- لا تيأسا. ولا تقنطا من رحمة الله.
- الآن، بتُّ أقنط منها.
- قال الطبيب بإصرار..
- أي شرف وأية مهنة؟!
- ولد بالتبني؟!
- أي مجهول هذا؟!
- وما البديل؟!
أحمر.. أبيض الشرفة علّيةٌ، والحبال مشرعة، والمدى يضيق؛ يستدرج احمرار الأفق صدى عينيه: غداً نهار أبيض..
أشاح بوجهه: وماذا يعني أو يفيد؟!
استقرت نظراته على ورود جورية قانية؛ كانت أولى الورود التي تلقاها من امرأة، كاد يبصق؛ انتقلت عيناه إلى أصيص آخر: جوري أبيض، تلك هي الورود التي أهداها؛ أحس برغبة بالإقياء..
أعاد نظره إلى السماء، كان نصف القمر يستعد للإشعاع، أغمض عينيه: يكره القمر ودورته البيضاء، ودورة شهرية أخرى.. حمراء!
كان البياض يتجمع في رأس مطاطي دقيق، ويساق مع بقايا وفضلات في جدول واحد، بينما كان لمتعتنا طعم بلاستيكي. وحين تخرج من رماد المتعة، تقول: أريد ولداً.. أما آن وقته؟!
وكنت أقول: مهلاً، لا زال الوقت مبكراً، الولد يقيّد حركتنا، والأيام قادمة. سنملأ البيت والمزرعة أطفالاً وضحكات مشبعة، ولنتابع الآن الانطلاق إلى المستقبل الذي يجب أن يكون ناصعاً.
كنت أريد أن أبتعد عن أية ملامح من طفولتي. وفي أوقاتٍ أخرى أندفع متوهجاً فتقول باسمةً:
- لا.. بدأت استراحتي الشهرية، الشكر لمن أراحنا!
لم أكن أحزن، بل أشغل رغبتي بمواقع أخرى..
تمنيت ليلتها فحسب أن تكون العادات القديمة مستمرة، لتشهد أمي وجاراتها الدم الذي أذهلنا. لكننا كنا وحيدين، فانفرش زهوي الأحمر على الشاطىء، حيث نقضي أوقاتنا المشتركة الأولى. واندغم مع بياض الزبد..
لا زال للمتعة طعم بلاستيكي، رغم عدم وجود موانع وعوازل أمام قطرات الحياة. كان وجهها يحمر، وجسدها يتوهج، تحت وقع جنوني، وتحمر اللحظات دفئاً ولذة وسعادة.
ويحمر الآن الجمر في مرقدي: في المكتب، في السيارة، في هذا البيت أو في البيوت الأخرى. لازال جسدها أبيض، ويرتجف دون أن يتوهج. ولا زال جنوني طاغياً. أحس بالتحدي، فأنهال عليها طوال الأيام البيضاء. في ما مضى كانت تشاركني وتبادلني ردود أفعال حارة. أما الآن، فصمتها، والهلع الكامن في عينيها، وحركاتها، واستسلامها، كلها أشياء تزيد من مرارة التحدي، وتزيد من خيبتي وجنوني.
حين ألاحظ طفرة جديدة من التعابير القابضة والملامح المكفهرة، أشعر أن طلائع الأحمر قد عادت، فأفقد صوابي، وأضربها وأحطم الأشياء؛ أثور على العاملين عندي، لعدم كفاية الربح الذي يجب أن يكون أكثر فأكثر. ثم أتكسر على مشارف الوقت الذي يعبر حاداً.
وحين أنظر إلى الشعرات البيض التي تسللت إلى رأسي، أحس أنها جواسيس مدسوسة في واجهتي، لتنغص عليّ وقتي، وتخرب سعادتي. فأنتزعها، كما أنتزع من تسوّل له نفسه أن يفكّر في التطفّل على سلطاتي أو مشاريعي. واستطعت بعد حين أن أبعد هذا الاستفزاز؛ فرأسي يتلون كما أود، وقبل أن يبدأ لونه بالتحور أعيده لمّاعاً، تماماً كما صارت مؤسستي صافية بلون واحد.
كل شيء طبيعي عندي، نطافاً وكثافة بيضاء.. وكل شيء منتظم عندها مسالك وجرياناً أحمر؛ هذا ما أكده الأطباء الذين قابلتهم وسافرت إليهم؛ قلت لهم: يمكن أن أبدلها، أو أضيف إليها مثنىً وثلاثاً ورباعاً.
