- خرجت نحو الباب فإذا بالسيارة تنتظرني.. كان يبدو غاضباً لتأخري..
- ركبت وسلمت.. سألته عن حاله وهو كذلك.. ثم سرنا طوال الطريق في صمت..
- سكتت.. فقلت لها..
- فجأة.. فتح والدي الغرفة بقوة.. بدا هائجاً وغاضباً.. وصرخ..
أهدي هذه القصة لطالبة
عزيزة.. أحبها في الله.. وإلى
كل الفتيات اللاتي يشتكين
من آلام حياتهن..
ها هو أول يوم في العطلة يبدأ..
الطالبات يخرجن من قاعة الاختبار تتطاير السعادة من أعينهن لانتهاء العام الدراسي وانتهاء همه وتعبه.. فقد بدأت العطلة أخيراً.. وقت الحرية والراحة والنوم..
الكل فرح ويقفز ويضحك.. إلا أنا..
خرجت من قاعة الاختبار واجمة.. أشعر أن كل هموم الدنيا ترزح على قلبي..
أخذت أسير بتثاقل وأنا لا أعرف ماذا أفعل من شدة الحزن والغم..
لم تكن مشكلتي تتعلق بالدراسة فأنا ولله الحمد متفوقة ولم أخش يوماً الرسوب..
كان همي في عالم آخر.. عالم من الهم والأحزان يبدأ كل عام مع آخر يوم من الاختبارات النهائية.. إن ذلك يعني لي.. موعد الذهاب لبيت أبي..
فأنا أعيش عند أمي منذ انفصالها عن أبي.. لكنه يأخذني إجبارياً كل عام طوال الصيف لأعيش معه ومع زوجته وأبنائه..
وبسبب ذلك أصبحت العطلة الصيفية مصدر قلق وكآبة لي.. وأصبح انتهاءها سبباً لفرحي وسعادتي..
كنت أسحب قدميَّ بصعوبة والدموع تكاد تنهمر من عيني وأنا أسارع بالخروج.. كان علي العودة للبيت لآخذ أغراضي ثم أذهب لبيت أبي..
حين دخلت البيت كانت أمي في المطبخ وصوت إذاعة القرآن ينبعث منه ناشراً الراحة والطمأنينة في البيت رغم جو الحزن..
أسرعت لغرفتي ثم اغتسلت وغيرت ثيابي.. تأكدت من اكتمال حاجياتي في الحقيبة.. وضعت بعض كتيباتي ومجلاتي وأشرطتي الدينية مع مسجلي الصغير.. حاولت أن أتذكر كل ما يمكن أن أكون قد نسيته.. ثم سحبت حقيبتي قرب الباب.. وذهبت لأمي في المطبخ..
كانت أمي تحاول أن تكون هادئة وطبيعية جداً..
ابتسمت لي ثم اقتربت مني وسألتني..
- هل تأكدت أن كل شيء جاهز؟ ألم تنسي شيئاً؟
- كلا إن شاء الله.. كل شيء موجود..
- هل أخذت فرشاة أسنانك؟
- نعم..
صمتت قليلاً وهي تحاول أن تبحث عن شيء ما لتقوله ثم قالت بارتباك..
- لا بأس يا بنيتي تحملي.. كوني هادئة وأطيعي والدك.. ولا تتجادلي مع زوجته أرجوك..
سكت على مضض فقد أصاب كلامها الوتر الحساس في قلبي.. تنهدت بألم ثم قالت وهي تصطنع الابتسامة..
- يا الله!.. كلها (كم يوم) وستمر بإذن الله.. لا تهتمي ولا تتضايقي..
وتوقفت قليلاً ثم قالت فجأة..
- نور.. احرصي على الصلاة.. صلاة الفجر!
- إن شاء الله يمه..
كنت أعلم أنها تحترق لفراقي لكنها لا تحب أن تظهر مشاعرها.. وكذلك أنا.. لذا فقد تم وداعنا بالأعين المليئة بالدموع.. عانقتها بهدوء.. ثم افترقنا..
خرجت نحو الباب فإذا بالسيارة تنتظرني.. كان يبدو غاضباً لتأخري..
ركبت وسلمت.. سألته عن حاله وهو كذلك.. ثم سرنا طوال الطريق في صمت..
