- دهى قلبي أمر لا عزاء له *** هوى له أحد وانهد ثهلان
- و قال أتبكى كل قبر رأيته *** لقبر ثوى بين اللوى فالدكادك؟!
- فقلت له: إن الشجا يبعث الشجا *** فدعنى فهذا كله قبر مالك
وأنا أتصفح في إحدى المنتديات أخترت لكم هذا المقال شاب يفتقد لأمه بعد وفاته
عادة ما أقفز من الأسطح لآتي المواضيع من غير أبوابها، ولكن ها أنا أقف أمام جبل لا أدري أين بابه، أصف مشهداً لا يعرض في العمر إلا مرة واحدة، ها أنا أكتب وأحرفي تترجم مشاعري، ودموعي تسبق أحرفي، بل هاهو المقال يكتبني أمامكم ليجردني من المشاعر المزيفة، اكتب وأنا خائر القوى كليل اللسان عاجز البيان ويختلجني ألم يعتصر الفؤاد، وكأن صرير قلمي سمفونية حزينة وحروفها أوتار عزف على مقام حزين، هي الأقدار،، هي الأقدار،، هي الأقدار..
دهى قلبي أمر لا عزاء له *** هوى له أحد وانهد ثهلان
أضناها المرض لأشهر، فمن بعد رمضان المنصرم وهي طريحة الفراش من أثر الورم الذي في بطنها، ففي جوفها نصل يقطع أحشائها، وهي صابرة محتسبة عديمة الشكوى، تتصبر وتتحامل على نفسها وتكبد نفسها المشاق من أجل عدم إظهار الآلام، تدعي ربها في صلاتها، وتكثر من الاستغفار وقراءة القرآن والصدقة لعل الله أن يفرج عنها مرضها.
في أحد الليالي نشأ لدي شعور بالسوء يكاد يملأ يومي هل هي ارتباط الأحاسيس أم تعانق الأرواح لا أدري، ربما يكون ذلك.!؟ فعند دخولي للمنزل خرج أخي وأبي مسرعين إلى المستشفى وتفاقم لدي الشعور بالسوء بشكل مفرط وأنا أتعوذ من وساوس الشيطان وأكثر من الاستغفار، أفقت من شوارد فكري باتصال من الوالد بالخروج عند الباب، استبشرت خيراً وقلت لعلها وصلت، فإذا الوالد يسلم علي ويجذبني إلى صدره وعانقني وهو يقول "أمك تطلبك الحل".
نزلت علي مصيبة كادت تهشم رأسي، ياويحي وياويل نفسي وكأن صمام قلبي قد قطع فبعدما لاح لي بصيص أمل بسيط حُطم وهوى إلى السحيق، بكيت بكاءً مر كالحنظل أتحسسه في حلقي وأنا أسأل نفسي هل حقّاً انطفأت شمعة حياتي.!؟ هل فقدت يومي وغدي وأدبرت أيامي.!؟ هل انتهت الدنيا وولّى ربيع حياتي وغشاه ليلاً حالك السواد.!؟ هل ذهب من كان يملأ بيتنا أنساً وسعادة.!؟ ففي كل زاوية من زواياه صورة لها وفي كل ركن من أركانه ذكرى معها، فقد كنت أطير في الدنيا كيفما شئت فإذا أصابني لسع الليل والنهار أعود إلى أمي أتحسس دفء حنانها، وها أنا الآن مكسور الجناح ولات ثم طبيب.
في 19 محرم 1430 الساعة الحادي عشر وست دقائق فاضت روحها الطاهرة وعرجت إلى السماء -فما أسعد السماء بروحها- بعد ذلك اليوم دفن جسد أمي، نعم دفنت ودفنت أحلامي، لقد أحببتها كثيراً وتألمت لفقدها أكثر مما أحببت، ولكن الحب الحقيقي الواحد الذي انطوى عليه قلبي هو حبي لها، والألم الفرد الصادق الذي عرفه قلبي هو فقدها، وكل ماعداه عارض، فاللهم ارحمني بالنسيان وأسعد النسيان بي، إني لأنظر الآن إليها وهي مريضة على فراشها ففي حينها لم أنبس ببنت شفة لأحد، لأني لا أحب أن أنشر أحزاني فتلوكها ألسنة الناس، فليبق الألم في صدري أحمله وحدي.
هاهو اليوم يعد الخامس عشر على وفاتها فلا أصدق أنها مرت بدون أن أرى فيها أمي ولا أسمع صوتها، وكنت آلم إن لم أراها أو أسمع صوتها يوماً، أتذكرها في المنزل فأبكي فأطوف عند كل زاوية وسارية وأبكي، فهذا مكان أمي، وهذا دفتر أمي، وهذه نظّارة أمي، وهذه سجادة أمي، هنا تنام أمي، وهذا حذائها، وهؤلاء أبناؤها، كل ما في منزلنا ينادي بإسمها، وأحتضن فراشي بآلامي وأبكي لأبل وسادتي فمن بعد وفاتها احترفت البكاء المر وأصبحت عبقري في سبل الدموع، ثم أستيقظ لأرى أمي في وجوه أخوتي فأكتم أحزاني كيلا أجدد حفلات البكاء وأفتق الجراح، وأخفي في نفسي ما الله مبديه على قسمات وجهي، آه لو أن بيدي عجلة الزمان لأدرتها للخلف فإني مشتاق إلى أمي أكثر من رمل الصحاري ومن قطرات المطر، فأنا أحن إلى خبز أمي وقهوة أمي أحن إلى ضحكة أمي، أمرّغ شفتي في يدي أمي، أن أملأ عيني بوجه أمي وأملأ رئتي برائحة أمي،، فاللهم صبراً فإني لا أطيق الصبر.
