- الناس كلهم منها.تعدل آلام هذه الساعات..
- عجبت كيف تكون لي هذه العاطفة على بغي!!!
- ووقفتْ ووقفت وساد الصمت والسكون.فلا حركة ولا كلام..
بنات العرب في إسرائيل..
هذه القصة من كتاب"قصص من الحياة"للشيخ"علي الطنطاوي".وهي بأسلوب الشيخ نقلتها حرفيا..
,,,,,,,,,
نشرت عام 1952
هذه قصة واقعية قرأتها ملخصة في سطور في كتاب من(أثر النكبة)للأستاذ نمر الخطيب بطلها رجل
من فلسطين يحسن الانكليزية كان له صديق من أعضاء اللجنة الدولية.
سأله أن يأخذه إلى تل أبيب في تل أبيب ليجدد ببلاده عهدا.فأجابه إلى ما سأله وألبسه لباس أعضاء
اللجنة حتى غدا كأنه واحد منها..
ووصلوا تل أبيب.فأنزلهم اليهود في فندق عظيم..وأولوهم أجمل العناية وأكبر الرعاية.حتى لقد
أخبروهم أن إدارة الفندق ستبعث إلى غرفة كل واحد منهم فتاة بارعة الجمال.لتكون رفيقة تلك الليلة..
قال:ولما أويت إلى غرفتي.تمثلت لي الفتاة التي وعدت بها .فملاءت صورتها نفسي وهاجت فيها
أدنأ غرائزها.وأحط شهواتها.ونسيت أني في بلد العدو .وأن علي التوقي والحذر.وارتقبت ليلة(كما يقولون)
حمراء.تلتهب فيها الأعصاب بنار الشهوة الجامحة.وخيل إلي الساعات الباقية دون الليل.وطالت دقائقها.
وجثم وقت الإنتظار على صدري فتقارب نفسي.وازداد خفقان قلبي.وأحسست بركبتي تصطكان.وكنت أقعد
فلا أطيق القعود.فأقوم فلا أرتاح إلى القيام.وحاولت القراءة فكانت الكلمات تتراقص أمام بصري.ثم تستحيل إلى
صور صبايا .وتضيع المعاني فلا أدرك إلا المعنى الواحد الذي هو في ذهني.
وكذلك تصرمت ساعات.,ما أظن أنه مر علي في عمري أثقل منها.وما أظن لذائذ الوصال لو جمع لي ما يلقاه
الناس كلهم منها.تعدل آلام هذه الساعات..
وجاء النادل يقدم إلي فتاة.جرفتها ببصري في لمحة واحدة .وجمحت بي الغريزة .ولم تكن فتاة ولكنها كانت فتنة في ثوب امرأة .وكانت الحب الذي غنى له الشعراء .وهاموا به مصوراً فتاة..
كذلك كنت لما ثبت النظر أخيرا على عينيها.لقد كانت لها عينان.لا يستطيع السمو إلى بيان وصفهما البيان.عينان فيهما شيْ لا أدري ما هو.ولكن أحلف أني ما مكنت بصري منهما حتى أحسست بأن أعصابي المشدودة قد استرخت.وأن دمي الفائر بالشهوة قد برد.وأن قد طارت من رأسي كل فكرة جنسية, وامتلاء قلبي عطفا وحنانا.كأن أمامي قطعة وديعة حلوة الوجه.ناعمة الشعر.هذا ما شعرت به وأنا أعتذر من غرابة هذا الشعور.وتوهمتها من طهر عينيها زنبقة من زنابق الجبل.بيضاء كالثلج نقية كالندى.لم يمسسها ا لا نسيم الأصيل ولم تقبلها إلا أشعة الشمس.ولم تبصر عُريها إلا عين أمها..
وعجبت أنا من نفسي .مما عراني قبل أن يعجب القارئ مما اروي..
عجبت كيف تكون لي هذه العاطفة على بغي!!!
أو ليست بغياً هذه التي يقدم جسدها اليهود قرَى لضيوفهم كما يقدمون لحوم الخراف وشحوم الخنازير ؟؟
وعدت أنعم النظر إليها.فأرى صبية في ثياب الغواني. ولكن في عينيها حياء العذارى .وأرى فيها ملامح رقة وتهذيب كأنها ملامح طالبات المدرسة.لا فتاة من فتيات الليل..فرحت أحاول أن أوحي إلى نفسي أنه ذل البغايا حين يسرقن أنظار الأبكار..
ووقفتْ ووقفت وساد الصمت والسكون.فلا حركة ولا كلام..
وعجبنتْ هي مني أكثر من عجبي من نفسي.كأنها ما تعودت من قبل إلا لقاء وحوش في ثياب بشر.لا يرون فيها إلا ما يراه الذئب في جسد النعجة,لا يعنيه منه لونه في نظره.ولا ريحه في أنفه.ولا لينه في كفه.ولكن طعمه تحت أنيابه.وإن كان جسد النعجة ينال مرة فتموت وتستريح.وهذه (نعجة)يتعاورها الذئاب كل يوم فهي تموت كل يوم ميتة جديدة..