كنت أنظر إليه طوال الوقت وأسأل نفسي.. ماذا يريد مني؟ لماذا يريدني ويجبرني على العيش معه ومع زوجته؟ لو كان يحبني لما طلّق أمي.. ولو كان يحبني فلماذا لا يتبادل معي ولو شيئاً من الكلام؟! أشعر أنه إنما يصر على أن أذهب إليه ليقهر أمي.. ليرضي غروره وعناده.. أما أنا ففي الحقيقة لا يريدني ولا يشعر بأي مشاعر تجاهي إن لم تكن مشاعر نفور..
حاولت جاهدة خلال سنوات طويلة أن أحبه.. ولكن عبثاً لم أستطع.. لم أستطع أبداً.. فهو غاضب طوال الوقت.. كلامه صراخ.. وصراخه سب وشتم وإهانات جارحة.. منذ أن نراه والرعب يسيطر علينا.. نخشى أن نتلفظ أمامه بكلمة فيفهمها خطأ فيحدث الزلزال.. أو نخطئ أو ننسى فيصب براكين الغضب على رؤوسنا ليحرق قلوبنا بكل ما لديه من كلمات قاسية جارحة لا ينمحي أثرها في القلب ولو بعد سنوات..
إنني أحمد الله فقط حين أرى حال أبنائه.. مساكين لأنهم يعيشون لديه طوال الوقت.. على الأقل أنا لا أدخل هذا المعتقل إلا في الصيف.. الحمد لله..
حين دخلت لم أجد أحداً كالعادة في انتظاري.. كان قدومي أمراً غير مرغوب فيه من قبل الجميع لذا لم يكن من المستغرب أن أدخل لأجد زوجة والدي تصرخ على ابنتها الصغرى دون أدنى اهتمام بي.. كانت تلاحقها لتأمرها بارتداء حذائها وتجري خلفها أمامي في الصالة دون أن تكلف نفسها عناء الوقوف للرد على السلام..
سحبت حقيبتي وأنا أدوس على عباءتي بأسى واتجهت نحو غرفة أختي نوال التي تصغرني بعامين.. حين دخلت كانت نوال مستلقية تتصفح مجلة ومسجلها يصدح بالغناء كعادتها..
شعرت بقلبي ينقبض بشدة.. استغفرت الله.. وتوجهت نحوها لأسلم عليها.. فقفزت من مكانها وسلمت علي بحرارة.. والحقيقة أن نوال كانت دائماً طيبة وتحبني رغم اختلافنا الكبير.. فهي صاحبة قلب بريء وطيب لولا تأثير من حولها عليها..
وحين قمت بوضع حقيبتي على الأرض وعلقت عباءتي خلف الباب.. لم أعرف ماذا أفعل.. جلست قرب نوال على السرير.. كنت محرجة وكأني ضيفة ثقيلة في بيت غرباء..
- نوال أرجوك أنا متعبة أريد بطانية لأفرشها على الأرض وأنام..
- لحظة..
وأسرعت تخرج لتبحث لي عن بطانية بينما قمت لأطفئ المسجل الذي سبب لي صداعاً.. جلست ووضعت رأسي بين يدي وأخذت أعصره بألم..
وماذا بعد الآن؟.. سأقضي ثلاثة أشهر هنا.. ثلاثة أشهر من الغربة والوحدة والرسمية والشعور بالخوف.. يا ربي ارحمني..
وحين أتت نوال فرشت المسكينة فراشي على الأرض بعناية.. أخذت أراقبها.. كانت سعيدة بي.. لكنها لا تعبر عن ذلك..
- يا الله.. شكراً.. أنا فعلاً محتاجة للنوم.. لم أنم جيداً منذ ثلاثة أيام..
- كان الله في عونك.. نحن انتهينا بالأمس..
- حقاً؟ نحن لم ننته إلا اليوم..
التفتت نوال نحو مسجلها مستغربة اختفاء الصوت..
- أنت أطفأت المسجل؟
- نعم..
- لماذا ألا تعجبك الأغنية إنها هادئة ومريحة للأعصاب!
ابتسمت ولم أعرف ماذا أقول لها.. مسكينة.. كنت متعبة جداً وبالكاد أفتح عيني من شدة النعاس.. لكني حاولت أن أوضح لها..
- حبيبتي نوال.. حين نقف جميعاً يوم القيامة أمام الله سبحانه وتعالى يوم الحساب.. هل تعتقدين أن هذه الأغاني ستوضع في ميزان أعمالك الصالحة أم السيئة؟
- لا أعرف..
- كلا أنت تعرفين جيداً.. اسألي نفسك وأجيبي..
- ولكن.. إنها تخفف عني الألم والحزن..
