرفها...

  12. (3)...


السلام عليكم ورحمة الله وبركاتة....
جيتكم بقصة جدأأأ رائعة....
ماأطول عليكم.....
إتفضلو القصة....
"أشعلتُ لقلبك شمعة"
(1)...
اليوم عطلة والنهار طويل، طويل لا نهاية له...
البيت هادئ على غير العادة، لاعجب فأمها وزوج هذه الأخيرة خرجا لا تدري إلى أين، ومنذُ متى أخبراها بشئ، هي تسمع فتُطيع ثم تسمع فتُطيع ثم تُضرب وتطيع أيضاً!!!
سارت الهوينى من على الدرج، تتأمل جدران البيت، ترى تشققاته، طلاءه الذي تكاد لا تميز لونه، أصبح قديماً مثلها ربما!!
وصلت للصالة، كان التلفاز مفتوحاً على قناة الجزيرة الرياضية، من غيره يشاهدها، تُراه أين ذهب؟!
دلفت إلى المطبخ لم تجده، سارت إلى الممر الخارجي، الميزة الوحيدة في هذا البيت أنهُ لم يكن مسقفاً!!
ركلت حصى اعترضت طريقها بأصابع قدمها الحافية إلاّ من دثار الأيام ومرارة الزمن، الترابُ ساخن قد كوتهُ الشمس، تشعرُ بحرارته تتماوج مع باطن قدميها، ومع ذلك تستعذبُ ذراته ورائحته خصوصاً حين يتحدُ مع المطر!!

المطر........

حلمٌ آخر دونتهُ في دفترها!!!!

حدقت في شمس الظهيرة وهي تستند على شجرة اللوز الضخمة، اتحدت مع جذعها الأجعف، فرقٌ شاسع بينها وبين هذه الشجرة، تلك لها جذور راسخة لا تُنتزع أما هي فلا تعرف لنفسها قرار أو مرسى، يا تُرى ماذا سيؤول إليه أمرها؟!
ضاقت عيناها الآن، كم من مرة حاولت أن تُطيل فترة تحديقها في الشمس، لكن بصرها لا يلبث أن ينقلب خاسئاً وهو حسير، ستدون هذه المحاولة الخامسة ربما في دفترها أيضاً....
التفتت لأفواجٍ من النمل الأسود تتسلق الجذع برتابة جندي، إحداها دغدغت ذراعها، انتابتها قشعريرة هزت جسدها فابتعدت لا شعورياً عن الجذع...
عن الجذع أم الجذور؟!
سمعت صوت سعلة مكتومة، مدسوسة بين الأزقة كلصوص الظلام...
التفتت لمصدر الصوت، وبخطوات لا تكاد تُسمع دارت إلى الجهة الأخرى، لقتهُ يُحني ظهره وهو يكح..
السجارة بيده قد احترقت إلى المنتصف ورائحتها الكريهة قد أغرقت المكان...
  • "مجيد" ماذا تفعل؟ زمجرت فيه بغضب.

التفت مذعوراً إلى الخلف، ألقى السجارة من يده وكأن أفعى لسعته، لم يجب فوراً كانت المفاجأة قد ألجمته.
  • تُدخن سجائر، ألا تخجل من نفسك، لازلت في الإعدادية وتُدخن.

استعاد رباطة جأشه بعد أن أطمأنّ من هويتها، نظر لها بإشمئزاز:
  • وما دخلكِ أنتِ؟
  • أنا أختك الكبيرة.

الإحساس بالقرف يتصاعد، يتراكم بحجم الثرى وبطول الثريا!!! في حنايا الوجه يرتسم نفور، بغض، كراهية، حقدٌ أسود...
  • أنتِ لستِ سوى خادمة في هذا المنزل، حشرة، بعوضة، كلما أراكِ أشعر بالقرف، كم ألعن اللحظة التي أصبحتُ فيها أخاكِ.

كلماته تنطلق بقوة، بسرعة، مغلفة بالطين، بالوحل، بكل شئٍ أسود!! كيف لا وهذا الشبل من ذاك الأسد!!
هوت بصفعة قوية على وجهه، ذهل في مكانه، هي أيضاً ذهلت من نفسها لكن ذهولها لم يستمر، إذ سُرعان ما سمعت صوت الباب الخارجي يفتح، دارت على عقبيها وهي تهرول إلى غرفتها، لا بد أنهم وصلوا، لا تريد أن تراه...
أغلقت باب غرفتها وهي تستند عليه، الدماء التي تجري في عروقها تكاد تُسمع من وقع ضخاتها، لا تدري أيهما طغى صوته على آذانها: دقات الباب أم دقات قلبها!!
أم تراها تتخيل ما تسمع؟!
تعالت الطرقات وهي ترتجف في مكانها.....
لماذا فعلتِ ذلك، لماذا صفعته، ألا تعرفين ابنُ من هو؟!
إنهُ ابنه، ابنُ الوحش، لكنها أخته أيضاً، أليس لها حقٌ عليه؟! أليس الدم الذي يسري بجسده جزءٌ منها..
خطأ، أنتِ مخطئة، فلقد أختلط بدمٍ آخر، دمٍ غريب، دمٍ منحط، دمٍ....
  • افتحي الباب يا بنت ال......."يشتمني أنا نعم، لكن لم يشتم مذهبي"....

شرعت بفتح الباب بإرتجاف وهل لديها خيار آخر؟!
لقد اكتشفت من تجاربها أنهُ كلما طال انتظاره في دق الباب زادت سياط ضرباته على جسدها، ستفتحه الآن ربما تهدأ ثائرته على لحمها وترتاح منه.
فتحته ببطء، ببطءٍ شديد، دفعهُ هو بقوة في وجهها، ترنحت للخلف، صرخ:
  • لِمَ ضربته؟

عيناها زائغتان، تلتفت يميناً وشمالاً، أيحاول أن يكون ديمقراطياً!!
"لم تسألني في كلتا الحالتين سأُضرب، سأُضرب حتى لو لم أفعل شيئاً"..
أرجوك أفرغ شحنة غضبك على جسدي، ولكن بسرعة، بسرعة شديدة، لا أطيق أن أرى وجهك الكريه، يقتلني ألف مرة....
  • ألا تُجيبين؟

اختنق صوتها في حنجرتها، كثيراً ما يخونها حين تراه، أنفاسها تجثو بهدوء، وكيف لا والجاثوم يقفُ أمامها!!
وبصوتٍ لا يكاد يسمع أجابته:
  • س..سجائر، رأيته يدخن سجائر..

هل رأيت الأوداج يوماً حين تنتفخ من حدة الغضب، انظر لرقبته وستعرف، حانت اللحظة الموعودة..
شدها من حجابها...
"أكرهه أكرهه أكرهه كم انتهك حرمتي في هذا المكان"....
حاولت أن تعيد شده لأسفل، لكنه ضربها على فمها بقوة...
سائلٌ حار يتدفق ويبلل الشفتين، يجري بسرعة بقوة زخات المطر، يتغلغل إلى اللسان وتستطعمه..
طعمه كريه لكنهُ دافئ يُشعرك بالخدر...
لم تصرخ كعادتها، بل عضت على نواجذها المتورمة كي تمنعها من الخروج، من زلزلة أركان هذا البيت المتهالك...
"صرختي هي تسليته الوحيدة في هذا البيت..أجل الوحيدة"!!
  • وما شأنك إذا شرب سجائر أم لا، ألم أقل لكِ ألا تتدخلي فيما لا يعنيكِ، كم مرة قلتُ لكِ ذلك.

دفعها على الأرض فسقطت على صدرها، كانت السقطة مؤلمة، أحست بعظامها تتهشم...
يا لهذا الوجع..
لم تقوى على الحراك ولا على الصراخ، لم تشفِ غليله بعد...
يا لهُ سادي، يلتذ بتعذيب الآخرين وسماع صراخهم، تباً له من رجل، بل تباً للرجال كلهم، كلهم دون استثناء!!
تقدم منها، أغمضت عينيها بقوة ووجهها لازال يقبّل الأرض، لا تريد أن تراه أو ترى ما سيفعله..
أفعل أي شئ وخلصني، أتُراه سيدوس على ظهري أم رأسي؟!
أرجوك أفعل أي شئ وأغرب، أغرب من هنا..
لم تشعر إلا بوقع حذائه الثقيل على أصابعها، يدعكها دعكاً ببطء وقوة، زاد من ضغطه، أصابعها تكاد تُسحق..أتراها لازالت باقية..أصابعي!!
مؤلم مؤلم مؤلم...
وصرخت بقوة، بأقصى طاقتها، بأقصى ما تصل إليه حنجرتها، وابتعد أخيراً، رفع حذائه عن أصابعها، الخدر يدبُّ في أطرافها بهون، ليس بها حاجة لتفتح عينيها، لا بد أنهُ يبتسم الآن، لقد أرضى ساديته...
  • إذا لمسته مرةً أخرى سأكسر لكِ يدك الأخرى، أسمعتي؟

ثم خرج....
لم تقوى على رفع جسدها، أصابعها لا تتحرك، وخزاتٌ كنصل السكين تنبض عند قمم أصابعها والخدرُ يسري في الجسد كالتيار، يمنع أجهزة الجسم المعذب من العمل..
ليتني أبقى هكذا للأبد!!
حركت جفنيها بإضطراب، نظرت إلى اليد المدعوكة، انسحق الجلد، أصبح لونهُ داكناً، سال الدم وردياً يلمع بين طياته، حزّ في نفسها منظرها...
لقد تشوهت يدي...
وددتُ لو أصرخ، أن أبكي، ولكن طاقتي كانت قد استنفذت، لم يتبق إلا الأنين.....
أنّت بصوتٍ متقطع وكبدها تتلظى، جسدها يهتز، يهتزُ بعمق، بقوة، نكأته الجروح وأعياهُ السهاد..
لحظة!!! جروح الجسد أم جروح الذاكرة؟!!
ثم جاءت، طالما أتت بعد أن ينتهي هو، تأتي بدمعتها دوماً، تحاول أن تعتذر...
أتيتِ تعتذري عمّاذا وماذا؟!
جثت بجانبي، تمسح على ظهري، لكني لا أشعر بشئ..
ألم أقل لكم أنّ جسدي مخدر!!
كم أكرهها، أكرهها أكثر منه، صدقوني، هي أمي أعرف، لكنها زوجته، زوجته التي لا تقدر أن تنطق بكلمة أمامه، لا تقدر أن تفعل شئ، فقط تبكي، يا لدموعك!! يا لضعفك، أنتِ عارٌ على الأمهات، عارٌ على الأمومة..
أكرهك أنتِ السبب، لم تزوجتِ هذا الشيطان؟؟ ألكي تعذبيني، لتشقيني، لتدفنيني حية؟!!
أرتفع أنينها....
لا أطيقُ قربها مني....
نظرت إلى اليد المسحوقة وهي تشهق بالبكاء، رفعتها فندت من الفم صرخة:
  • إنها تؤلمني، دعيها...

تركتها وهي تزدادُ نحيباً، انصرفت لتعود بثلج وكمادات تضمدها...
تركتها تفعل ما تشاء وعيناي تكادات تقفزان من محجريهما حين تحركها، الألم أشد من شفرة السكين يقطعني تقطيعاً، كأنهُ جمرة تكويني، تحرقني، تلسعني بسياطها...
أمسكتها من خصرها، كانت لاتزال تلامس الأرض، تستمد الأمان منه، تطفئ لهيب قلبها، تُثلج صدرها قليلاً، فالصور ستتكرر قريباً ، لاتلبث أن تُعاد ولكن بيدٍ أخرى ألظى!!!
أجل...قريباً!!
رفعتها وهي تشعر بالتهالك، الإجهاد حطمها، بدت كقطعة لحمٍ عاجزة تتقلب على فحم، سرعان ما يتحول إلى رماد، أترى أسفله أي شئ؟!!
مررت اللحاف على جسدي، أشعر بدماغي يكاد ينفجر، بزغ الألم، لقد زال الخدر..
لمَ زال، كنتُ أفضل منذُ قليل..
قبلتني على جبهتي ووجهها مغرقٌ بالدموع.....
منظرها يمزقني أكثر من آلالام جسدي، يغيظني، يفتتني، أرجوكِ ابتعدي، لا أريد أن أرى وجهك، أنتِ مثله، بل أقسى منه، أنتِ السبب، لمَ تزوجته، لمَ؟!
أغلقت عيني لعلّها تفهم الإشارة وتنصرف، لكنها بقيت بجانبي، تنظر إلي وتبكي بصمت....
نامت "غدير"، لم تكن تدري أكانت نائمة أم تهذي!!
أكانت تحلم..أكان كابوساً؟!
يا ليت....
(2)....
لا أدري كم مرّ عليّ من الوقت وأنا نائمة.....
كان جسدي يشتعل بالحرارة، طنين في أذني وفي يدي، نظرتُ إليها، إذن لم أكن أحلم، فللتُ الرباط قليلاً.....
لونها قد أصبح غامقاً، أختلط لون الجلد الأبيض بثنايا زرقاء داكنة، حاولت تحريكها فعاد الألم قوياً قوياً..
نظرتُ حولي فلم أرها، ذهبت، أجل ذهبت، ربما منعها وهي أطاعت، اختارتهُ هو بجسده الذي يشبه الثور وتركتني أنا بأضلعي المتكسرة..
سمعت صرير الباب، التفتت نحوه، الإكرة تتحرك ببطء، لكأن من يمسكها يودُّ أن يفاجأ من بالداخل، يقبض عليه متلبساً!!
أخذ يحدق بها وهي على الفراش، تقدم منها وهو لايزال يتفحصها، ألقى عليها شيئاً، كانت 3 دنانير...
قال بصوتٍ باردٍ مثله:
  • يقولُ لكِ أبي خذي هذه النقود واذهبي للبقالة لتشتري زجاجتي حليب وبيض وماء لقاح.

نظرت له مبهوتة، كلماته ألجمت لسانها، أنستها الألم بأم عينه..
  • يقول لكِ اذهبي بسرعة قبل أن يحل المغرب، وتعالي فوراً.

الأخوة تتلاشى والروابط تنعدم، تنفلت، كقشة، كريشة، ها هي تطير، تطير، ولكن أين هي وأين الجاذبية!!
لاتلبث أن تهوي، تهوي رغم أنفها، تهوي لأن الحياة هكذا، والقوانين تقودك، تحطمك لا يمكنك الفكاك منها، أين أنت يا "نيوتن" أين أنت؟!!
  • أتمنى أن تكوني قد استفدتِ من درس اليوم وتعلمتي ألا تتدخلي فيما لا يعنيكِ..

لم تجب عليه، لسانها ثقيل ينوءُ بحمله، يرزء بتلال الألم والحسرة...
وقبل أن يغادر، التفت إليها وهو يبتسم ابتسامةً كريهة كأبيه:
  • اشتري بالباقي علبة سجائر لي..

"بأس ما أنجبتي يا أمي"..
حدقت في تلك الأوراق الحمراء التي التفّت حول نفسها، تأملتها طويلاً وهي تزفر، حركت أصابع يدها اليسرى بتعب لتلامسها، قبضت عليها، جعدتها وأبقتها هكذا في كفها الصغير..
أطبقت جفنيها باستسلام، ولقد أنزوى في جانب المقلة شيءٌ كابدته، حاربته، قاومته طويلاً، لكنهُ انتصر و ها هو يعلق بأهدابها ندياً وهي صاغرة....
جرجرت نفسها من السرير جراً، كانت يدها اليمنى بجانبها، تحاول عدم تحريكها ولكن هيهات..
جسدها يهتز وهي تهتز وشعر جسدها يهتز أيضاً من شدة الألم..
ذهبت إلى الحمام لتغتسل، لتبرد اللهيب المستعر بداخلها، لتمرر الماء على صدرها لعلهُ يخترق الجلد وينفذ إلى القلب، يطفئه ويثلج خواطره المجنونة..ظلم، هذا ظلم ظلم ظلم...