أنا أحببتها، يمكن أن يكون قد حدث، عشنا أياماً حلوة، لا أنكر. وصبرت عليها، إكراماً لأبيها الذي دلني على الطريق التي أوصلتني إلى هذا المستوى.
ابتدأتُ بأمواله، اسمه هيّن الصعب أمامي، وحلل المحرمات؛ لكن هذا كان في البداية، أما فيما بعد، فقد فتحتُ أبواباً احتار أو تردد في الاقتراب منها، واكتشفتُ مغاوز لا يصلها إلا القليلون الموهوبون مثلي.
احترمتُها، وقدّرته؛ ولكني أحب نفسي أيضاً. فلها عليّ حق، كل الحق..!
- أنتظرا! قد يحدث الحملُ في أية لحظة، لا سبب ظاهر لعدم حدوثه.
أكد الأطباء المشهورون..
لا تيأسا. ولا تقنطا من رحمة الله.
الآن، بتُّ أقنط منها.
حاولت تصحيح ما اعوجَّ، وتعويض ما فات؛ أولمت في كل المناسبات؛ ابتنيت أكثر من مزار لا يليق موقعه ومظهرهُ بمقامه ومنزلته وقدره. تصدقتُ على "القائمين عليها"، والباحثين عنها. لكن الرحمة استعصت على النزول. انتظرت، ولكن إذا لم يكن من فائدة فلِمَ؟!
حاولتُ الوقوف على الحقيقة، فجربتُ المجرَّب؛ كانت موظفة عندي، أسكنتها في الطرف الآخر من المدينة، وأغلقت عليها السبل، بعد أن تكفلتُ بابن الشهيد، شرط السرية والغياب، وانتظرتُ النصر المؤزر. لكن الولود لم تبيّض فألي، بل أضيف جريان آخر إلى النهر الدامي:
(كان يتخبط بدمه، لم أستطع إنقاذه، كان القصف عنيفاً، وركضت بأقصى سرعة، مبتعداً عن الموقع، ناجياً بجلدي.. المهم أني نجوت.. بقيت صورته المتلجلجة المحمرة تعاندني، تقلقني.. لكني ارتحت أخيراً، أنقذتُ أسرته، تزوجت امرأته، وأعتني بابنه.. ألا يكفي هذا..؟!)..
لكن الدم لم يتركني..!
دم.. دم.. لماذا الدم يلاحقني؟! هل أنا مسؤول عن كل ما يجري في هذا العالم؟
(عارٌ على البشرية في ذروة حضارتها، أن تجري أنهارٌ بمياه محمّرة وأشلاءٍ وجثث..).
كانت تقول التعليقات العاجزة في وسائل الإعلام.. وأقول:
- وعارٌ أنها لا تحاول إيقافها بأي ثمن، أو أنها لا تستطيع.!
- بل نستطيع..!
قال الطبيب:
- وإن قبلتَ نلقِّح خارج الرحم، ونعيد كل شيء إلى موضعه..!
قال الطبيب بإصرار..
أي شرف وأية مهنة؟!
أنا لم أقل له أن يفعل، صحيح، وهل عليه أن يخبرني؟! ليفعل ما يجب أن يُفعل! وأيّا كان المصدر! إذا كان الأمر يجري بعيداً عن العيون والأسماع، وتأكد من لهفتي واسترخاصي أي شيء في سبيل ولد لم يعد ينقصني إلاه؛ هل كان ضرورياً أن يسألني؟! صار طبيعياً أن أرفض؛ فالشرف لا يسمح!
شرف، شرف: شرف المهنة، وشرف العلاقة، وشرف الوظيفة، وشرف العائلة، وشرف الأسرة..
وتحدثونني أنا عن الشرف.؟!
أنها طفرة في الشرف، شرف في غير محله، أو في غير أوانه..
أرسلت إليها السائق بسببٍ ومن دونه، ذهبا معاً في مشاوير بعيدة ومهمات متكررة، واستمر انتظاري الشهري..
مجزرة تنتهي ومجزرة تبدأ، تنجح هدنة في مكان، لتندلع الجراح في مكان آخر. ويعود الدم ليسقي خيبتي..
فلماذا يخيّب ظني السائق الذي طلبت منه مرات أن لا يُهندم نفسه كثيراً، كي لا يخلطوا بيننا، كما حدث حين استقبلوه بالعناق، وحيوني..!
هي فرصة لينتقم.. فَلِمَ لا يفعل؟!
هو وسيم، وشره، ويعجبني، ويفهمني! هو لا يخونني؛ أخرجته من ورطات كثيرة تكفي كل منها لتغييبه طويلاً، أشفقت على أمانته وصبيانه الذين يتزايدان حولياً، وهذا ما زاد من إعجابي واهتمامي به.