أنا الطفل الكهل..!! أنا اليتيم العشريني، أنا الذي شخت فجأة بعد ما ماتت أمي، وتكبر معي طفولتي يوماً تلو يوم، ولم أعد أجد في الحياة ما يغريني، وماذا في الحياة.!؟ كل لذة فيها مغشاة بألم فلا لذة تدوم وقد ذهبت لذتها، لقد كرهتها نعم وزاد كراهتها إلي هؤلاء الناس الذين إذا ما رأوني حزيناً قالوا أنت رجل فلا تبك وإياك أن تسبل دمعة، فأتركهم منشغلاً في نفسي وهمِّي ولسان حالي سحقاً للرجولة إن كانت تمنع البكاء على أمي وأن أحدكم سيفقد أمه يوماً ليعرف أن الرجولة ذات بأس شديد، فلو امتلكوا حاسة يدركون بها المشاعر لبكوا معي جميعاً، هؤلاء الناس الذين لا يقبلون إلا محاسني وكانت أمي تقبلني على عِلاّتي، وكانت تحبني أنا، والناس يحبون أنفسهم فيَّ، فوا أسفى على دنياي قد احتواها التراب، فصرت أقف على كل قبر أبكي لأنه يشبه قبر أمي، ذلك القبر الذي أودعت فيه نصف قلبي، ذلك القبر الذي عندما دفنت فيه كنت جاثياً على ركبتي لأكون أقرب الناس لوداع أمي. سقى الله ذلك القبر وجاده الغيث إذا ما الغيث هما
لقد لامني عند القبور على البكا *** رفيقي لتذارف الدموع السوافك
و قال أتبكى كل قبر رأيته *** لقبر ثوى بين اللوى فالدكادك؟!
فقلت له: إن الشجا يبعث الشجا *** فدعنى فهذا كله قبر مالك
كنت أحلم كما تحلمون أنتم معاشر القراء أن أمي ستبارك لي في نجاحي وستكون معي في زفافي وستحنّك ابني وستسمي ابنتي وأشكي لها همي وتهتم لأمري، وأشرب فنجان القهوة كل مغرب معها، وأسعى في حاجتها، ولكن الأحلام أصبحت سراب ومطاردة السراب ضياع، ولكن سأحدث أبنائي غداً أن لي أماً عظيمة ليست كالنساء.
يقولون الأيام الجميلة لم تأت بعد، وما يدريك لعل أيامك الجميلة تصرّمت وانتهت ذخيرة الحظ الجميل، ويقولون إن المصيبة تبدأ كبيرة ثم تصغر، ومصيبتي تنمو في نفسي كل يوم، وإني لأريق الدمع كل ليلة أسقي بها هذا الضريح، حيث لا يراني أحد، ثم أنتبه فأجد أنه لا الدمع يصل إليها ولا الأحزان تنفع من فيه، ما ينفعني وينفعها إلا الرحمة من الله والغفران فاللهم كما أكرمتها بالشهادة * فارزقها ثواب الشهداء وارزقنا الصبر على البلاء، وأبدل محبتها في قلوبنا صبر ورضى وسلوان.
كان غفر الله لها صالحة تقوم الليل وتصوم النهار، وهذه شهادة لله أنها من الصوامات الصالحات فلم أذكر يوماً يستحب صيامه كالاثنين والخميس والبيض وغيرها إلا وهي صائمة وشذ أن أراها مفطرة، وكانت أكبر معين لي على صيام هذه الأيام، تعلمت منها الكرم والصمت والحكمة، تعلمت منها كيف أحْسِنُ للحسَّاد والواشين ومحبي النميمة، تعلمت منها كيف أقابل شاتمي وعدوي وكيف لا أذكره بسوء في حضوره وفي غيابه، رأيت فيها محبة الناس لها فأكثر من حولها يحبها فقلبها أبيض من اللبن وأطهر من المطر، فقد شيع جنازتها وجاءنا في البيت للتعزية أناس لا يحصيهم إلا الله ذكوراً وأناثاً، اللهم أحسن إليها كما أحسنت تربيتنا، وارض عنها كما الناس راضين عنها.
ثم إنني لا أبكي خوفاً مما هي قادمة عليه، بل رحمة الله خير لها منا، بل أبكي على فقدها في الدنيا مع يقيني أن هناك جنة ستجمعنا، لكن هو فقد الحبيب لا يقوى عليه القلب، ولنا في فقد محمد صلى الله عليه وسلم عزاء. اللهم اجمعنا بها في مستقر رحمتك .. اللهم اجمعنا بها في مستقر رحمتك .. اللهم اجمعنا بها في مستقر رحمتك.
عذراً أماه اختصرتك في مقال، ولكن حسبك فيني اليوم أني كليل اللسان
- قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (الشهداء خمسة: المطعون، والمبطون، والغريق، وصاحب الهدم، والشهيد في سبيل الله).
وقيل في المبطون: هو الذي به الاستسقاء وانتفاخ البطن.
وقيل: هو الذي يشتكي بطنه.
وقيل: هو الذي يموت بداء بطنه مطلقًا.
رحم الله والدة هذا الشاب وأسكنها فسيح جناته
بعد الردود سوف أضيف رد شقيقة الشاب على مقال أخيها