سالت الدموع مع الماء، اتحدت معه في صورة متماهية، شفافة لكن مخدوشة!!

أجل ومن منا لديه صورة كاملة؟!!

أحست بالراحة قليلاً، بالإرتخاء، البخار يتصاعد، يُثير فيها النعاس، ترنحت في خطاها، ارتدت ملابسها وعباءتها بوهن، فتحت درجها الصغير، تناولت حبتي بندول، وأعادت ربط الضماد بخفة وهي تمسح عليها بحنو أقرب إلى هدهدة القطط..
خرجت من غرفتها، لقتهم في الصالة، هي وزوجها وابنهم يشاهدون التلفاز وكأنَّ شيئاً لم يكن، كأنها ليست منهم، بل مجرد قطعة ناشزة!!
لم يدعوني يوماً للجلوس معهم، لم يحسسوني بإنتمائي لهم..

خاطبها دون أن يحول عينيه عن التلفاز:

اشتري بسرعة ولا تتأخري.

"اخرس أيها الظالم، يا عديم الرجولة، ترسلني للبقالات وأنا فتاة وأنت في البيت، وأنتِ أيضاً لا تنظري إليّ هكذا بوجهك ودموعكِ البلهاء، أنتِ لا تستحقين لقب أم، الأمومة تتبرأ منكِ، أكرهكِ وأكرهكم جميعاً، متى أرتاح منكم، متى؟!!"
سارت ببطء، لم يكن المكان بعيداً، تشاهد المارة والسيارات وتتصفح الوجوه لعلها تجد كتاباً مثلها، صفحة ألم تشبهها، تواسيها، تقرأ فيها حروف الظلم والقهر واليتم..
لو كان أبي موجوداً، لو كان لي أب يحميني، يواسيني، يدفع عني جرعات الظلم، لو...
أستغفر الله، لو تعمل عمل الشيطان...
وصلت إلى البقالة، لتنفذ أمراً آخر....
حملت السلة الصغيرة بيدها اليسرى بصعوبة، نقلت بصرها حول المكان، تبحث عن زجاجات الحليب والبيض وماء اللقاح!!
وضعت السلة على الأرض ثم أمسكت البيض ووضعته، ذهبت إلى الثلاجة ووضعت علبتي الحليب أفقياً بجانب البيض كي لا ينكسر، حملت سلتها لتبحث عن زجاجة ماء اللقاح الذي يعشقه زوج أمها وتكره طعمه هي..

وأخيراً وجدته.

لم تشأ أن تنزل السلة من ذراعها اليسرى مرة أخرى، رفعت يدها المضمدة ببطء نحو الزجاجة، أمسكتها من زندها وحاولت أن تضغط عليها بقوة لتلامس جذعها، لكن مظهر الزجاجة المصقول لم يكن خادعاً، أخذت تنزلقُ بنعومة شيئاً فشيئاً وهي تزيد من الضغط عليها..
ودون مقدمات.....
ودون رحمة....
سقطت، وتناثرت قطع الزجاج في أرجاء المكان..
سال الماء ليبلل القطع، يزيدها لمعاناً ويزيدُ قلبها حرقة، رددت بهمس:
  • انكسرت..انكسرت، ماذا أفعل يا ربي، سيقتلني، لا أملك نقوداً أخرى، سيذبحني، رحماك يا رب رحماك..

جثت على الأرض، تراقب الزجاج المتناثر بعينين زائغتين.
  • ماذا أقول له؟! أقول الحقيقة، لكن لا لا، لن يصدقني.

هزت رأسها وهي تخاطب نفسها:
  • غبية، غبية، غبية.

وانحدرت الدموع من عينيها بصمت.....
أتعرف إلى أي مدى يقودك اليأس والخوف؟!!
كان بريق الزجاج مغرياً، يجذبك لتلامسه، لتتحسسه، لتتأكد من حدة شفرته، أيقطع بسرعة كلمح البصر دون ألم؟!
نظرت إليه من بين دموعها، لازال يناديها، يدعوها بإغراء، مدت يدها اليسرى وهي ترتجف، لا تدري يدها التي ترتجف أم القطعة كانت ترتجف؟!!
مجرد ضغطة قوية نحو العروق وينتهي كل شئ، ينتهي الألم، ينتهي العذاب وكل أيام الشقاء، ترتاح من وجوههم، من ظلمهم، من هذه الحياة..
سيسيل الدم عبيطاً بلذعة وستتألم في البداية ربما، لكنها عروق، والعروق نبض الحياة، سيكون الأثر قاضياً إذن..
لكن ماذا لو أنقذها أحدهم في اللحظة الأخيرة؟!
هزت رأسها بقوة، أسقطت القطعة من يدها، رنت على البلاط، تتراقص بخفة حول هودج الموت، ها هي تستقر أخيراً على الأرض حيثُ مكانها الحقيقي..

أعوذ بالله من الشيطان الرجيم..

أنهضت نفسها بصعوبة، دفعت ثمن زجاجة اللقاح المكسورة وباقي الأشياء، تمشي دون أن ترى الطريق بعينيها، عاد ألم يدها بقوة والوخز لا يكف عن جنونه..
  • ماذا أفعل الآن، أأعود للمنزل ليكسر ضلعاً آخر من جسدي، أأعود لذلك السادي وأترجاه أن يسامحني وأن يقتص من مصروفي حتى أسدد ثمن الزجاجة وأشتري أخرى، ماذا أفعل؟أغمضت عينيها وهي تسير، كانت شمس المغيب قد ألقت بظلالها على الجميع والطيور قد سارت لتختبئ في أعشاشها فقد حان وقت المبيت، خفت حركة البشر، والطريق إلى المنزل يبدو طويلاً طويلاً لا نهاية له، أتلقى حتفها اليوم؟! ربما...

سمعت صوت بوق سيارة خلفها، نظرت وراءها، كان شاباً يلاحقها بسيارته، يسير ببطء بجانبها، تكلم كثيراً وفي أشياء كثيرة، لم تكن تسمع أي شئ، لم تكن تقوى على استيعاب أي شئ آخر سوى الزوبعة التي تنتظرها في المنزل...
عادت إلى واقعها ونظرت إلى الشاب...
من هذا وماذا يقول هذا المجنون؟!!
غيرت مسارها وسارت بسرعة في طريقٍ آخر لا يؤدي إلى المنزل، كانت تمسكُ الكيس بيدها السليمة، لا تدري أسيبقى لها عظمٌ سليم هذا اليوم!!!
عاد الشاب ليلاحقها، خافت فأوقفت سيارة أجرة..
"أين أذهب يا ربي..ليس لدي مكان أختبئُ فيه، أين أذهب، كل الطرق مسدودة..."

بلى، يوجد، هو هو، أجل سأذهب إليه...

أعطت السائق العنوان، ثم أغمضت عينيها بقوة وهي تتنهد...لطالما كان يزورهم على أيام حياة والدها، تسترق من وجهه نظرات الحنان والشفقة، يحضر لها دمى وقطع الشوكلاته بعد أن يمط وجنتيها المكتنزتين بقوة، غاب الآن وغارت وجنتاها فقد منعه "حميد" من أن يلامس عتبة بيتهم حتى!! وكان ذلك منذُ خمس سنوات، آخر عهدهم به وبأبيها....
نقدت السائق 500 فلس ثمن السجائر التي أوصاها "مجيد" بها...
"لو قُطعت يدي الأخرى ما اشتريتُ له هذا السم"..
سارت تترنح في مشيتها، وقفت أمام سورهم، فقد عاشت هناك لمدة عام قبل أن تتزوج أمها مرةً أخرى، كانت أياماً جميلة حقاً..
أُعيد ترميم البيت وأعيد طلاءه، بدى كبيراً وجميلاً، أشياء كثيرة تتغير في لمح البصر..
دقت الجرس، انتظرت كثيراً حتى فُتح، ظهرت خادمة أندونيسية في وجهها، خاطبتها بتعب:
  • بابا "محمد" موجود؟

هزت الخادمة رأسها بإيجاب ولكن دون أن تسمح لها بالدخول.
  • بابا "محمد" في المزرعة هناك. وأشارت بيدها للقطعة الخضراء الملاصقة للبيت.

شكرتها وهي تجرُّ نفسها وتجرُّ الكيس معها، مضى وقتٌ طويل، لا بد أن الثور الموجود في بيتهم قد أظهر قرنيه!!
سارت الخادمة أمامها، كانوا قد أقتربوا...
تناهى إلى مسمعها ضحكات تخرج من القلب صافية، من القلب إلى القلب..
"أيوجد في هذا العالم شئ يُضحك؟!!"..
أحست بالغيرة، بالحسد ربما، هؤلاء يتجرعون من الحياة حلوها، عذوبتها، أما هي فتتجرع العلقم، العلقم فقط..
رائحة الشواء تملأ المكان، لم تتناول شيئاً منذُ الصباح، معدتها تصارع الجوع، تتلوى، لا بد أن الغشاء المخاطي المبطن لمعدتها قد انقلب على عقبيه!!!
  • إلى متى سأظل انتظر لبس الفستان، أريد أن ينبهر الجميع بجمالي.

ضحك الجميع على تعليقها، لكنها أكملت:
  • حراام، ناصر أصغر منك وتزوج، عمرك 28 عاماً ولا زلت عازباً...

ابتسم "عمر" في وجه شقيقته الصغيرة، لقد أخذت دور الأم مبكراً بعد وفاة والدتهم.
  • يا حبيبتي، ما لي والزواج؟! يكفيني صداعك، أنتن تجلبن الهم للرجل مبكراً، لا يوجد شئ أحلى من العزوبية..

التفت "ناصر" لزوجته وهو يغمز:
  • صدقت في هذا، ليتني سمعتُ نصيحتك هذه من قبل.

ضربته زوجته على كتفه وهي تضحك والجميع يضحك معهم.
  • اشتقت للعزوبية؟! لولاي ما عرفت أن تربط خيط حذائك.

وتظاهرت بالغضب فذهب ليراضيها.
  • انظروا "أشار عمر" انظروا كيف يذل الرجل نفسه هكذا بعد الزواج.

وضعت "ندى" يدها على خصرها وهي تهزُّ نفسها:
  • نحنُ ملح الحياة بدوننا لا تساوون شيئاً.

صفر الجميع لكلامها فشعرت بالخجل، أحاطها والدها بذراعيه وهو يثني على كلامها:
  • صدقتِ..

وشرد قليلاً يتذكر ملح حياته التي ذهبت، حياته بدونها أصبحت لا طعم لها..
أحسّ الجميع به، فحاولوا أن يغيروا الموضوع، لا زال يذكرها، لم ينسها بعد رغم مرور عامين....
  • بل قولي نحنُ شرٌّ لا بد منه. ردّ ناصر.

ضحك الجميع وندى تنظر لهم بغيظ.جاءت الخادمة الأندونيسية لتخبره عن الزائرة، كانت واقفة على مسافة بعيدة، لم يلاحظوها.
  • من هذه؟

أشار لها بيده كي تقترب، ترددت في خطاها، لقد جنَّ الليل والثور في البيت لا شك يُعربد وقد شحذ قرنيه..
صمت الجميع يرقبون الزائرة الغريبة، زاد ترددها، أرادت أن تعود إلى حيثُ كانت، لا تريد أن تتطفل على الآخرين....
بانت ملامحها، شهق الأب وقد اتسعت عيناه:

غ..غ..غدير، معقول؟!

ابتسمت، ازدادت ابتسامتها اتساعاً، لقد عرفها...

هرعت إليه تحضنه، تتعلق برقبته كما أيام الطفولة وهي تبكي والجميع ذاهل..أسقطت الكيس الذي بيدها، لايهم، ينكسر البيض، يتسرب الحليب، المهم أنها وجدته، وجدت ذلك الحضن الدافئ، صدرٌ تستند عليه، يحسسها بالأمان ولو بشكلٍ مؤقت!!!
  • خالي ..... خالي.كان جسدها يهتز مع شهقاتها، خمسُ سنواتٍ لم ترهُ فيها، خمسُ سنواتٍ عمرٌ طويل أليس كذلك؟!

زادت من تطويقها لرقبته، بالرغم من شعورها بالألم في يدها، لا تريد أن تفلته، لا تريد أن تترك هذا الصدر حتى لو قطعت يدها!!!
قربت شفتها المتورمة من أذنيه لتهمس بإرتجاف:
  • سي ...ذ..ب..ح..ني.

أبعدها عن صدره، مسكها من كتفيها وهو يقول والدموع تملأ عينيه:
  • ماذا تقولين يا ابنتي؟

لكنها أنقضت عليه مرةً أخرى، تمسكت بصدره...
أرجوك حسسني بالأمان...
عادت لتهمس، لم تكن تقوى على الكلام، تخاف أن يسمعها ذلك الثور، تتخيل أطياف شكله المجنونة.
  • سي ...ذ..ب..ح..ني.
  • ماذا تقولين يا ابنتي، لا أفهم؟!

صرخت، لم تتمالك أن تكتم أكثر، صرخت بقوة، بأقصى ما تستطيع، إنها لا تلبث إلا أن تُشبع ساديته، ربما سيهدأ في منزله الآن!!
  • سيذبحني.

الليلُ يزدادُ حلكة، تشعر بنفسها خفيفة، تُحلق في ثناياه، تدورُ مع نسيمه، تشتمه، انزلقت ببطء من ذلك الجسد، ببطءٍ شديد وصورة ذلك الثورُ المعربد تطوفُ أمام عينيها...

(3)...

فتحت عينيها بتثاقل، زادت من رمشها لعلَّ الصورة تتضح أمامها، رائحة المستشفى تملأ رئتيها، لها رائحة مميزة لا يخأطأها أي أنفٌ أبداً..تطلعت إلى أزواج العيون الثلاثة المحدقة بها، كان خالها و"ندى" جالسين بجانبها، أما "عمر" فقد بقي واقفاً عند الباب مكتفاً ذراعيه، شعرت بالخجل من الجميع....
التفتت إلى خالها وهي تسأله بغباء كما في الأفلام:
  • أين أنا؟!!

ردت "ندى" بدلاً عنه:
  • أنتِ في المستشفى الآن يا ابنة عمتي.

وابتسمت، إنها تشبه أباها، بل تكادُ تكون نسخة مصغرة منه.
ردت لها "غدير" ابتسامة واهنة وهي تحاول أن تُسند نفسها..
ارتكزت بيديها على السرير لترفع جسدها، أفلتت من فمها صرخة قصيرة، وسرعان ما أرخت يدها، كانت مُجبرة...
هرعت "ندى" لتسندها على ظهرها، كادت دموعها تنزل لكنها حبستها إلى وقتٍ آخر، لم تنظر إلى أيٍ منهم، أطرقت فقط للأرض..
  • غدير.

رفعت وجهها ببطء، كان ينظر لها بحنان، بحنان الأبوة، أيُّ قلبٍ تحمل، ليتك كنت معي...
  • من فعل بكِ هذا؟! حميد؟؟

أطرقت مرةً أخرى ولم تُجب.- لا تخافي يا ابنتي، أخبريني..
لازالت مطرقة، خرجت الكلمات من فمها متكسرة:
  • لا....لا أحد.

تنهد الخال وهو يست


التعليقات (6)
*المتمردة*
*المتمردة*
القصة منقولة.....
للأمانة
....

آنسة دموووعة
آنسة دموووعة
وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته
القصة مرا حلوة قراتها من منتدى تاني وانصح البنوتات يقروها لانها منجد روعة وقمة الروعة
ومشكورة على امانتك حبوبة وتسلمي على نقلها وماتقصري
سلام

*المتمردة*
*المتمردة*
العفو لك أنسة دموعوعة....