وهي لم تفعل، رغم أني أوصلت خبر ضراتها إليها عن طريق السائق الوسيم ذاته.
ولم تفعل!
الأمر ليس سهلاً، أعرف، فكرت فيه طويلاً، وبصقت في داخلي كثيراً.
وأحسُّ أن رأسي محفورٌ بأنفاق سوداء طويلة متعرجة ناتئة الحواف، لا تنتهي. ولكن ما العمل؟
إذا كان الطبيب لم يفعلها دون أن يسألني وأرفض، أليس الذي تعرفه خير من الذي لا تعرف عنه شيئاً؟!
الشرف منعهما؟! أم الظن أني أجربهما!! والخوف على رأسيهما؛ أنا الذي لا يصعب عليّ ذلك، فرؤوس عديدة ضاعت بسببي، ورؤوس كثيرة لا تقوى على التوازن في حضوري، أو حضور سمعتي.
كل الأسوار التي واجهتني لم تصمد أمامي: سور بستان جارنا، وسور المدرسة، وأسوار تحرسها العيون. كلها تمكنتُ من اختراقها؛ ويصمد جدار بويضة لا ترى؟! حاصرتها ملايين المذنبات ساعاتٍ وأياماً، وعجزت عن الاختراق..
لم أخبر زوجتي، وطلبت من الطبيب أن لا يفعل. وهي لا تعلم بأن كل تلك الملايين بلا رؤوس!
كنت أتحسر وأخاف على كل تلك الملايين وهي تفر من بين يدي، وتتناثر أمامي، وأقول: حرام أن يضيع الجهد، وتتبعثر الإمكانية؛ كل هذه مشاريع أولاد، أو أولاد مع وقف التنفيذ، كما صارت تتحسر زوجتي في ما بعد، لكني كنت أتجاوز ذلك، وأقول: الأيام قادمة، ويضحك كثيراً من يضحك أخيراً! أنظر الآن إلى صورتي في المرآة، وعيون زوجتي، ووجوه مرؤوسي الذين بدؤوا يخمنون ويتوشوشون ويشمتون.
الضوء شحيح، يختصر المشاهد، ويشوه الأشكال. ونقاط بيضاء يزداد تناثرها في سماء مشوشة ابتلعت قمرها.. كما موجات الأفكار المتلاحقة في رأسه المسنود على حافة كرسي هزّاز. ينقض شهاب فيخترق اللوحة، ينتفض كالمصعوق، وتقفز الأفكار حادة ضاغطة:
هل حقاً هو الحل الوحيد؟!
الحل الذي استبعدته طويلاً، وحاربه المقربون بأسهم الورثة التي ستؤول إليهم (بعد عمر طويل)..
الأمر الذي ترغبه زوجتي التي لا مؤنس لها ولا رفيق، والتي تنتظر، بفارغ الصبر، ذهابنا غداً من أجله إلى..
آه.. الأمر الذي يرعبني..!
ولد بالتبني؟!
أي مجهول هذا؟!
إذا كان الأولاد من صلب آبائهم يعقّون ويتكبرون وينسون؛ فكيف بالابن الذي لا تعرف رأس أبيه من أين؟! ولا أين ستصل شجرة نسبه؟! هل تحمل مورثاته إمكانية اختراق الأسوار، أو تسلق الجدران، أو استحمائها. أم أنه يهوى التبذير، وبعثرة كل شيء؛ خاصة إذا كان من دون تعب؟! ابن أية مجزرة أو كارثة أو هزيمة هو؟! ابن أي سفاحٍ أو اغتصاب أو حب مغدور؟! ابن أي احمرار ضاع في غفلة، أو أي انتقام؟!
إذا كان الأبناء يرمون آباءهم الحقيقيين في الوحدة والخيبة والانتظار العقيم، فما الذي سيفعله بي هذا المجهول؟!
وما البديل؟!
جريانات الدماء لم يستطع أن يوقفها من رغب بذلك، فتغافل عن عجزه وتعهداته، وأغض الطرف عنها. وتوقفت من نفسها في بعض المجاري، بعدما جفت اللهفة، وتبدل الحس، وحل اليأس، وكادت تغمض العيون.. وتناثر الأبيض بإصرار وعناد على حدود الوجه المثلم، ولم تَعُد الملايين سوى أشلاء بيضاء تُجَرْجَرُ دون ضجيج، ولم يبق إلا أن تتأرجح الرايات البيض على الحبال المشرعة في كل اتجاه..