- على العكس.. انظري لنفسك إنك حين تستمعين لها تغرقين في عالم من الحزن والأحلام واليأس من الحياة.. أين هذا من سماع كتاب الله.. هل تسمعين أشرطة دينية أو أشرطة قرآن؟
- بصراحة كلا..
- هذا شيء مؤكد.. فمن يستمع للأغاني لا يوجد في قلبه مكان لحب كلام الله.. سبحان الله اسمعي ما يقول الشاعر.. (حب أغانٍ وحب قرآن.. في قلب عبد ليس يجتمعان..) فكيف يجتمع كلام الشياطين مع كلام الله سبحانه وتعالى..
- صدقيني يا نور.. أنا أريد تركها.. لكن لا أعرف.. كل من حولي يسمعونها.. صديقاتي قريباتي.. سأبدو غريبة ومتخلفة لو تركتها إنها حولي في كل مكان..
- لكنهم جميعاً لن ينفعوك في قبرك.. لن ينفعوك يوم القيامة.. اعملي لنفسك من الآن.. فلا أحد يعرف متى تنتهي حياته.. لا أحد..
- كلامك جميل يا نور.. لكن.. أنت لا تعرفين حجم المأساة التي أعيشها.. لا تعرفين مقدار الألم الذي أعانيه كل يوم.. إنني أعيش ضغطاً نفسياً رهيباً.. أبي.. أمي.. كلاهما قاسٍ.. لا أحد يستمع إلي.. لا أحد يقول لي كلمة حب أو حنان.. إنني أشعر بالراحة حين أسمع هذه الأغاني لأنها تعوضني عن معاني الحب والود..
بدت عيناها تلمعان بالدموع.. شعرت بتعاطف كبير معها.. فأنا فعلاً أقدر الألم الرهيب الذي تعانيه المسكينة..
- ولكن هذه الأغاني هي مثل المخدر.. إنها تخدرك فقط لتطير بك بعيداً وتجعلك تسبحين في عالم من الوهم والحلم.. ثم ماذا؟! لا شيء.. لا شيء.. تعصين ربك.. وتقضين وقتك في سماع كلام أناس منحرفين.. بينما إخواننا في أصقاع الأرض يقتلون ويذبحون.. بينما الله سبحانه وتعالى يقول لنا.. ادعوني أستجب لكم.. ونحن معرضون عنه.. مشغولون بالاستماع لهذه الأغاني!
سكتت.. فقلت لها..
- نوال.. هل تعرفين؟.. الحور تغني في الجنة.. وغناؤها جميل.. رائع.. لا يمكن وصف عذوبة أصواتهن.. ومن يستمع للأغاني في الدنيا يحرم من سماع غناء الجنة.. فهل تبيعين الثمين بالرخيص؟! كوني قوية يا نوال ولا تستسلمي للضغوط وتبحثي عن مخدرات الألم.. عالجي الألم ولا تهدئيه.. كوني قوية وواجهي الألم حتى تستطيعي العيش برضا..
بدأت الدموع تنساب من عينيها فقد كانت بحاجة لمن تتكلم معه وتشعره بألمها.. قالت بصوت مرتعش..
- سبحان الله..
- حبيبتي.. هذه الدار والله لا تستحق دمعة من دموعك.. إنها دار فانية بكل ما فيها من آلام وضغوط.. دار مؤقتة سننتقل بعدها للأبدية.. للحياة التي لا تنتهي.. فأيهما تستحق البكاء عليها.. هذه الدار التي لن نعيش فيها سوى سنوات معدودة أم دار البقاء الأبدي والجنان التي لا معنى للألم فيها.. فقط راحة ونعيم أبدي؟!
فجأة.. فتح والدي الغرفة بقوة.. بدا هائجاً وغاضباً.. وصرخ..
- يعني لازم عزيمة على الغدا؟ يا الله.. الله ي ( ).. لم أستطع أن أقول له أنني لا أستطيع التحرك من التعب وأنني أريد النوم.. بل نظرت لنوال وابتسمنا لبعضنا.. ثم قمت بتثاقل.. وهو يسير أمامنا وبتذمر صارخاً..
- بنات آخر زمن.. مثل ال ( ) أكل ومرعى وقلة صنعة..
في تلك اللحظة.. حمدت الله فعلاً لأن كل هذا سينتهي لا محالة في يوم من الأيام، مهما كان مؤلماً.. كل الألم سينتهي.. وهناك دار أخرى.. حيث لا ألم..
مجلة حياة العدد (49) جمادى الأولى 1425ه
ممتعة للغاية شكرا لنقلك ..