*المتمردة*
*المتمردة*
لية ماأشوف تفاعل.....
وقفت أمام باب مكتبه عدة مرات، كلما همت أصابعها بأن تخدش خشبه أو تخدش وجهه!!! عادت لتضم يدها إلى جانبها من جديد...
وأخيراً، بعد عشر دقائق استجمعت شجاعتها وهي تردد كل الآيات التي حفظتها منذُ طفولتها، طرقته بخفوت فربما لا يسمعها وتعود إلى مكتبها، لكن صوته الجاف وأد أحلامها الخائبة.
- تفضل.
"أعوذُ بالله".دخلت وبيدها الملف الذي أعطاها إياه بالأمس، لم يرفع نظرهُ إليها بعد، كان منهمكاً في توقيعِ أوراق..تنحنحت لعل صوتها يخرج من احتباسه الأزلي كلما رأته.- لقد راجعتُ الحسابات أستاذ.- والنتيجة؟! سألها دون أن يرفع رأسه بعد.- جميعها صحيحة.
حينها فقط رفع رأسه وأشار لها بأن هاتيه، مدتهُ إليه من بعيد، لكن يدها لم تصل إليه.
- اقتربي، لم أنتِ واقفة هكذا؟!
"أحقاً لا تعرف!!!"
تقدمت فتناولهُ منها، أخذ يتصفحه وهو يغمغم:- إذن كل العمليات الإحصائية صحيحة؟!- أجل.
وفجأة، ألقى الملف الذي بيده بقوة فأجفلت، وبقيت تنظر له بتعجب من نزوات غضبه الغريبة.صاح في وجهها:- صحيحة؟!! يا آنسة، هذا الملف قد تم مراجعته عدة مرات من قبلي وقِبل بعض الموظفين، واشتمل على 6 جداول إحصائية خاطئة، وتقولين جميعها صحيحة؟!!!
فتحت عينيها بدهشة على وسعهما ورددت دون تصديق، ودون أن تبالي بصياحه:- لقد راجعته من قبل، وجعلتني أُعيد مراجعة ملايين الحسابات التي تحويه؟!
- كنتُ أريد أن أتأكد، ما إذا كان هناك شئ في العالم اسمه ضمير، دقة، أمانة.
العينان تكادان تخرجان من محجريهما واللسان ينطلق دون قيود، أخذت تهتف وهي تشير لوجهها:- انظر..انظر لعيناي، كيف أصبحتا حمراوين، لم أنم البارحة إطلاقاً وأنا أراجع هذه الحسابات المطبوعة بآلة من العصر الحجري.
نظر إليها دهشاً من جرأتها وعفويتها في الكلام:- وما شأني أنا إن نمتِ أم لا؟!
صاحت بتقطع وصدرها يعلو ويهبط بإضطراب:- أنت..أنت..- أنا ماذا؟ تكلمي.. سألها ببرود.
"أنت حقير، نذل، جبان، أنت مزبلة التاريخ، بودي أن أخلع حذائي وأحطم جمجمتك".
عادت لتعض على نواجذها بقوة لبضع دقائق، ثم أفلتت شفتيها وهي تزفر بحقد:- لاشئ يا.. يا أستاذ..
حدجها بنظرة هازئة وكأنه علم بأنها لن تقدر أن تنطق حرفاً.
فتح درج مكتبه، وأخذ يعبث فيه دون أن يحول عينيه عنها.- أيمكن أن أنصرف الآن؟- لحظة..انتظري.
وأخرج شيئاً ما:- خذي هذه حسابات أخرى تخص بنك "......" راجعيها و افتحي هاتين العينين المكحلتين جيداً..- هذا ليس كحلاً، هذه هالات سوداء من أوراق البارحة. قالتها ودموعها توشك أن تطفر من الغيظ.لم يبالي بما قالته، تأمل بإهتمام تغير ألوان وجهها بالتدريج.
كانت تتطلع إلى الملف الذي لو تُرك له المجال لينطق، لأنًّ من ثقله!!
- هذا كثير!! هذا الأسبوع زواج إحدى قريباتي و.....
"يا رب تكثر عليك العقارب والأفاعي".
قاطعها وهو يعنفها:- وهل نحنُ نلعب؟! هذا عمل، ما دمتِ لستِ نداً لهذا النوع من الأشغال لم أخذتِ تخصص محاسبة.وأردف:- أنا لا أحب التلكأ أو التبريرات الواهية للتهرب من العمل..ولا تُدخلي شؤونك الخاصة في العمل، مفهوم؟!- ...................
- لم أسمع جوابك، أم أن كلامي لا يعجبك؟!
"لا يعجبني!! يا أخي أنت بأكملك لا تعجبني".
- مفهوم يا أستاذ. أجابت بذّل.واستدارت لتعود من حيثُ أتت، تسبقها آلالاف الدعوات عليه طبعاً!!!- يا آنسة..- نعم؟!- وجهكِ منتفخ...تنفسي ببطء، ليس جيداً لصحتك هذا الاحتقان.
وكادت أن تتعثر بالسجادة المبسوطة في مكتبه:- انتبهي أثناء سيرك أو ارتدي نظارات ما دمتِ لا ترين جيداً...
وما أن خرجت من مكتبه حتى أخرجت الصرخة التي كانت قد كتمتها طويلاً,,,
ولكنها، لم تجد إلا الجدران وحدها لتتلقفها!!!
- ماذا سترتدن في الحفلة؟ سألت "شيماء"- أنا عن نفسي لا أملك ثوباً، سأطلب من والدي نقوداً لأشتري شيئاً جديداً.
- وماذا عنكِ "غدير"؟!- أنا؟!- أجل..- أنا لن أذهب، لا أعرف أحداً، ماذا سيقولون عني؟! "أطرش في الزفة".- يا عزيزتي، لقد بتِّ فرداً منا، يا حرم أخونا المصون.
حدجتها "غدير" بنظرة نارية، وعادت لتكتب شيئاً في دفترها..لا أفهمه، لا أعرفه!!من؟!!قالوا عنهُ زوجي...وأغلقت الدفتر بشرود...
- ماذا قلتِ؟! عادت "شيماء" لتسألها.- ام، لا أدري.- ستأتين رغماً عن أنفك. ردت "ندى".- لاأملك مالاً.- والدي لن يبخل أبداً على ابنة أخته..قاطعتها "شيماء" وهي تغمز عينيها:- ولم عمي؟! الآن أصبحت في ذمة رجل آخر مسؤول عنها.
وضحكت الفتاتان و"غدير" تنظر لهما بحنق، ودثرت نفسها بغطاءها لعلها تهجع وتسلم من لسانهما.
"يا ليت!!"
- ندى قومي، قومي..- آ..آآه ماذا تريدين؟- أريدُ أن أشرب كوب ماء.- اذهبي واشربي.
وعادت لتتدثر في فراشها من جديد.- ندى، أنا أخاف من الظلام، قومي معي.
من الظلام أو من ذاك الذي يترصدُ بك في الظلام!!
- أريد أن أنام..المدير الحقير...- أيُّ مديرٍ تتحدثين عنه؟!
لكن الأخيرة لم تجبها، فرأسها مثقل من حسابات الأمس واليوم، والمعادلات وعلامات الجمع والطرح تطنُ بجنون أمام عينيها كأزيز نحلة!!
تطلعت إلى النائمة بيأس....
أأنبأكم إحساسكم يوماً أن شيئاً سيئاً سيحدث إن فعلتم هذا الشئ، ومع ذلك تفعلونه؟!!
ارتدت "غدير" حجابها بيدٍ ترتجف، ها هي تفتح باب غرفتها ببطء كلصة تتسلل بين الأزقة....
صوبت بصرها إلى الغرفة المجاورة، كان الهدوء والظلام سيدا المكان بلا نزاع..
مشت على أطراف أصابعها....
اللهيب يتراقص والفراشة تهوي إليه رغماً عنها، تتراقص بخفة حوله، تفرد جناحيها الجميلين، وفي لحظةٍ ما، تسقط!!!!
أجل تسقط...
فأنى لجناحيها أن يتحملا قسوة تلك النار...
احذري يا غدير، احذري...
وصلت إلى هناك، كان مصباح المطبخ مولعاً، توجهت إلى الثلاجة وسكبت لها كأساً.
لم تنتبه إلى الظل الذي بقى واقفاً يتأملها وهي تزدرد الماء.
وحين همّت بإرجاع الكأس لمكانه، هتف بسرعة:- انتظري.
والتفتت إلى مصدر الصوت، كان واقفاً بمحاذاة الباب وعيناه الخضراوان ترصدان تحركاتها...على شفتيه ابتسامة، ماذا عنها هي؟!!
استندت بضعف بجانب الثلاجة، تنفسها بات سريعاً، متلاحقاً، ونبضات قلبها تدق بجنون...لسانها يتثاقل، والصوت يخرج بخفوت، بتقطع:
- أنت..أنت ماذا تريد؟رفع يديه إلى أعلى ببراءة موضحاً:- أريدُ فقط كوب ماء.- أنت تكذب، تعتقد أن خدعتك ستنطلي عليّ...- كم أنتِ واهمة كثيراً بنفسك..هيا اعطني كوب ماء.- لن أُعطك شيئاً.- إذن سآخذهُ بنفسي..
صرخت مهددةً وهي تنكمش على نفسها:- لا تقترب.- اخفضي صوتك أيتها المجنونة.
الكأس يكاد يتحطم، يتلاشى بين أصابعها، الضغطُ على الكأس وفي الهواء يزداد، وإن كان الكأس من زجاج فما بين الضلوع أرق من أكسير..
عادت لتنكمش، لتنزوي بعيداً عنه، الصدرُ يعلو ويهبط بقوة، والامتقاع يلون وجهها بألوان شفافة، خالية من أي لون!!!
صاحت فيه بيأس:- قل لي ماذا تُريد وخلصني.- أريدُ كأس ما، لم لا تصدقين، ماذا في رأسكِ هذا؟!
رددت بشرود:- تريدُ ماء؟!- أجل ماء..ماء فقط، ليس في نيتي أي شئ آخر!!
تطلعت بداخل الكأس لثواني، ثم عادت لتنظر إليه، على وجهه علامات تساؤل، تعجب، تفكير!!!
حاجباه التصقا معاً بصرامة، وشئ ارتسم في عينيه، عادت لتسأله بصوتٍ شارد:- تريدُ ماء؟!- أجل ماء. أجابها متفحصاً.
فتحت باب الثلاجة من جديد، سكبت الماء في الكأس، ها هو يطفو ويلامس حافته.
مدتهُ إليه بيدٍ ترتعش، الماء قد بدأ ينسكب شيئاً فشيئاً على الأرض واليد لا تتوقف عن الاهتزاز...
تقدم منها ببطء، العينان الخضراوان تعكسان شيئاً غريباً، تكادان تنطقان:
لماذا؟!
مدّ يدهُ هو الآخر، تابعت هذه اليد الممدودة وهي تقترب ببطء، أنامله كادت تصل ولم يتبقى من الكأس إلا ثلثه!!!
وما أن مسّت أصابعه حافته حتى أسقطته، وانتثر زجاجه على البلاط..
شهقت وهي تلطمُ وجهها، أخذت تنظر بهلع إليه وإلى الزجاج، هزت رأسها بجنون نافيةً وهي تصيح بصوتٍ مبحوح:
- لم أقصد أنا..لم أقصد..- لا بأس..لايهم.
واقترب منها محاولةً تهدئتها، صرخت بجزع وهي تحمي نفسها بيديها:- لا تضربني..- لن أضربك..
لكنها لم تكن تسمع، لازالت تتراجع ويديها تغطيان وجهها برعب.
وأحاطها بذراعيه بقوة، رغم احتاجها، رغم ممانعتها، رغم الخدوش التي خدشتهُ بها!!!!
لازالت تقاوم، كلبؤة هي...
كلبؤة أم طيرٍ جريح؟!!!
هزها من ذراعيها بقوة لعلها توقف صراعها المحموم معه...
أجنحة الفراشة تتكسر، تذوي واللهب لازال مشتعلاً، لازال يتراقص بخفوت فوق ذُبالته...
عادت لتسأله بوهن من بين دموعها:- ماذا تريد؟!- قلتُ لكِ لا أريدُ شيئاً..عاد ليضمها بقوة ليطفأ مقاومتها الأخيرة، فالجسد بات واهناً، أضعف من أن يقف صامداً أمام اللهب!!
بكت كثيراً على صدره، يدها لاتزال تهوي على كتفيه بهون، والشهقات لا تتوقف..
أيُّ زمنٍ توقف لتلك الصورة الفريدة....
أتراها ستتكرر؟!
صوت بكائها يخفت، يذوي كذُبالة الأمس، واليد تتوقف...
وهناك، في سمرة الليل، عينان تسمرتا:- "عمر"..."غدير"!!!نزعت "غدير" نفسها وهي تشهق من صوت الأب المستنكر....أخذت تجول بصرها بين الأثنين بذهول، بتعجب، دهشةً هي من نفسها...
وحين أفاقت، ركضت إلى غرفتها وهي تتخطى صوت الأب المستنكر...
الريح تصفر في الخارج....
وقد بدت نجوم السماء قلوباً واهنة تنبضُ من بعيد....
وهناك في غرفةٍ ليست ببعيدة، انساب نشيج يشبه نشيج الميازيب في مواسم المطر!!!
ويبقى صوتُ الأب هو الفاصل...
تُرى ماذا تحمل الأيام القادمة ل:غدير، عمر، ندى؟!!!انتظروني....لاأنام....
أبعدتُ عنك سيدي فؤادي
فارجع إلى طبائعِ الاستبدادِاغضب وصح فلن يضجّ مسمعي
لأنني أسمعُ في حيادِالحبُّ مات بيننا لأنهُ
لا حُبّ بين العبدِ والأسيادِ!!
(8)
أناملها تلامس شفتيها المرتجفتين وقد ارتكزت بإحدى يديها على سطح الأرض بضعف...
هي لا تصدق ما حدث للتو!!
كيف حدث ذلك؟!
هو السبب، ذلك الغشاش المخادع يخالني لا أعرفه، لا أفهمه، لكن لا...
لا وألفُ لا، سأحاربه....سأٌقاومه حتى آخر رمقٍ لي..
لأنني...لأنني أكرهه!!
أكرهه وكفى!!
امتدت أصابعها لخدها وهي تهزُّ رأسها، الدموع تملأ الوجه المعذب، تحفر في حناياه شيئاً، والخطوط تتضح لتكون معلَماً,,
السطور تُرسم، والوجه صفحة، يحتاج لمن يفهمه ويقرأه....
عادت لتهز رأسها غير مصدقة....
الحروف تتبعثر، والكلمات تتلاشى وتبتعد هناك، حيثُ لا قلم، لا حبر، لا سطور!!
همست لنفسها بخوف:- و خالي، ماذا سيقول عني الآن؟!!- ماذا سيفعل؟!- رحماك يا رب رحماك....
نجوم السماء تتراءى من خلف زجاج النافذة، ها هي تنبض بقوة ووضوح، في نورها أمل وألم!!!
اتجهت لفراشها وهي تحيطُ نفسها بدثارها، لعلها تشعر بالأمان قليلاً، قلبها لم يتوقف عن الدق بعنف، بجنون...
أخذت تطمأن نفسها:
ما حدث كان كذبة، كذبة سقيمة من تخيلاتي...
لا بد أنني كنتُ أحلم، أتوهم...
ولكن....
كيف حدث ذلك أخبروني، كيف؟؟!!
الجبين لازال يتصفد عرقاً رغم الجو المكيف، وباب الغرفة المجاورة لم يُوصد بعد!!!
- "غدير" انهضي..- ............- غدير!!ردت دون أن تفتح عينيها، الصوتُ كان متعباً، راحلاً منذُ الأمس:- ماذا تريدين؟!- هيا افطري.- لا أريد.
"لا أريدُ شيئاً، لا أريد أن أراهم، لا أريدُ أن أرى خالي".- أيتها الكسولة!!- أريدُ أن أنام.