وقفت متململة تحاول الإبتسام فلا يلوح على شفتيها إلا بقايا ابتسامه ماتت من زمن طويل.وثقل الموقف ولم يفتح عليّ بكلمة .فأرادت الخلاص فأشارت إشارة المحكوم عليه إلى الجلاد ليعجل بالإنفاذ ويخلصه من الإنتظار الذي هو شرمن الإنفاذ ...
ودعوتها فقعدت إلى جنبي .وبصرها تائه في الأفق البعيد.كأنها تتحرك وهي منوَّمه. وكلمتها بالإنكليزية فأجابت جواب غير متمكن لها.فكلمتها الكلمات القليلة التي أحفظها من العبرية.فعلت وجهه سحابة سوداء من الألم.وغامت عيناها ولم تجب.,
ففكرت هل أخاطر وأكلمها بالعربية.وكنت أعلم ما في ذلك من الأذى والضر بي.ولكني أقدمت وقلت لها هل أنت عربية؟؟
فانتفضت انتفاضة لو كانت بصخرة لصبت فيها الروح..ولا نبجست فيها الحياة.وأضاء ذلك الوجه الجميل.الذي كان عليه نقابان؛نقاب من التيذُّل الظاهر.ونقاب من الألم الخفي.وأشرق بنور سماوي وحدَّقت في بعينيها العجيبتين.وفيهما لمعة من الفرح وفيهما حملقة الذعر وقالت:-
فترددت ما بين خوفي منها وبيت عطفي عليها .خفت أن تكون يهودية فتشي بي.وأشفقت أن تكون عربية تحتاج إلي.ثم غلبت ثقتي بها.فقلت لها:
- نعم
- قالت:وأنا عربية من أسرة (كذا)من بلدة كذا)ومعي خمس وثمانون من بنات العرب..
فأحسست كأن خنجرا مسموماً قد أوقد عليه وغرز في قلبي.وكأن الأرض تدور بي ولكني ثبت ولم أحب أن أفجع المسكينة بهذا الحلم البهي الذي رأيت ظلاله على وجهها.لقد حسبتْ من خلال الفرحة الطارئة أنها في يافا العربية.,وأنها قد عادت إلى طفولتها المدللة.وعادت لها طهارة الطفولة.وأنها لا تزال العذراء البكر تعيش بين أهلها وذويها في حمى الأبطال العرب الذين كانو يحرسون أرض الوطن وعِرْض بنات الوطن.وحمى الجيوش العربية السبعة التي كانت أعلامها تلوح في الآفاق الأربعة البعيدة..من وادي النيل.و جنبات الأردن وخمائل الغوطة؟.وسهول العراق.وبطاح نجد..فتنبعث في نفوس عذارى فلسطين الدعة والأمن .وفي قلوب شبابه الزهو والكبر.وتمنعها أن تطيف بها رهبة من يهود..
ولكن هذه الإشراقة ما لبثت أن بدت حتى اختفت.إن الصبح الذي حسبته قد انبلج بعد ما طال منها ارتقابه لايزال بعيدا .والشاطئ الذي ظنته دنل بعد ما اشتد اليه حنينها لا يزال ضائعاً في الضباب.ولا يزال مكتوبا عليها أن تقاسي الذل آمادا أخرى-لا يزال في الكأس المريرة بقايا عليها أن تتجرعها..
خبتْ إشراقة النور التي وقدت على جبينها.وانطفاْ البريق الذي لمع في عينيها.وهيض الجناح فهبطت من سماء الاحلام إلى أرض الحقيقة التي قيَّدتها بها قيود اليهود.وصحت من سكرة الفرح فإذا هي حيث كانت.لا الحرية عادت ولا الأهل .ولا الليالي الماضيات تعود..
وفاضت النفس رحمة بها وحنانا عليها .فطوقتها بيدي فانكمشت والتصقت بي. كما تفعل القَّطة الوديعة.وأخفت وجهها في صدري..وهي تنشج نشيجا خافتاً..تمنيت لو أستطيع أن أشتري سعادتها التي فقدتها بحياتي لأردها عليها.وأحسست كأني كنت أحبها منذ الأزل..وأني لم أعش يوماأ منفرداًعنها..ولا أعيش يوما بعد فراقها..وأن قد امتزج منا الجسمان واتحد منا الروحان..واختصر الزمان حتى كان هذه اللحظة وحدها..كما يختصر شعاع الشمس في عدسة الزجاج في نقطة واحدة.وفي هذه النقطة الأشعة كلها.فلا ماض ولا آت يجيْ..
وهتفت بي ووجها خلال ثيابي.وأنا أحس خفق قلبها فوق صدري.كأنه حديث من قلبها لقلبي:
- لن أعود إلى حمأة الرذيلة.لن أعود.خذني معك.إلى الشام إلى الأردن إلى الصحراء إلى أي بلد عربي لا حكم فيه لليهود.خذني أكن خادما ًلك.أكن أمة أو فأعني على الموت .فإني لا أجروء وحدي عليه.حتى لا أهين بجسدي الملوث الأرض التي احتوت رفات الأجداد..
وللقصة بقية...تابعونا