"لم يصافحني الكرى منذُ الأمس، هو السبب، هو الغشاش، المخادع".
وعادت لتتدثر من جديد...
الهجوع نعمة، لا يقدرها إلا المحرومون!!
- هذا الأسبوع يحمل لكِ الرضا والسعادة. تتمتعين بلباقة الحديث وتستفيدين من قوة إقناع مميزة تجعلك محط أنظار العديد من الأشخاص.رفعت "ندى" رأسها عن الجريدة بزهو وهي تبتسم لصُحيباتها، ثم أردفت بخيلاء وهي تضم خصلة نشزت سهواً من حجابها للداخل:
- كم أحب "الأبراج" تشعرني بالتفاؤل.
- أنا لا أصدقها. ردت "جميلة".
"أكيد لن تصدقيها لأنكِ حقودة وحسودة، ولو كان طالعي اليوم سيئاً لقلتِ آميين!!".- ندى، أقرأي برج المدير.. خاطبتها "أشجان".- من أي برجٍ هو؟!
- من برج الحمل..
فتحت "ندى" عينيها دهشة في بادئ الأمر، ثم ما لبثت أن ضحكت بإستهزاء:
- الحمل؟!!! ظننته من برج "الثور"، برج "أم دويس"، برج "الله وأكبر عليك يا الظالم"...
ثم أكملت وهي ترفع الجريدة لأعلى:
- اسمعن "برج الوحش" ماذا يقول اليوم: تتجه إلى إقامة علاقات فوضوية. كن صادقاً مع نفسك واعطِ قلبك فرصة ليدق دقاته الحقيقية..
ولم تكمل، إذ غرقت في نوبة هستيرية من الطراز الأول:
- قلبه يدق؟! أشك..أشك إن كان لدى هذا الرجل قلبٌ أصلاً..
وألقت الجريدة ووجهها يتضرج احمراراً من شدة الضحك:
- مسكين .....لكنها توقفت فجأة ما أن رأت وجه "أشجان" الذي تغير فجأة والتي راحت تدفن رأسها في الأوراق الموضوعة أمامها، ولم تفتها تلك الابتسامة الخبيثة التي لاحت على شفتي "جميلة"..
وبلا شعور صدت للباب، ورأتهُ واقفاً وقد ضمّ قبضته لجانبه وانحرف فمه بزاوية حادة...
وضعت يدها على فمها وهي تشهق وتسب نفسها في سرها ومن أخترع الأبراج ووضعها في الجرائد!!!
- أ..أ...أ.. هذا كان..كان برجي أنا. وابتسمت ببلاهة وهي تشير لصحيباتها كي يؤيدنها لكن أحداً منهن لم تنطق بكلمة.
ملامح وجهه الجامدة جعلتها تزدرد ريقها وتبتلع ابتسامتها البلهاء.
- تعالي إلى المكتب فوراً. قالها بصوتٍ آمر مليء بالوعيد.
وانصرف إلى الداخل..
- ماذا أفعل، أشيروا علي، ثم لماذا لم تخبروني، أشهد ألا إله إلا الله، منذُ زمن والنحس مكتوب على جبينك يا "ندى".
وأخذت تندب حظها العاثر و"أشجان" تحاول تهدئتها:
- لقد جاء على حين غرة، ثم لقد أشرتُ عليكِ بأن تتوقفي لكن صفحة الجريدة كانت تغطي وجهك بأكمله.
- ماذا يقول برجكِ اليوم: هذا الأسبوع يحمل لكِ الرضا والسعادة. قالتها "جميلة" بإستهزاء وتشفٍ، ثم أردفت:
- صدق من قال: كذب المنجمون ولو صدقوا
لم ترد عليها "ندى" بل أخذت تحدجها بنظرة نارية وهي تود لو تنقض عليها وتملأ وجهها بعلامات خضراء وزرقاء بدلاً من ألوان المكياج التي تصبغ بها وجهها كل يوم.
التفتت لأشجان وهي تسألها:- ماذا أفعل الآن؟!- أذهبي له الآن..- ماذا؟!
وكأن أفعى لدغتها، أحنت جذعها لتحكم إرتداء لحذائها، قالت دون أن ترفع رأسها:
- أذهب إليه وهو في هذه الحالة؟!! مستحيل.
وسحبت حقيبتها والجريدة بعد أن جعدتها بغيظ:
- أنا سأعود إلى البيت الآن، بعد يومين لدي حفلة إحدى قريباتي و أريد أن أذهب هناك وأنا سليمة، مع السلامة.
- انتظري...
- قولي له معدتها آلمتها، أخاها عاد من السفر، دهستها سيارة، أي شئ...وانصرفت عنهم وهي تهرول حامدةً نجاتها، تاركةً بركان الغضب ينتظرها هناك لوحده!!!
سمعت طرقاً على الباب، عادت لتتدثر وتصمّ آذانها وتتظاهر بالنوم من جديد:
- "غدير" هذا أنا خالك افتحي الباب.
فزّت من فراشها وقد بدأت تقضم أظافرها دون شعور:- غدير!!- لحظة، لحظة، سأفتح الآن..
تلكأت كثيراً قبل أن تمسك إكرة الباب، طأطأت رأسها وهي تتحاشى النظر إليه....
جلس على الكرسي المقابل للمنضدة أما هي فاحتارت...
أتقف أم تجلس على حافة السرير، أم ترمي بنفسها من النافذة وترتاح من الموقف برمته!!!!
كان يتأملها، ويتأمل علامات الشعور بالذنب الذي أنطبعت على وجهها حمراء قانية...الصمت بينهما طال، كلاهما سارحٌ بفكره، ولكن ما أصعب الانتظار..
الكلمات لا بد أن تُراق بسرعة، بسرعة، حتى يكون أثرها قاضياً مميتاً، ربما بعدها يلتأم الجرح دفعة واحدة!!
والنزف، النزف فلتكن حذراً منه، إياك أن تقترب منه، فغبار الأيام كفيلة بأن تثيره، وتجدد ثوب حزنه من جديد...
لكن المشكلة تكمن في نوع الجرح، أليس كذلك؟!
أهي جروح الجسد أم جروح الذاكرة؟!!
طال الصمت وآن لهُ أن يقطع، والمجرم لا بد له أن يتكلم، أثمه يخنقه، يضيق عليه الخناق...
دعه يتحدث لعل مطرقة الضمير تتنحى عنه، فلقد أعياها وأثقل همها..
الحروف تخرج مترددة، مبعثرة، خجلة هي من نفسها:
- خالي، أنا..أنا...
لكنها لم تستطع أن تكمل، ماذا تريدونها أن تقول؟!تنهد وهو يربت على ركبته:- بعد الذي حدث البارحة لا بُد أن يتمم هذا الزواج.
- لا أريد.
وانكبت على قدميه وهي تنتحب:- لن أخرج من هنا حتى، سأحبس نفسي، ولكن لا، لا توافق يا خالي.- لماذا يا ابنتي كل هذا؟! لماذا تتعبين نفسك وتتعبيني؟!
- أنا قلتُ لك، نحنُ..نحنُ مختلفان.- لكنكما تزوجتما وانتهى الأمر، ليس من المعقول أن تبقيا هكذا للأبد.- ..................- ثم لا بد أن تتابعا حياتكما، كلٌّ له حق بأن يعيش..- فليكمل هو حياته، أنا مرتاحة هكذا، فليطلقني، أجل يطلقني ويذهب كلٌّ في حال سبيله.
- ماذا تقولين؟! لم يمر أسبوع واحد على قرانك وتريدين الطلاق؟! وبهذا السن الصغيرة؟! لا حول ولا قوة إلا بالله.
"ليتني لم أوافق منذ الأساس، ليتني"..
- أنا أقبل بأي شئ إلا هذا، أتوسل إليك يا خالي، أتوسل إليك.
ودفنت رأسها بين قدميه، وهي تتشبث به بإستعطاف...
جثا للأرض وهو يمسحُ على شعرها، رفع وجهها المبلل بالدموع:- لا تتوسلي يا ابنتي، وسيكونُ لكِ ما تريدين، ولكن اعلمي ستكون هذه آخر فرصة لكما، إن تكرر ما حدث بالأمس، سأبتُ في الأمر.
- ح....حسناً..
ربت على ظهرها لكي تقف على قدميها من جديد...
كان يتنهد كل حين وكأن شيئاً يضايقه، وكأن الأمر برمته لا يعجبه....- هيا قومي لتتناولي إفطارك.
- لا أريد...ليس الآن."ربما لحين أن يذهب ذاك إلى عمله".
- طيب سأترككِ، ولا حاجة لأن تحبسي نفسكِ هنا.
هزت رأسها بإيجاب دون أن تؤمن فعلاً بإماءتها...
وما أن خرج وابتعدت خطواته حتى أوصدت باب غرفتها من جديد...
تنهدت هي الأخرى وهي تلهج بالحمد، لقد نجت بأعجوبة!!!
لكن تنهيدتها لم تكتمل، إذ سرعان ما سمعت صوت "عمر" يرتفع شيئاً فشيئاً، وكان يقول شيئاً عنها...أخذت تدور في الغرفة بتوتر وهي تقضم أظافرها من جديد، وما هي إلا ثواني حتى سمعت طرقاً عنيفاً على الباب..
توقفت في مكانها وقد أخذ منها الخوف مأخذاً كبيراً...- من؟!- لا تتظاهري بالغباء.- ماذا.. ماذا تريد؟- أحقاً لا تعرفين!! صاح فيها بشراسة.- قلتُ لك لا تتعب نفسك معي.- أنتِ مجنونة.- أجل مجنونة، أتريدُ الزواج بمجنونة؟!- بودي ذلك كي أعالجك.- أليس لديك كرامة، أقولُ لك لا أريدك، لا أريدك، أتريدني أن أصرخ عالياً علك تفهم.- اسمعيني هذا الزواج سيكتمل شأتِ أم أبيتِ، وتوجد طرق كثيرة لإجبارك على ذلك..- أنت شخص لا تُطاق.
- لديكِ 4 جدران في غرفتك، أليس كذلك؟!
لم تفهم مغزى سؤاله لكن أجابته بنعم.- وباب أيضاً؟!- ن..عم..- اضربي رأسكِ بأياً منهم.وانصرف تاركاً إياها في حالة فوضى...
مستحيل، هذا الرجل مستحيل!!وقطع صوت ندى خيالاتها...- لحظة، لحظة.ولجت إلى الداخل وهي تتنفس بسرعة:- أعوذُ بالله..نظرت إليا "غدير" بتساؤل:
- بعلك العزيز كان سيقطع رأسي منذُ قليل.
تجاهلت "غدير" كلمة "بعلك" وعادت لتستفسر:- لماذا؟!- لأنني سألتهُ كيف حالك!!
ثم أردفت وهي تلقي بنفسها على السرير:- الإجرام تفشى في كل مكان، في البيت، وفي المكتب..
أخذت "ندى" تثرثر عما حدث لها اليوم، والأخيرة لا تسمع، كان ذهنها منصرف للذاهب منذُ قليل، في حديثه، في تهديده المبطن...
أتراها ستنجو فعلاً؟!أتمنى ذلك.....
- لكنك وعدتني.- لقد اتفقنا بعد شهر وليس بعد مرور أسبوع!!!
- أنت لا تفهم، لم لا تحس بي، لم تستصغر هذا الأمر، أينما التقيتُ إحدى صديقاتي يسألنني: ألم تحملي بعد؟! وأمي تسألني وأقاربي كذلك، أكادُ أجن..
- .........................
- وأنت ليس لديك إلا اصبري واصبري، لم أنت خائف هكذا؟!
وانتفض "ناصر" في مكانه وكأن أفعى لدغته:- ماذا تعنين بحديثكِ هذا؟!
صمتت وكأنها أحست بفداحة ما قالته، لكنهُ لم يمهلها لتعتذر:- لا تظنيني من هؤلاء الرجال الذين يقيسون الرجولة بهذا الشئ، لو كان بي عيباً لكنتُ أول من أخبرتك..
- "ناصر" أنا...- يكفي، لقد أفضتِ أم لديكِ المزيد؟!
طأطأت "شيماء" رأسها خجلة من نفسها:- على العموم سيكونُ لكِ ما تريدين، واليوم إذا شأتِ حتى لا تظني أني أتهرب..
- أ..أ.. اليوم سنشتري فساتين لحفلة الغد.
- ..........................- ألن تذهب بي إلى السوق؟
- ...............- ناصر؟!- نعم. رد بضيق.- هل أنت غاضب مني؟- كلا.
- ناصر، لا تكن قاسياً علي هكذا.
واقتربت منه وهي تذرف "دموع التماسيح"، قالت بإستكانة:
- إذا لم تسامحني فلن أذهب لحفلة الغد.
ولأنهُ يعرفها، أخذ يجاريها وهو يخفي ابتسامته:- لا تذهبي..- هذا يعني أنك لم تسامحني.- بل سامحتك، ولكن لا تذهبي.- ولكن، ولكن، "ندى" ستذهب، حتى "غدير" ستذهب هي الأخرى، ماذا سيقول عني الناس؟!- قولي هذا من البداية..- ناصر!!- آه منكن!!!
- هيا يا غدير لقد تأخرنا.- لا أريد..لا أدري.- تريدين أن تبقي لوحدك في البيت مساء الغد.- لا.- إذن؟!- من سيوصلكم؟!
- قلتُ لكِ ألف مرة "ناصر" و "عمر".- ولم لا يوصلنا "ناصر" فقط؟- وهل سيبقى "ناصر" لوحده في المجمع ونحنُ ندور في المحلات!!
سحبت "غدير" خمارها وهي تدمدم، إنها خائفة من مقابلته وجهاً لوجه بعد آخر حوار دار بينهما، لكنهم ليسوا لوحدهم، سيكون الجميع معهم....
سارت وهي تطمأن نفسها، ألقت السلام بصوتٍ لا يكاد يبين وهي تلج داخل السيارة...
كانوا يتسامرون ويتضاحكون حتى هو، وكأن شيئاً لم يكن!!
بقيت صامتة وهي تنصت لأحاديثهم وعينها على المرآة والسائق!!!"حتى لم ينظر إلي، غريبٌ أمره"..
ووصلوا إلى مجمع "..."، تقدمت النسوة أماماً والرجال يتبعنهم، لم يتركوا ركناً إلا دخلوه...
كانت "غدير" تتابع بملل الملابس المعروضة بعكس "شيماء" و "ندى" اللتان أخذتا تبحثان بحماس عما يليق وفي أيديهم عشرات القطع!!!
ولفت انتباهها فستاناً ما، اقتربت لتتفحصه...
لونه أسود بغموض الليل، ملمسه أثيري ينزلق بسرعة عند لمسه...
كان بسيطاً في تصميمه، حتى التطريز لم يكن ملفتاً للنظر...
أخذت تقلبه وقد بدأ يروقها، لكن شيئاً ما فيه استوقفها وجعل يدها تتوقف فجأة!!
"لا يوجد شئ كامل، لا يوجد، حتى الفساتين!!"..
- ماذا؟! هل أعجبكِ هذا الفستان؟! سألتها "ندى" وهي تتفحصه هي الأخرى.- إنه جميل، لكن....- لكن ماذا؟! لا تتعللي، لقد حل المغرب الآن، والحفلة غداً وليس بعد أسبوع.- لو كان مقفلاً من الخلف لأخذته..- وماذا في ذلك؟!
- أنا لا أحب هذا النوع من الملابس.- أيتها الغبية، تلك كانت ملابس جدتي، ثم كل الفتيات يرتدين هكذا، ألم تشهدي أعراساً من قبل.
"بلى، بلى شهدتُ واحداً، وكان عرسي!!"...- كلا، سأبحث لي عن شئ آخر..- انتظري لا تتركيه، إن ابتعدتِ عنه الآن، لن تجديه، سيتخطفهُ غيرك...
"هذا فستان أم قط

*المتمردة*
*المتمردة*
وصلت "ندى" وقلبها المخلوع يسبقها إلى الشركة، أخذت تفتح شنطتها كل حين لتتأكد من وجود العذر...
استقبلتها "أشجان" عند الباب بحرارة وهي تضربها على كتفها بخفة:
- لقد اشتقنا لكِ كثيراً، العمل ممل بدونك، هذه آخر مرة تغيبين فيها..- ليس باليد حيلة، تعرفين كانت لدينا حفلة..
وتطلعت إلى "العقربة" التي كانت تحدجها بطرف عينها وهي تمطُّ شفتيها:
- لديكم حفلة أم خائفة مما جنتهُ يداكِ؟!- أنا لم أفعل شيئاً لكي أخاف، أسمعتي؟!
- ولم وجهك مخطوف هكذا إذن؟!- من رؤية وجهك السمج.- ومن تحسبين نفسك؟! السفيرة عزيزة. قالتها بسخرية.أمسكتها "أشجان" قبل أن تنقض عليها بأظافرها:- ابتعدي عني، دعيني أؤدبها..- أدبي نفسكِ أولاً..- لا، هذا كثير..
وأفلتت من قبضة "أشجان" وهي تتوجه إليها كالسيل الهادر، غرست إصبعاً غاضبة في جبهتها وهي تقول بتهديد:
- لقد تغاضيتُ عنكِ كثيراً، ليس لشخصك فأنتِ بالنسبة لي لا شئ، ولكن احتراماً لذاتي لأن ليس من مقامي أن أُخاطب مثلك..
أبعدت "جميلة" إصبعها بقرف:
- و مثلك لا يشرفني أن تلمسيه.
- لأنكِ قذرة.
- أنتِ قليلة أدب.
ردت عليها ببرود:- والدي رباني جيداً، ليس مثلك أخرج كل يوم أمام الرجال بهذا الوجه المصبوغ.
هرعت "أشجان" لتقف بينهما كي لا يتطور النقاش أكثر:- أهدأن، هذا الكلام لا يجوز.
وتعالى صراخ الفتاتان وكلٌّ منهما تشتم الأخرى بقاموسها الخاص دون أن يبالين بصياح "أشجان" الغارقة بين دفتي بركان..
خرج المدير بعد أن وصل الأمر بينهما إلى تكسير المزهريات وتقذيف الأقلام!!
- ماذا يجري هنا؟! صاح بغضب.
- هي من بدأت أولاً. ردت "ندى" وهي تلهث.- كذابة.
- أتنعتينني بالكذب؟!
- أصمتا كلاكما، ألا تخجلن من أنفسكن في هذا السن وتتشاجرن!!!
- هي من تفتعل المشكلات دائماً، انظر حتى أظافري تكسرت.وقربت "ندى" يديها من وجهه وهو يطالعها بإستغراب:
- لقد دفعت 4 دنانير بأكملها من أجل "المانيكير". قالتها بحرقة.
وصمت مشدوهاً من تصرفاتها الخرقاء، ثم ما لبث أن قال بحزم:
- أنت ِتعالي إلى مكتبي.
- ولم أنا دائماً؟! صاحت بإستنكار.حدجها بنظرة ما فأسبلت عينيها بذل...
"أيها الظالم"..
- هيا تحركي.- سألحقك بعد قليل أستاذ. ردت بإستكانة.
- بل الآن، أم تريدين أن تهربي كالمرة السابقة.
صمتت "ندى" وهي تبتلع كل شئ، لسانها، قهرها، وابتسامة تلك العقربة الخبيثة.
سارت أمامه وكأنها سجينة، أوصد الباب خلفه فقرأت الفاتحة في سرها ونطقت الشهادتين !!!
جلس على كرسيه الوثير، وبقيت هي واقفة بذّل دون أن تفوتها نظراته المتفحصة...
أتاها صوته خالياً من أي تعبير:
- أيمكنكِ أن تخبريني لم غبتِ؟- كنتُ..كنتُ مريضة، لحظة...
وأخذت تفتش في حقيبتها عن العذر، لكن يدها العمياء لم تره، تطلعت إليه بإرتباك وهي تقول بتلعثم:
- لقد أحضرته معي، صدقني..- أريني إياه إذن..
وعادت لتفتش بعد أن بعثرت محتويات حقيبتها وهي تجثو على الأرض...
ولكن المصيبة العظمى أنها لم تجده أيضاً!!!
أين ذهب؟!
- لا أدري أين طار.. قالت بصوتٍ متباكِ.
- ربما أخذه علاء الدين في طريقه!! رد بسخرية.
- والله العظ...
- لا تحلفي، على العموم كل شئ سيدون في تقريرك، الإهمال، اللعب وعدم اللامبالاة، كل شئ سيُحتسب عليك.
- لكن هذا ظلم، ظلم، أنا لم أفعل شيئاً، والعذر كان بحوزتي قبل أن أراك..- أنا لا يهمني هذا الكلام برمته، أنا تهمني الوقائع الملموسة بيدي، أتفهمين؟!"أنا لا أفهم إلا شيئاً واحداً فقط، هو أنك بإختصار حقير"..
ثم أخذ يعبث في الحاسب الذي أمامه تاركاً إياها تغلي ودموع توشك أن تطفر من عينيها.
- أتعرفين برنامج SPSS أم لا؟!- أجل أعرفه. ردت من طرف أنفها.- إذن خذي هذه البيانات وأدخليها بدقة، أسمعتي!!- ماذا؟! لكنني لا أعرف.- لقد قلتِ للتو أنكِ تعرفين هذا البرنامج.- أ..أجل، لقد أخذته فصلاً واحداً و لكنني نسيته فأنا لم أستخدمه بعد ذلك في مقرراتٍ أخرى..
- بودي لو تقولين لي مرة واحدة فقط عن شيئٍ تعرفينه!!
أحست بالمهانة، بالإحراج فأن تُطعن في قدراتك لأمرٌ مهين، ردت بكبرياء:
- أنا أعرف أشياء كثيرة مثل...
لكنهُ قاطعها وهو يكمل بسخرية لاذعة:
- مثل قراءة الأبراج والفناجين أليس كذلك؟!- .............- ماذا عن قراءة العيون، أوصلكم هذا التكنيك أم ليس بعد؟!
" وصلنا تكنيك "مُت بغيظك" !!!"...
- أستاذ أنا أنا...- اخرسي...
"إلى متى؟!! سأصابُ بالخرس بسببك"
"في المرة القادمة سأضع لساني في "المفرمة" قبل أن آتي إلى هنا"...
- وإن كررتها مرة أخرى وذهبتِ دون إخطاري بالأمر شخصياً سيكون لي معك تصرف آخر...
"فالتذهب إلى أسفل سافلين، هذا هو مكانك الذي تستحقه"..وعاد ليعبث في درج مكتبه، مدّ إليها بقرص:
- خذي هذه نسخة من البرنامج وطريقة استخدامه، أقرأيها جيداً ثم طبقي هذه البيانات.
أخذت تنظر إلى يده الماسكة للقرص بحقدٍ أسود:
- ماذا تنتظرين؟!
"أنتظر أن تموت وأرتاح منك"..
وسحبته بحدة وهي تضغط عليه بعصبية:
- احذري، ما بك؟! وأشار بأصبعه إلى رأسه..الصرخة في جوفها تتلاحق، تكاد تنطلق من حنجرتها وتهدم هذا المكتب بمن فيه..
خرجت بسرعة من المكتب دون أن تغلقه، وما أن وصلت لطاولتها حتى صاحت:- انتظر، انتظر فقط حتى تسلّم تقريري، لن أتركك وشأنك، سأفرغ كل النيران التي في جوفي بوجهك، فقط انتظر علي..
وعادت لتضرب بيديها على سطح المكتب بقوة:
- ماذا قال لكِ هذه المرة أيضاً؟! سألتها "أشجان" بشفقة.
- لا أدري لم يعاملني هكذا لوحدي، لم لا يأتمر عليكِ أو على تلك "العقربة"؟!
- اخفضي صوتك كي لا تسمعك، إنها في الحمام تضمد جراحاتها..- أجيبيني لماذا؟!- لا أدري..جلست "ندى" بغيظ وإحدى يديها أسفل ذقنها واليد الأخرى تكادُ تحطم القرص!!!
- ألم أقل لكِ أنهُ سيقول مثل هذا الكلام؟!
- فلنذهب إلى طبيبٍ آخر، أنا لا أثقُ فيه.
- اسمعي، إن بقيتِ توسوسين هكذا فلن يحدث شيء، الطبيب قال لا بد من الاستقرار النفسي وعدم القلق.
- ما يقوله هراء في هراء، كلام المجانين هذا لا أصدقه.
رد عليها بغضب:- العلم يقول هذا، لا تكوني عنيدة.
وخرجت من السيارة بسرعة و صوت "ناصر" يلاحقها..
وما أن وصلت إلى غرفتها حتى أوصدتها بالمزلاج، ألقت بنفسها على السرير وهي تجهش بالبكاء..
- شيماء افتحي الباب.- .................- ماذا تريدين مني أن أفعل أكثر من هذا؟!
رفعت رأسها المثقل وصاحت بتهدج:- نذهب لطبيبٍ آخر.- كلهم سيقولون كما قال هذا الطبيب.
- لا بأس المهم أن أطمأن.
تنهد "ناصر" بإستسلام وهو يرد:- حسناً، سنذهب فب الغد.- كلا، ليس غداً بل اليوم.
أخذ يضرب بيده كفاً بكف وهو يستعيذ من الشيطان الرجيم:
- إن شاء الله، سيكون لكِ ما تريدين.
أنهضت نفسها وهي تفتح الباب، لكنهُ لم يدخل:
- سأستأنف عملي الآن، انتبهي لنفسك..
وقفل عائداً من حيثُ أتى، راقبت خياله الذي يتهادى من بعيد..- أنا لم أكن قاسية معه وهذا من حقي!!
كان الأب جالساً وبجانبه "ندى"، تخبره عن مديرها وإن كان معظم ما تقوله ملفقاً!!
أخذت "غدير" تضحك بخفوت وهي تشير لها: أيتها الكاذبة.
وتلك لازالت تواصل الحديث عن أمجادها التي يفتخر بها المدير وكيف حاول إقناعها بإلحاح بأن تعمل هناك بعد أن تتخرج لكنها رفضت!!!!- أتصدق يا أبي، أحياناً أصرخ عليه وأقول له أفعل هذا وذاك، ويفعله دون نقاش!!
- لا يا ابنتي، لا بد أن تضعي بينك وبين رؤسائك حدوداً مهما كانوا طيبين. وأخذ يُلقي عليها بالنصائح و "ندى" تهز رأسها بإيجاب وهي ترفع حاجبيها كل حين إيماناً بما يقوله، و "غدير" توشك أن تنفجر من الضحك المكبوت...
أما "شيماء" فكانت ساهمة، شاردة في حديث الطبيب الآخر، فلقد قال كما قال الأول:- الاستقرار النفسي قبل كل شئ...
وقطع صوت الهاتف أفكارها، فرفعت السماعة التي بجوارها:- آلو.- السلام عليكم.- وعليكم السلام والرحمة.
ثم سرعان ما أندمجت في الحوار:- ماذا؟! أيّ واحدةٍ تعنين؟!- التي ارتدت ثوباً أسوداً.
- ام، لكنها متزوجة.
وحينها التفت لها الجميع وعلى وجوههم علامات التساؤل والاهتمام.
- لا بأس، لا.. ليس بكِ حاجة لأن تعتذري.- ...............- مع السلامة.
ووضعت السماعة وهي توجه خطابها لغدير:
- لقد خطبوكِ!!- ماذا؟! صاحت "ندى".
- أيُّ حديثٍ هذا الذي تقولينه يا "شيماء"؟
- صدقني يا عمي، المرأة اتصلت وقالت نريدُ ابنتكم التي كانت ترتدي ثوباً أسوداً واعطتني اسمها أيضاً.
ارتبكت "غدير" في جلستها وهي تنقل بصرها بين وجوههم، قالت وهي تحاول أن تلطف الجو:
- كثيراً ما يحدث ذلك في الأعراس. وضحكت بقلق ضحكة مبتورة.
- ترى ماذا ستكون ردة فعل "عمر"، إن علم بالأمر.
وحينها أنقبض صدرها وهي ترد بسرعة:- ليس هناك داعي لإخباره.- أيتها الغبية، لا بد أن تخبريه حتى ترتفعين في نظره أكثر وأكثر. عللت "شيماء".- ولكن كيف لم يخطبوني أنا، لقد صرفتُ الكثير على مكياجي وملابسي كي تلقطني إحداهن!! تساءلت "ندى" بصوتٍ مسموع.
- بلا شك خالوكِ مجنونة، وهل يوجد فتاة عاقلة تصافح 400 مدعو وهي تنتقل كنحلة من طاولة لأخرى. ردت عليها شيماء.
- ألآ تفهمين، كنتُ أفعل ذلك كي أتأكد من أن الجميع شاهدني!!! ردت بغباء.لم تلتفت "غدير" لحوارهما، كان همها ذاك الذي يخاطبها بحدة:
- كلا يا ابنتي، أنا لا أرضى لإبني بالمهانة، وأيُّ رجلٍ في العالم، أياً كان لا يرضى بأن يُطعن في كرامته.
- خالي، هم لو كانوا يعلمون أني من مذهب آخر، ما كانوا سيخطبوني..
- وإن يكن!! إلى متى سيستمر هذا الحال، لا أحد يعرف بهذا الزواج.
- خالي، أفهمني أنا..
- يكفي يا ابنتي، وأنا منذُ البداية لم أكن مرتاحاً لهذا ولكنني مررتُ الأمر، لكن أن تصل الأمور إلى هذا الحد، فلا أقبلها لنفسي وأولادي.
- خالي...
لكنهُ قاطعها:
- أعتقد لم يتبقى على شهر "محرم" إلا 3 أسابيع، لذا جهزي نفسك بسرعة لأن زواجكما سيُشهر وعلى الملأ.ونهض وتركها بعد أن أخذ منها شيئاً...
سلب منها روحها!!!ماذا يتبقى من الجسد؟!أتعرفون ما معنى هذا؟!
ما معنى أن أتزوج؟!
معناه أن أنتهي، أن أضيع...
في بدايتي نهايتي...
أم في نهايتي بدايتي؟!
أم ماذا؟!!خالي!!! ماذا تقول؟! يا روح هيمي، هيمي في ملكوتك..
ولتنثري جناحيك...
ما عاد هناك المزيد من الوقت...
الفراشات ولت، والغربان بدأت تحوم...
يا روح هيمي، الظلال تنتشر...
ولن يتبقى في السماء نجمة...
ها هي الغربان تعود...ولكن!!!
روحك ما جرى بها الآن؟!!
أيّ جناحين متكسرين تلك التي تطوينهما...لذا ارحلي بعيداً..بعيداً...
حيثُ لا نجوم، لا أحد!!!تطلعت إلى "ندى" و "شيماء" بوجه غائم، لكأنها تطلب منهما أن تلحقا به، أن يحجم عن قراره!!!أن تُخبراه أن الفراشة بلا جناحين، بلا روح!!!
لكنهما كانتا تتجادلان دون أن تنتبها لخطاب العيون الموجه إليهما...الجو يبدو كئيباً، مظلماً، والقلب لا يتوقف عن الخفقان، وجميع الحواس مُستثارة، متيقظة على أهبة الاستعداد للسفر، للرحيل!!!!
لا، مستحيل، لا لالالالا...
جمعت يدايها بجانب صدرها، تنفسها بات سريعاً، متقطعاً، وشعور بالغثيان يرافقها كل حين...
الشعور بالإختناق يتصاعد، لكأن الأوكسجين نفذ من هذا المكان، والأظافر بدأت تُقضم، لم يتبق منها شئ!!!
وتوقف الزمن برمته، توقف بعد أن لاح صاحب تلك العينين الخضراوين بقامته الطويلة عند باب المجلس...وما أن رأته "شيماء" حتى هتفت:
- "عمر" صدق أو لا تصدق؟!- ماذا؟- لقد خطبوا زوجتك منذُ قليل!!- ماذا؟
وصدَّ لغدير التي سرعان ما أن طأطأت رأسها للأرض حيث هوت الروح!!!
أما هو فتحولت ملامح وجهه الدهشة إلى الغضب وهو يستمع لإعادة الحديث الذي دار بين أسلاك الهاتف.
- لمَ لم تقولي لها أن لديها ابنة خال عازبة حتى تأتي و تخطبني؟!!!!!
أخذت "ندى" تقاطعها كل حين بهذا السؤال الملح والأخيرة لا تُجيبها.- أنتِ سعيدة بلا شك؟! وجه خطابه الغاضب لتلك الغارقة في اللاشئ...
أصابعها تقبض على الأريكة بتوتر، والصوت يحتبس، ضاع هو الآخر مع الحواس..
لالالا، مستحيل، مستحيل...
وقال شيئاً جعل حواسها تستيقظ، تعود لتنشب أظافرها من جديد ولكن في قلبها!!!و رفعت رأسها بسرعة لترى طيفه الغاضب يبتعد حيثُ غرفته...
فزت من مكانها وأخذت تهرع إليه وهي تناديه، لا بد أن تفعل شيئاً لا بد، وهو القادر على حسم الموضوع....
أجل، لا بد!!!كلهم انصرفوا ولم يتبقى إلا "ندى" و "شيماء"...
كانت هذه الأخيرة تتنهد بإستغراب من تصرفات "غدير"، لكن تنهيدتها قطعها صوت صياح "ندى":- يا ناس أريدُ أن أتزوج أنا الأخرى، ظلم في كل مكانٍ ظُلم!!!!
نهضت هي الأخرى مفزوعة وهي تردد في نفسها:- كلهم مجانين، لا حول ولا قوة إلا بالله...
عمر، عمر انتظر. صاحت وهي تحاول اللحاق به.
استدار لها وقد دكنت عيناهُ الخضراوين:
- ماذا تريدين؟! أن يكتمل طابور خطّابك!!
- ما حدث كان إلتباساً ليس إلا، تعرف أنا...
لكنهُ قاطعها بصوتٍ غاضب جعلها تجفل:- هذا الموضوع انتهى، وكان من المفروض أن ينتهي منذُ زمن، أتفهمين.
- قلتُ لك نحنُ لا نليق ببعض... أخذت تردد ذلك وهي تضرب بقدمها الأرض.
- أعذارك الواهية هذه ضعيها تحت وسادتك قبل أن تنامي!!!وأراد أن يدخل غرفته فاستوقفته من جديد، وهي تقول له بتوسل:
- لننسى كل ما حدث، لنكن كالسابق أقارب فقط، أرجوك.
أمسك يدها وهو يهزها بعنف:
- تريدين أن أنسى أنكِ زوجتي؟! أن أنسى أنكِ لا تبعدين عني إلا مسافة باب واحد!!!
حاولت أن تسحب يدها وهي تصرخ:- لا تُعد علي هذا الكلام....يا أخي أنا لا أطيقك، أنا أكرهك، أكره أن أراك حتى..
- أولاً أنا لستُ أخاكِ أنا زوجك، ثانياً حبك لي أو كرهك لا يهمني في شئ..
- أليس لديك ذرة إحساس واحدة؟!
- إحساس؟!! أنتِ آخر من يتكلم عن المشاعر يا قالب الثلج، انظري لي جيداً، انظري لوجهي، أأخلو من الإحساس..
- ..............................
- واجهيني إن أستطعتِ، لا تفتأتين أن تدفني رأسكِ كالنعامة.. قالها بشراسة.تحاشت نظراته وهي تحاول أن تتمسك بأي شئ، أي شئ...
- أتعلم، في شهر محرم لا أرتدي إلا السواد، ما ستراه هو أسود في أسود..- .......................
- وربما أمدده حتى "صفر"، تعرف لدينا وفيات كثيرة في هذا الشهر أيضاً.
- ....................- لم لا ترد؟! أيعجبك هذا؟!!- افعلي ما تشائين، أنا لستُ ديكتاتورياً. رد ببرود.
- كما أنني فاشلة في كل شئ، حتى البيض لا أعرف كيف أسلقه.
- المطاعم كثيرة والحمد لله، هل انهيتي سخافاتكِ أم لا، أنا متعب وأريد أن أنام.نظرت إليه دون تصديق وهي تعضُّ على أناملها دون وعيٍ منها:- أنت مخلوق من ماذا؟!- من ماء وطين مثلك.وترك يدها فجأة فكادت أن تهوي لولا أن أمسكت بالجدار..انسابت دمعتها حارة شقية حائرة في ظلمة الليل، لا تدري إلى أين سيجرفها التيار معه...لا تدري إلى أين؟!! - لماذا تركتني يا أبي، لماذا؟!!.
.
.
.
.
.
.
.
.الطبول تدق، وصداها يكاد يصمُّ الآذان...
وقد بدأ ثوب العرس يُحاك...وآن للشمعة أن تُظهر ذُبالتها قريباً!!!انتظروني...لاأناام..إني خيرتكِ فاختاري
ما بين الموت على صدريأو فوق دفاتر أشعارياختاري الحب أو اللاحب
فجبنٌ ألا تختاريلا توجدُ منطقةٌ وسطى
بين الجنةِ والنارِ!!
(نزار قباني)
(10)
تقلبت على وسادتها، وهي تحاول أن تمنع صوت ضحكاتهم من أن تصل لأذنيها....
لحظتها دفنت رأسها بقوة في الفراش وهي تحيطه بيديها النحيلتين...
لا تريد أن تسمع شيئاً، أي شئ!!!
هم لم يسمعوها حين بكت وتوسلت، حين جثت أمام أقدامهم واحداً تلو الآخر كي يوقفوا هذا الزواج...بل تركوها وساروا، لم يعبأوا بها، وقالوا وهم يلوون أنوفهم:
"دلع بنات!!!"..كلا كلا ليس دلعاً البتة، فأنا لم أعرف في حياتي معنى "الدلع"....الوسادة تتراخى والعينان تُسبلان بوهن فقد أضناهما البكاء وجافاهما الكرى...ضاع كل شئ، كل شئ، ولم يتبقى من الزمن إلا الغد!!!!ها هم قد وضعوا فستانها الأبيض في خزانتها وأغلقوها كما أغلقوا حياتها وربما للأبد...لازالوا يضحكون وهي تبكي...أيُّ مفارقةٍ عجيبةٍ تلك!!الأصوات تتضح، تتعالى في حبور، وكان أقواها صوت الأب...
الفرحة تكاد لا تسعه، فإبنه الصغير عاد أخيراً من غربته وابنه البكر سيتزوج غداً، أيُّ سعادةٍ تلك التي تغمر قلبه الآن...امتدت يدها النحيلة إلى قلبها هي الأخرى، قلبها الذي انفجع، بات كليلاً الآن، لا أحد يبالي به، لا أحد...
حتى هو ترك المنزل، وبات في شقتهما المستقبلية!!!
قالوا: ليس فئلاً طيباً أن يرى الرجل عروسه قبل ليلة زفافه...
تركوه يذهب قبل أن أقنعه، قبل أن أثنيه عن قراره!!!
لماذا يا خالي لماذا؟!
ماذا فعلتُ كي تفعلوا بي هذا؟!!
ألا زلت تضحك، وأنا لوحدي أنزف هنا....
لا أريد أن أتزوج...لا أريد أن أرتدي هذا الفستان، خذوه، لا أريده...كنتُ قانعة بقدري، راضية بنفسي، لم يا خالي لم؟!ماذا أفعل الآن، أخبروني؟!يقولون غداً عرسي، عرسي أنا!!!!
رحماك يا رب رحماك...
الشجن ينطلق من ذاك الرأس المثقل بالهموم، بالآلام...
والأظافر لم يتبقى منها شئ!!!
وقد بدأت خيوط الفجر تشتبك مع ظلمة الليل المتواري في الأفق، في نقطةٍ بعيدةٍ هناك...ولا بد للشمس أن تظفر، فأنى لضياء القمر أن يقاومها؟!!
الحركة تدبُّ في المنزل بنشاط، و "ندى" لا تتوقف عن الصياح:- لقد تأخرنا عن "الصالون"، هيا انهضي.
- هيا يا "غدير"، ناصر ينتظرنا منذُ زمن في السيارة.
- لا أريد قلتُ لكم لا أريد.وعادت لتبكي بصمت ووجها مدفون في وسادتها، جلست "شيماء" بجانبها وهي تمسح على شعرها بحنان:
- صدقيني، أنا أعرف شعورك تماماً، بل هو شعور يخالج كل عروس..
"أنتِ لا تفهمين، كلكم لا تفهمون".
ردت ندى وهي تمطُ شفتيها:- لو كان عرسي أنا ما كنتُ بكيتُ أبداً، بل لظللتُ أقفز من السعادة..
قالتها بصوتٍ حالم، لكن صوت "شيماء" قطع عليها أحلامها:
- أنتِ حالة خاصة تختلف عن بنات خلق الله!!
لم تبالي "ندى" بما قالته هذه الأخيرة وأردفت بتساؤل:
- تعتقدين لو وضعتُ إعلاناً في الجريدة "أريدُ عريساً" سأجد من يقبل بي؟!!!!
- أكيد، ومن يرفض أن يأخذ مجنونة؟!
زمّت فمها بإستياء وهي تصيح:- لا أحد يحس بي هنا، كلكم متزوجون، حتى "غدير" ستتزوج، أخشى أن أبقى العانس الوحيدة في هذا المنزل مع أبي نبكي على الأطلال...
ثم أخذت تضرب على صدرها وهي تولول:- سيذهب شبابك وجمالك سدى يا "ندى"...
دمعت عينا "شيماء" من شدة الضحك على منظر تلك الأخيرة، حتى "غدير" توقفت عن البكاء هنيهة وأفلتت ابتسامة صغيرة من شفتيها.
- أضحكوا علي، سنرى من سيبكي غداً. صاحت.وكأن كلماتها كانت كافية لأن تمسح تلك الابتسامة الخاطفة و تعود لواقعها المر، اهتزّ جسدها من جديد وأخذت تبكي بصوتٍ مرتفع...تطلعت الفتاتان لبعضهما البعض بإستغراب، أمسكتها "شيماء" من كتفيها وهي تحاول تهدئتها:
- اذكري الرحمن واغسلي وجهك، هذا لا يجوز، هيا انهضي.
لكنها لم تتوقف بل أخذت تتشبث بقوة بعمود السرير.
- ندى ساعديني لنذهب بها إلى الحمام، ستدمي عينيها هكذا من كثرة البكاء.
صرخت فيهما بصوتٍ مبحوح وهي تقاوم:
- اتركوني، لن أذهب، لا أريد أن أتزوج، أتوسل إليكم.
وذهبت توسلاتها أدراج الرياح....
كانت من الوهن بحيث أوشكت أن تسقط عدة مرات...
- ماذا بك؟! لم تفعلين بنفسكِ هكذا يا "غدير"، انظري لوجهك أهذا وجه عروس... سألتها "شيماء" بألم.
غطت وجهها بكفيها وهي تهزُّ رأسها و تشهق:
"أنا لستُ عروساً، لستُ كذلك"!!!!
لكن صوتها أحتبس في حلقها تلك اللحظة وأطاعتهم بإستسلام....
ماذا يستطيعن أن يفعلن؟!لا شئ!!!
الدقائق تمرُّ بطيئة كسلحفاةٍ كسول تأبى أن تُغير من مكانها، لكنها لا تقدر أن تغير مسار القدر!!!النجومُ قد زينت السماء ببريقها الفضي وتركت إحداها تهوي سهواً هناك، في مكانٍ ليس ببعيدٍ على الأرض...جثة هي بلا روح، أينما قالوا لها شئ هزت رأسها وفعلته، بريق عينيها أنطفأ والعينان تأفلان كأفول الشمس لحظة مصافحة الغروب،،،ها هم يطلبون منها أن ترفع رأسها وتبتسم...ابتسمت وهي تطالعهم وعلى وجهها علامة استفهام:"أيكفي هذا، أم هل من مزيد؟!"...
- انظري لنفسك في المرآة، تبدين مذهلة...وتأملت صورة تلك الفتاة التي أشاروا لها في المرآة، إنها تكاد لا تعرفها، من هذه؟!الصورة غائمة، مهشمة، محطمة هي...
وضعت كلتا يديها على المرآة لكأنها تود أن تخفيها، أن تهرب بها إلى البعيد...الصورة بقيت، والروح ذهبت بعيداً بعيداً...ساعدتها "شيماء" لتنهض فحركتها باتت ثقيلة والفستان يعيقها، يكاد يخنقها....الشفتان ترتعشان والوجه منطفئ...لا أحد يجيد القراءة هذه الأيام، ها هم يسوقونها وهي تمشي بإستكانة...ماذا بعد ذلك، أجيبوني؟!!ضمت يديها في حجرها وهي تنظر للطريق من نافذة السيارة...النجوم في السماء لازالت تنبض بوهن، والنجمة الحمراء المسماة بالدب الأكبر تكاد تغطي على الجميع....أسرها منظرها، مدت يدها التي ترتجف لأعلى قليلاً لكأنها تودُّ لو تصل إليها وتلامسها، أو ربما لتذهب معها إلى هناك!!!حتى الطريق للحفل كان طويلاً، مرهقاً ومعذباً، والنجمة الحمراء لازالت بقوتها، لازال شعاعها الأحمر نابضاً...وتوقفت السيارة فجأة، كان "ناصر" و زوجته يتحدثان وهي تسمع بلا حياة...
القلب ينزف، ينزف صديداً، كل ما فيها استُنزف، لم يبق إلا القليل...فتحت "شيماء" الباب وهي تحاول مساعدتها على الخروج، كانت تنظر إليها بذهول، عينيها الذاويتان تتطلعان لحنايا وجهها....
"ألا تفهمين؟!"...الرسائل لا تصل، والبريد ضاق ذرعاً بحملها...اتصلت "شيماء" بندى لتخرج من الصالة وتساعدها في حمل فستان العروس....
وتهرع تلك لتلحق بالركب، كلاهما تمسكان شيئاً، إحداهما اليد والأخرى الفستان...ماذا عن القلب الدامي؟!!
الطبول تدق والفرقة لا تتوقف عن الغناء،،،الدقات تتوالى بقوة، بصوتٍ يكاد يصمُّ الآذان...الدم يجري بقوة هو الآخر، يساير الهواء والماء والمطر والموت!!!!- ابتسمي، وجهك يبدو شاحباً..وتبتسم مرةً أخرى ابتسامةً ميتة!!هي الآن آلة، تنفذ ما يقولونه، دائماً تسمع وتطيع...وهناك في نهاية الممر، وقف بقامته الطويلة ينتظرها...وقف صاحب تلك العينين ببدلته السوداء كسواد الليل المظلم...المظلم هنا وهناك!!!تلفتت يميناً وشمالاً كلٌّ بجانبها، صدت للأمام...وهو أيضاً...
أين المفرُّ إذن؟!!!الطريق مسدود، والثغرات تُملأ....ها هي شيماء تمسك بيدها وتمدها لذاك الأخير...تناول تلك اليد النحيلة، ضمها إلى يده..لكنها كانت باردة لا حياة فيها....
شدها بقوة لعل الحرارة تعودُ إليها وتنظر إليه...رفعت رأسها فتقابلت بعينيه...إنها تجيد القراءة ج

*المتمردة*
*المتمردة*
توقفت "ندى" أمام مرآتها وهي تطالع نفسها من كل جانب وفي مختلف الوضعيات!!!
وعندما تأكدت من نفسها و جمالها!! دخلت إلى الحمام لتزيل آثار المكياج وتغير ملابس الحفل...
ألقت نفسها على السرير وهي تتنهد...
الغرفة باتت خاويةً على عروشها، وعادت هي إلى وحدتها من جديد بعد أن غادرتها "غدير"...
سحبت لها "دباً" كبيراً ووضعت عليه رأسها بدلاً من وسادتها علهُ يخفف وحشتها ولو قليلاً....أغلقت عينيها بتعبٍ وإرهاق كي تنال لها قسطاً من النوم، فغداً لا بد أن تذهب للعمل مبكراً وإلا كان لها المدير بالمرصاد!!وفي الجانب الآخر، كانت "شيماء" واقفةً في منتصف الصالة ، تنتظر أن يلحق بها زوجها ويبدو أنها نسيت أن "وليد" عاد إلى هنا، وأنهُ احتلّ غرفة "عمر" بعد أن تزوج هذا الأخير...خلعت وشاحها وسمحت لتسريحة شعرها أن تتحرر من ضغطه وضغط الجو الحار....سمعت صوت حركةٍ خافتة خلفها فالتفتت وعلى وجهها ابتسامةٌ ساحرة:- ناصر ....وقطعت جملتها قبل أن تكتمل وقد صُدمت من ذلك الطيف الذي يطالعها بإنبهار!!!وانتبهت لنفسها فارتدت وشاحها بسرعة من جديد وتنحنح هو الآخر معتذراً عن دخوله المفاجئ هكذا....
تابعته وهو يلج إلى الغرفة المجاورة لغرفة "ندى"، وبعد دقائق عاد "ناصر" ليفيقها من صدمتها ويأخذها معه....
.
.
.
.
.
.
.وكانت أول صفعة..
أول نظرة....
دائماً هناك الأولى، أليس كذلك؟!!
انتظروني..
لاأناام....
أشكو من الظلم الذي ألقاهُ
وظلمُ من أحببتهُ أبقاهُ
وكلما زاد اضطهادي عندهُ
تبسّم القلبُ فما أشقاهُالاضطهادُ كاللهيب فهو إن
أحرق قلب عاشقٍ نقاهُ...
(11)
أمالت بكرسيها إلى الجدار وهي مندمجة في قراءة الرواية التي بين يديها....كانت "أشجان" تثرثر في أشياء كثيرة لكن أذنيها لم تكن لتعمل تلك اللحظة، فقط عيناها اللتان تكادان تلتهمان تلك الحروف الصغيرة المنحوتة على الورق الباهت....ودخل بعد أن ألقى التحية حاملاً معه حقيبته السوداء:- السلام عليكم.
- وعليكم السلام. ردّ الجميع.رفعت عينيها عن القصة لترد هي الأخرى بخفوت ثم عادت من جديد لتتبع السطر الذي توقفت عنده.ومرّ خاطفاً أمامها لكنهُ سرعان ما عاد أدراجه ووقف أمام مكتبها يدقه بأصابعه.الظل الواقف يمنعها من الإكمال والدق يحدث بلبلة في ذهنها، وضعت القصة في حجرها ونظرت له بتساؤل، فلا تدري أي تهمة سيلقي عليها اليوم!!!
- ماذا تقرأين؟!
- قصة. ردت ببراءة.
- أريني إياها.ومدتها إليه وهل تستطيع أن ترفض؟!
وقبل أن تصل إلى أصابعه أرجعتها بسرعة إلى الخلف وهي تبتسم له بإرتباك وقد انتبهت لنفسها وللقصة!!!- إنها لا تناسبك، أنصحك ألا تقرأها. ضحكت بغباء.وأطبقت فمها بعد أن رأت تلك النظرة المجرمة على وجهه.
- هاتيها. قال بصوتٍ آمر.
فوضت أمرها لله وأعطتها إياه وسط نظرات "أشجان" الراثية لحالها..وما أن وقعت عيناه على الغلاف حتى رفعها عالياً وهو يصيح:
- أهذا ما تقرأينه؟! قصص مراهقين!!
رمشت عينيها عدة مرات وهي تتمنى أن يخفض القصة كي لا يروا الصورة أو عنوانها..
"غرام وانتقام"!!!!لمَ لم تختار عنوان آخر "محترم" بعض الشئ، لكن المشكلة أن كل روايات "عبير" هكذا، أليس كذلك!!!
"فضحتني يا رب تنفضح بين خلقه"...
- كم عمرك؟! صرخ في وجهها.
"ولم هذا السؤال المحرج؟!"..
- أ..أ.. ثمانية عشر عاماً.وانطلقت ضحكة صغيرة من فم "أشجان" لكنها سرعان ما دفنتها بين الأوراق.
نظرت إليه من طرف عينيها...
آه، لم يصدقها هو الآخر!!فتحت فمها لتعلل بتلعثم:
- أتصدق، كثيراً ما يخالونني في الإعدادية، انظر لوجهي أبدو صغيرة أليس كذلك؟!قالت ذلك وهي تشير بيديها لوجهها وهي تكاد تخرج المرآة من حقيبيتها لتستوثق من نفسها وتُريه!!تحركت عضلة صغيرة أسفل فمه وهو يصرُّ على أسنانه:
- سألتكِ سؤالاً محدداً فأجيبي عليه.
- عمري اثنان وعشرون عاماً. ردت وهي تلوي فمها بعبوس.وقبل أن يفتح شفتيه قاطعتهُ مستدركة بسرعة:
- هذا بالتاريخ الانجليزي، لكن بالعربي لم أكمل بعد اثنان وعشرون، لازلتُ واحد وعشرون عاماً..وعادت لتبتسم بزهو لأنها صغرت عاماً لكن ابتسامتها لم تكتمل، يكفي نظرة واحدة إلى وجهه لتجعلك تُصاب بالمغص.أخذ يضرب بالقصة الذي ثناها على الطاولة بنفاذ صبر، قال:
- ألا تخجلين من نفسك في هذا السن وتقرأين هذه السخافات."لا هذا كثير، ماذا يخالني هذا الأحمق، ثم ما قصدك في هذا السن؟! تخالني بعمر جدتك؟!"..- هذه حرية شخصية. ردت وقد وضعت كلتا يديها على خصرها بعصبية.تطلع إليها من علو وقد ارتسمت على وجهه الدهشة من حركتها، لكنه سرعان ما صاح:
- حرية شخصية في بيتكِ هناك وليس هنا، هذا المكان للعمل وليس لقراءة القصص الفاسقة!!
- كنتُ أقرأها في وقت فراغي، لم يحن بعد وقت بدأ العمل. زمت فمها.
تطلع إلى ساعته ثم نظر لها بشزر:
- الساعة الآن التاسعة والربع يا آنسة.- كانت التاسعة إلا عشراً، لكنك من ضيعت وقتي كنتُ سأُنهيها في العشر دقائق المتبقية.- ضيعتُ وقتك؟! سألها بغضب.وكأنها انتبهت لكلامها الذي تمادت فيه، فأسبلت رموشها بذل بسرعة محاولةً أن تُنزل أي شئ من عينيها، لكن يا لعناد عينيها!!
نكست رأسها وهي تقول بإستعطاف:
- أستاذ، البارحة..البارحة أخي تزوج ابنة عمتي، وكانت تنام معي في الغرفة والآن ذهبت، وأنا فتاة صغيرة تعرف ذلك والكل يشهدُ بهذا!!!ثم أكملت وهي تزدرد ريقها وتلون من نبرة صوتها:
- و..و رومانسية والطبيب الذي أخذت منه العذر بذلك اليوم قال لي ليس جيداً أن أكبت مشاعري فأنا صغيرة، قلتُ لك ذلك من قبل أليس كذلك؟!
ورفعت رأسها قليلاً ليؤكد أو يفند سؤالها، لكنه كان يطالعها وعيناه مفتوحتان على أوسعهما...
عادت لترمش عينيها ببراءة وأردفت:- وهذه القصص تفيدني، فمثلاً أبكي بعد قراءة القصة، تعرفني حساسة ورومانسية، وابنة عمتي تزوجت البارخة بأخي و....
- يكفي.
وصرخ فجأة فأجفلت في مكانها وهي لا تعرفه سبب صراخه، وضعت أصبعها الأيسر في فمها وهي تطالعه بتعجب."يبدو أنه جنّ!!"
- لم أطلب منكِ أن تحكي لي قصة حياتك التافهة كقصتك.وأردف وهو يلقي بالقصة في القمامة المجاورة لطاولتها بتهديد:- هذا سيكون مكانها الحقيقي، وسأمر كل يوم لأتفقدها وإن تحركت شبراً واحداً سأُلقيكِ بدلاً منها، أتسمعين؟!"ستلقيني أنا في القمامة؟! أنا "ندى" بنت "محمد" ألقى في القمامة؟! ماذا عنك يا "عنتر"؟! المحرقة تناسبك أليس كذلك؟!"ودخل إلى مكتبه وهي تتابع طيفه وتتخيل أنها تخنقهُ بأصابعها، التفتت للفتاتين إحداهما تبتسم بتشمت والأخرى تبتسم أيضاً!!!قالت وهي تحركُ كتفيها بلا مبالاة:- كنتُ سأردُّ عليه لولا أنه ذهب، تعرفون..يخافُ مني!!"الآن نحنُ في الصباح، لازال الوقتُ مبكراً على الأحلام!!"..وجلست على كرسيها تطالع قصتها بحسرة!!تُرى ماذا حدث بجاكلين الآن؟!!
فتحت عينيها بإضطراب وهي تحاول أن تتجنب الضوء الشارد الذي انسلّ إلى هذا المكان عُنوةً من زجاج النافذة الكبيرة....حركت أصابعها بتعثر لتصل إلى نحرها وتقبض عليها...
الإحساس بالضيق، بالإختناق يتصاعد، والوجود أسود رغم شعاع النهار!!!كانت مستلقية على الأرض بفستانها الأبيض، مررت عينيها الذاويتين على حاشيته فعادت إليها ذكرى ليلة البارحة...صدرها بدأ يرتفع ويهبط بسرعة وهي تجول ببصرها حول المكان، حول الفراغ، حول السكون المطبق وهي تطالع باب تلك الغرفة حيثُ يقبع ذاك الذي في يديه مصيرها...
وضعت كفها بوهن على جبينها، أزيزٌ قوي يطنّ برأسها، جسدها متهالك من شدة التعب، ومن كثرة البكاء..
لكنها لا بد أن تقوم، أن تُنهض نفسها قبل أن ينهض!!!
و عاد الإختناق ليغلفها من جديد، ليزيدها تقريحاً ويشلّ حواسها رعباً...استندت بيديها بتثاقل على البلاط لكن قواها الخائرة لم تسعفها، ربما كان ذلك بسبب ثقل الفستان أو ثقل أثمها أو خيال يده الثقيلة التي تلوحُ لها كل حين!!أفلتت يديها وهي تشعر بالعجز...
العجز!!!
شعور مقيت، مميت، يحطمك، يحيلك إلى هشيم، إلى لاشئ....
ولكن منذُ متى كنّا شيئاً حتى نتحول إلى لاشئ؟!أسندت رأسها على الأريكة القريبة منها وهي تغمض عينيها بقوة، فهذا أقصى ما تستطيعُ فعله حتى الآن!!
وسمعت حركة خافتة، كان هذا صوت إكرة بابٍ يُفتح...
انتفضت في جلستها تلك فعادت لتنكمش وودت تلك اللحظة لو تختفي خلف الأريكة أو تتحول إلى جماد، إلى سراب، إلى ذرة غبار لا تكاد تبين!!!آه، ليت المطالب بالتمني، ولكن تؤخذ الدنيا غُلابا....لاح لها طيفه بقامته الطويلة واقفاً عند الباب وبصره مصوب نحو البقعةِ التي افترشتها دثاراً على الأرض...
أخفضت رأسها، لا تريد أن ترى وجهه، ملامحه، عيناه!!!
نحنُ في البعيدِ أفضل، أفضل بكثير...
آه لكنهُ لا يرضى بالبُعد ولا بالسلام...
في أيِّ عالمٍ نحنُ نعيش وفي أي زمن؟!
أليس بزمن الموت والورود؟!
في الزمن الذي تعانق فيه الياسمينة أشواك "الورد المُحمدي"؟!دنا منها شيئاً فشيئاً وهامتهُ عالية أما هي فلا تزال تطأطأ، لازالت تلامسُ الأرض والطين!!!أيُّ مسافةٍ تلك التي تفصلُ بينهما الآن؟!
بحجم الثرى وطول الثريا!!!
نظر إليها من علو، بحدة وقدمه تدوسُ على تلابيب فستانها الأبيض...
الصوتُ ينطلق بارداً، ساخراً، مليئاً بالقسوة والإزدراء:
- ما بالُ العروس العاشقة نائمة هنا؟!
- .......................
- أنمتي جيداً أم أن خيالاتك حوله سرقت عينيكِ لذة النوم؟!
- .....................
- ما بك لا تنطقين، أكلُّ هذا خجلاً من حبك الفياض؟!!
ونزل بمحاذاتها فأخذت ترتجف وهي تدفن رأسها في الأريكة....
لكن صوته عاد أكثر بروداً، السم يجري في أوتاره، والسم ينفذ، يخترق الروح والقلب معاً، فما أقسى الكلمات، ما أقساها...
- هذه الدموع والنظرات المرعوبة ما عادت تؤثر في، لذا لا تمثلي المزيد.
- .................
- الآن فهمتُ لم كان زوج أمك يضربك، لا بد أنهُ عرف بإنحلالك الأخلاقي، ربما لهذا قال لي ذلك اليوم المشؤوم حين أخذتك: انتبه لها، وأنا الأحمق كنتُ في خبر كان..
- ..................- ويبدو أنهُ فشل في ذلك، وقد حان دوري يا عزيزتي لأسيرك على الصراط، ألا توافقيني الرأي؟!رفعت رأسها والألم يعتصر وجهها من كلماته، من قطرات السم!!
تطلع هو إلى سحنتها المبللة، إلى عينيها الذابلتين، وتوقف كثيراً عند فمها المتورم في نهاية زاويته اليسرى. تجهم وجهه فجأة ثم قال بعد برهة بتوتر:
- اذهبي وغيري ملابسك..عادت لتنكس رأسها فتهدل شعرها المبعثر على كتفيها...
مرت لحظة صمت ودون شعور مرر أصابعه في تلك الخصلات الطويلة ليزيحها عن وجهها، التفتت إليه بسرعة فانتبه لنفسه ويده!!!سحب يده وهو يدير وجهه بعيداً عنها وقال بصوتٍ مصرور:
- اغربي عن وجهي فوراً..
وحاولت أن تنهض باضطراب لكن محاولاتها باءت بالفشل من جديد، إن استمرت على هذا الحال ستتحطم بلاشك...وقف وعادت نظرة السخرية ترتسم في عينيه الخضراوين، مدّ يده إليها، أخذت تطالعه بتردد لكنها ما لبثت أن مدت يدها النحيلة لتستند عليه وأخيراً وقفت على قدميها..وترك يدها بإمتهان وهو يخاطبها :- حقيبتك في الغرفة الأخرى..أسرعت الخطى إلى حيثُ أشار، استندت على الباب وهي تتنفس بعمق، أوصدته خلفها ثم تحركت للسرير....
كان بودها أن تستلقي، أن تغفو، لكنها عادت وفتحت تلك الحقيبة الكبيرة واستخرجت لها شيئاً لترتديه، لتتحرر من هذا الثقل...غسلت وجهها بالماء وهي تربت بخفة على جلدها علّ لون الحياة يعود إليه من جديد....
وأخيراً أمسكت بدثارها وهي تقبض عليه بتعب، وقبل أن تضع رأسها على الوسادة وترتاح، سمعت طرقاً على الباب.
ردت بوهن:- من؟!
- من تعتقدين؟! حبيب القلب!!
غطت رأسها بدثارها، لا تريد أن تسمع المزيد، كفاك...
- أعدي لي شيئاً أنا جائع.
- أنا متعبة، أريدُ أن أنام..
- صحيح؟! ألم يكفك نوم البارحة بأكمله!! سألها بإستهزاء.
وطفرت الدموع من عينيها بعجز، إنه يتقصد تعذيبها، إهانتها، جرحها...
لكنها من بدأت وعليها أن تُكمل...انتشلت نفسها بصعوبة وهي تبعد دثارها وتهمهم بخفوت بأنها ستأتي...
وسمعت صوت شخصه يبتعد ففتحت الباب، لكنها لم تعرف أين تذهب...
أين هو المطبخ؟!
أطلت برأسها للصالة فلم تره فقررت أن تبحث عن المطبخ لوحدها...
وما أن استدارت على عقبيها حتى لقته أمامها!!!!
شهقت وهي تضع يدها على صدرها و تتراجع إلى الوراء من رؤيته المباغتة..
- ماذا؟! أخفتك؟! لم أكن أعلم بأني مخيفٌ لهذه الدرجة!! قالها بتأسف زائف.ثم صمت وهو يتأملها ببطء من رأسها لأخمص قدميها، ناداها آمراً:
- تعالي إلى هنا...
لكنها بقيت مستندة على الجدار وهي تهزُّ رأسها ببطء، عيناهُ تبدوان غامضتان، مخيفتان أحياناً!!وما أن شرع بالإقتراب حتى حاولت الهرب لغرفتها لكنهُ كان أسرع منها، أمسكها من زندها وهو يضغط عليه، صاح في وجهها بغضب:
- أنا لا أحب أن أكرر كلامي مرتين، حين أقول شيئاً تنفذينه مباشرةً أتفهمين؟!
هزت رأسها بجنون بالإيجاب لكنهُ زاد من ضغطه فصرخت من الألم:
- أريد أن أسمع الإجابة أم أن لسانك لا يعرف إلا أن ينطق الحقارة فقط.
- ح..حسناً، فقط..أترك..أترك يدي..أردف بتساؤل وهو عاقدٌ حاجبيه:
- والآن ما هذا الذي ترتدينه؟!
تطلعت إلى نفسها بحيرة وشفتها ترتجف:
- م...ماذا؟!
- اللون الأزرق لا أحبه، وما لا أحبه أنا لا تحبينه أنتِ!!!
تطلعت إليه بشرود دون تصديق فهزها لتنتبه له وهو يردد:- لم أسمعك، قولي لا أحبه.
- لكنني أحبه. صاحت بهمس مرتعش.
أطبق على عنقها وهو يقرب وجهها من وجه حتى كادت أن ترى صورتها المرتجفة في عينيه المشتعلتين، قال بتهديد، بموتٍ زاحف:
- أنتِ لا تريدين أن تستثيري شياطيني اللعينة هذه اللحظة أليس كذلك؟!
هزت رأسها بخوف وهي تردد:
- لا...لا أحبه، لا أحب هذا اللون.
وترك عنقها فهمّت بالدخول لغرفتها من جديد، صاح فتجمدت في مكانها:- أين تذهبين؟!
تطلعت إليه إرتباك وهي تشير لنفسها:
- سأغير ملابسي...
- ليس الآن، اذهبي واصنعي لي "فطوراً" أولاً..
- أين المطبخ؟ سألته بوجل.
- هناك.وما أن وصلت هناك حتى استندت على الباب وصدرها يعلو ويهبط بهلع..
لقد فقد صوابه هذا الرجل!!
أكان يقصد اللون فعلاً؟!
وانصرفت لتصنع الشاي وهي تسقط كل الأشياء من يديها من شدة التوتر...
فتشت في الثلاجة عن أطعمة جاهزة، أخرجت جبناً وشرعت في قلي البيض...
وضعت الإفطار في "صينية" متوسطة الحجم....
كان جالساً في الصالة واضعاً قدماً على أخرى فوق الطاولة، وبيده جهاز التحكم عن بعد، يقلب القنوات...
ودون أن يلتفت إليها قال:- ضعيه على الطاولة.
لكنها لم تتحرك وبقيت تنظر له بتساؤل، وحين أطالت في وقفتها، رفع بصره إليها وهو يحدجها:
- ماذا؟! ألا تسمعين؟ أأصبتِ بالصمم أيضاً؟!
- كيف أضعها وأنت..أنت قدميك على الطاولة..
- أعتقد أن هذا الأمر لا يحتاج إلى ذكاء خارق، أبعدي قدمي..و كادت "الصينية" أن تسقط من يديها، لولا أن تشبثت بها جيداً في اللحظة الأخيرة...أن تُجرح، تُسب، تُضرب، أمرٌ أعتادتهُ من صغرها ولكن فليقف عند هذا الحد، فهي لا تسمح لأحد، أي أحد أن يمتهن كرامتها.
وعادت كبرياءها لتعود للصدارة وتدوسُ على الألم، على الخوف...
ردت بشموخ:
- أنا لستُ خادمتك..
وحنت جذعها لتضعه على الأرض لكنها توقفت في نصف حركتها بعد أن رأت ساقيه الطويلين أمامها، أرخت يديها وأكملت إلى أن وضعتها على الأرض بتصميم...
ودارت دون أن تلقي عليه نظرةً حتى...
وبقيا هكذا واقفان بلا حركة، بلا صوت....
الهواء يرفلُ بالغبار، بشرارٍ متطاير والصمت أبلغ من الكلمات أحياناً!!
أتاها صوته من الخلف بعد أن أخذ قسطاً من الزمن:
- أنتِ محقة أنتِ لستِ بخادمة...أنتِ لا شئ...
و غاب البريق الشامخ من عينيها، أنطفأ، وحل محله الإنكسار، بقايا الحطام...
كم من السهل أن تكسرنا الكلمات، تشطرنا شطراً، فيبقى الجرح نازفاً ويد الجراح عاجزة عن تضميده....- خذي هذا الإفطار أو كليه فأنا لا أريده!!!
النجمة تأفل، تهوي إلى القاع، تتعفر في التراب وتفقد بريقها، ضياءها الأزلي...
تأملت "الصينية" بعينين لا تريان، فقدتا بريقهما هما الأخرتين، ها هما تغيمان الآن، سحقهما ذاك الأخير وذهب..
آه ما أقسى الكلمات....
عادت لتنحني من جديد، حملت "الصينية" ووضعتها على الطاولة ثم توجهت إلى غرفتها...القلق يكتسحها، والتعب يحطم بقايا خلاياها...
ما تعيشه الآن هو كابوس، كابوس كريه، لكنها ستحاول أن تتخلص منه...
أجل ستفعل ذلك...
أخذت تمسح على جبينها وهي تضغط عليه بأصابعها بقوة:
أحقاً سأنجح!!
قولوا بلى، أرجوكم..
أرجوكم...
وألقت نفسها على الوسادة وهي تجهش بالبكاء بصمت...
النهار لا يلبث أن ينطوي سريعاً...
كصفحةٍ من الجريد هو....
ويأتي الليل بغيومه، بنجومه، برعوده!!!لماذا يا "غدير" لماذا؟!يتبع الجزء في المرة القادمة بإذن الله <<<<
تحيااتي...
لاأناام...
إن تبحثي بين سطور الورقِ
عما أردتُ قوله تحترقيلا تقرأي إلا الجلي واتركي
عنكِ الخفي واسلمي من أرقِإن الحروف كالبحار من يخض
غمارها مهددٌ بالغرقِ
سارحة في جلستها تلك، ويدها أسفل ذقنها، عيناها الشاردتان ترفّان وتمسان الهواء البارد المنبعث من جهاز التكييف...
كان يسرّح شعره استعداداً للخروج وهو يخاطبها من خلال المرآة، ناداها بعد ذلك عدة مرات علها تنتبه إليه...
رفعت رأسها ناحيته وهي ترفع حاجبيها بتساؤل:
- شيماء!!
- ماذا؟!
- ألن تذهبي معنا؟
- بلى، سآتي.
- هيا إذن ارتدي عباءتك، سيدمدم أبي إن تأخرنا.
نهضت وهي تسحب خمارها من الشماعة ببطء، اقتربت من زوجها وهي تدعك شيئاً علق بذيل الخمار.
- ناصر، لم لا تستشر أخاك في أمرنا؟! لقد درس الطب في السويد وبالتأكيد طرق العلاج هناك متطورة أكثر من هنا.
تطلع إليها بتعجب ثم سرعان ما قال عابساً:
- "وليد" لم يصبح طبيباً بعد حتى أستشيره.
- لم يتبق عليه إلا سنة واحدة ويتخرج.
عاد ليبعثر شعره من جديد في اتجاه آخر دون أن يعلق.
- ناصر!!- ........- ماذا قلت؟!- أقول ماذا؟!
وتطلعت إليه بنفاذ صبر وقد تركت ما بيدها:- أنت لا تأخذ الأمر بجدية أبداً.
حدجها بنظرة نافذة، لكنها لم تلن وبقيت على وقفتها الجامدة تلك..
رد بصوتٍ غاضب:
- ماذا تريدين بالضبط؟! أن أخاطب ذلك الغر وأستشره في...
قاطعته بسرعة:- هو ليس غراً وإن كان على مظهره، فأنت تعرف أن معظم من يسافر للخارج يتغير..
- أنا لا أثق فيه أصلاً، حتى الدراسة أشك بأنه قد درس طب..
- وماذا كان يفعل إذن؟!
- لا أدري، لكنني لم أحب أن أقلق والدي بشكوكي هذه.
- أنت تتوهم، لقد آراني أنا وندى شهاداته للعام الماضي وكانت بتقدير "امتياز".
صمت برهة ثم تنهد مستغفراً:
- حتى وإن كان كذلك فسنستشر طبيباً حقيقياً وليس متدرباً.
- وماذا فعل الأطباء الحقيقيون؟! ليس لديهم إلا كلمة: اصبروا..اصبروا.. رددت بسخرية مريرة.
- وهذا بالفعل ما ينبغي علينا فعله، فليس بنا عيباً والحمد لله.
- وماذا ستخسر إذا سألته؟! أم أنت تغار منه لأنه أصغر منك ولديه شهادة جامعية!!تعابير الوجه تجمد، و تتلاشى تلك الخطوط الدقيقة المحفورة في حناياه...
الألم يرتسم في المقلتين، ينعكس في العدستين الزجاجتين الصغيرتين...خرج من الغرفة بهدوء، أما هي فتهاوت على الكرسي بتثاقل....غطت وجهها لكأنها خجلت من فداحة ما قالته...
باتت تلقي الكثير من الكلام في الآونة الأخيرة..
دون حساب، دون حذر...
ليست من الدرر، ليست كذلك أبداً...كلنا نشرب من هذه الكأس ولكن حذارِ، حذارِ من الانغماس حتى الثمالة!!!!
أتاها صوت "ندى" من أسفل ينادي عليها، يستعجلها للذهاب ويفيقها من خواطرها التعسة.....
ارتدت حجابها وهي تشعر بالضيق، ووصلت إلى حيثُ كانوا مجتمعين...
انقسمت العائلة إلى سيارتين، الأب ووليد وندى في سيارة و ناصر وشيماء وهدوءهما العاصف في سيارة أخرى...
خرجت من غرفتها بتعثر وهي تتطلع لنفسها كل حين...
لقد اتصل خالها وقال أنهم سيأتون هذا المساء...
ارتدت بنطالاً من الجينز الأخضر الباهت، وقميصاً زيتوني اللون تنتهي أطرافه بقصات غريبة ذات طابع غجري...
مشت إلى الصالة دون هدى وهي منكسةٌ رأسها بقلق...كان واقفاً أمام النافذة يطالع المارة والسيارات، وما أن سمع وقع أقدامها الخافتة حتى التفت إليها...
رفعت رأسها هي الأخرى ببطء فالتقت بعيناه....
وتضرج وجهها احمراراً مما رأته!!كان يرتدي بدلةً بمثل لون قميصها وقد بدت عيناه منسجمة تماماً مع ما يرتديه..
كلاهما خضراوان!!!حاولت أن تشيح وجهها وتطالع أي شئ، أي شئ، لكن تلك النظرة المرتسمة في عينيه عادت لتأسرها وتجبرها على النظر إليه من جديد!!وتحرك هو من مكانه أما هي فبقيت متجمدة، واقفة بلا حراك، قدماها لا تتزحزحان عن البلاط!!أصبح في مواجهتها مباشرة، عيناه تطوفان بحرية في قسمات وجهها المرتبكة في خجل غريب..
الزمن يتوقف هو الآخر، يتوه، أو ربما يحاول أن يختلس لحظات، لحظات فقط ويحتفظ بها في علبته!!!ضاعت هي الأخرى...
عاجزة، حائرة من عينيه المتشابكتين في غموض، إعجاب، شوقٌ دفين....
أسبلت عينيها بضعف ومشاعر غريبة تمزقها، تُحيلها لأشلاء، ويظل بقاياها فتاتاً تذروه الريح والهمسات!!!
لا تريد أن تغرق في هذا المحيط البلوري، هي منارة هكذا هي، والمنارة إما أن تغرق أو تبقى صامدة حتى النهاية!!
أتاها صوته أجشاً هامساً:
- سيفدون الآن!!
- .............
- سيفدون الآن؟! كرر عبارته من جديد.رفعت وجهها باضطراب وهي تحاول أن تتحاشى عينيه:
- وإذن؟! سألت بهمس.
- وليد و ناصر سيحضران أيضاً، أتريدين أن تخرجي أمامهم هكذا؟!ها هي تطفو، تضيع بلا منارة بلا قشة!!والصخب يعلو هنا، هنا بين الضلوع حيثُ يتوسد القلب بلا حول، بلا قوة!!!استدارت لتعود إلى غرفتها وترتدي وشاحاً....
الطريق إلى هناك بدا طويلاً، متعباً، مؤلماً رغم قصر المسافة..
جلست على كرسيها بوهن وهي تحاول أن تتجنب تلك الغصة بصدرها، بحلقها..
الصراع النفسي منهك، مميت حتى النخاع...
سمعت أصوات التهاني والترحيب تتزاحم جملةً مع بعضها البعض و تقترب...
ارتدت وشاحها وهي تمسح عينيها بعجل...وما أن فتحت الباب حتى أطلت "ندى" بوجهها الضاحك، عانقتها على الفور دون أن تترك لها المجال لتتنفس.- لقد اشتقتُ لكِ كثيراً، الغرفة مظلمة بدونك..عادت الابتسامة الضائعة لترتسم على شفتيها :
- وأنا أيضاً... كثيراً..
- اتركيها يا "ندى" أريد أن أسلم عليها أنا الأخرى. صاحت "شيماء".
- انتظري، أريد أن أسألها عن سبب جمالها المفاجئ مرةً و

Ladies First دش واتعرف معناها
أريد زوجي