- ما أجمل روح الحياة حين تجري في العروق - قصة تائبة (1)
- بقلم الشيخ الدكتور عبدالسلام بن إبراهيم الحصين
- لكنها قاطعتني بنبرة مليئة بالأسى، نبرة تنقلك إلى تجربة مريرة قائلة:
- كل هذا وأنا ما أزال في السنة الثالثة أو الرابعة من عمري.
- حملت أمي، وأنجبت بنتًا ثانية، فطلقها...
- تكلمت زميلتي الثانية؛ فقالت: لم أعد أثق بأحد..
- قلنا: لماذا؟؟
- لكن الأمر لم يمكن فهمه إلا على هذه الصورة...
- وزاد الأمر يقينًا تصريحه بذلك، لقد طلب مني أن .....
ما أجمل روح الحياة حين تجري في العروق - قصة تائبة (1)
بقلم الشيخ الدكتور عبدالسلام بن إبراهيم الحصين
لا أدري لماذا أعرض هذه القصة هنا؟! وأولى الناس بها هم الآباء والأمهات، الذين ضاع كثير من البنين والبنات بسببهم، ولكن أرجو أن تنقل إليهم، فتلامس أسماعهم، وتنفذ منها إلى قلوبهم، فتهز مشاعرهم، وتحرك عاطفتهم، وتثير غيرتهم..
أن تنفذ إلى أعماقهم فتغير واقعهم، وتعيدهم إلى دينهم..
هل نسي الآباء والأمهات موقفهم بين يدي الله، حين يسألهم عن الأمانة التي حُملوها؟
ما أعظم حسرتهم، وما أطول وقفتهم، يا لعظيم خيبتهم..
ما جوابهم؟ ما عذرهم؟
هذه قصة ما نسجتها من عالم الخيال، ولا استخرجتها من العدم..
سمعتها بأذني، وقرأت حروفها بعيني..
قصة وقعت هنا، لكنها تتكرر كثيرًا في أماكن مختلفة، مع عالم الضياع الذي يعيشه البنات بسبب إهمال الآباء والأمهات.
قالت لي: هل أنت فلان؟
قلت: نعم.
قالت: هل تأذن لي بسؤال؟ ما حق الأبناء والبنات على الآباء والأمهات؟
فأجبت باختصار، وذكرت ما حضرني من النصوص التي تحث على تربية الأبناء..
لكنها قاطعتني بنبرة مليئة بالأسى، نبرة تنقلك إلى تجربة مريرة قائلة:
لماذا يركز طلبة العلم دائمًا على حقوق الآباء، والأمهات، وعلى حقوق الزوج؟؟!!
أما لنا نحن البنات من نصيب؟؟ أما لنا من حق على آبائنا؟؟ هل يكفي أن يوفر الأب لابنته المسكن، والملبس، والمأكل؟ هل يكفي أن يعيشها في فندق، فيه من متطلبات الجسد كل شيء، وليس فيه من معاني العطف والحنان والرحمة والمودة أي شيء.
لقد ضعت في دهاليز الحياة، وأنا أرى إهمال حقوق الأبناء، بالرغم من محافظة الأبناء على حقوق والديهم من طاعة وبر ..
ضعت وأنا أرى التقاطع العائلي.. ينشأ الإنسان في أسرة مفككة، لا يعرف فيها الولد عمه ولا أقاربه الأقربين، بل إن أصدقاءه أقرب إليه من أبيه وأمه..
ضعت وأنا أرى ضعف الإيمان وعدم التنشئة الصحيحة للأبناء؛ حيث لم يتعلموا أصول الدين وشرائع الإسلام...
ضعت وأنا أرى انشغال الوالدين؛ أحدهما أو كلاهما بحياته الخاصة، وعدم الاكتراث بأبنائهم...
ضعت وأنا أرى جفاف مشاعر الأبوين، وحاجة الأبناء للاهتمام والمحبة والرعاية من قبل والديهم...
ضعت مع رفقاء السوء، الذين كانوا أقرب للابن من والديه، يُسْدُون إليه النصائح الفاسدة، ويدلونه على الطرق المظلمة، يظنون أنها هي الحل لمشاكلهم، ولكنهم لا يعلمون أنها بداية الضياع، والدخول في مصارعة الأمواج الصاخبة، والأعاصير العاتية..
ضعت وأنا أرى الفراغ يمزقني، والوحدة تقتلني، واليد الخبيثة تحتضنني...
رأيت شيئًا كثيرًا، حتى صرت وأنا ابنت الثالثة والعشرين كأني ابنت الأربعين.
هل تستمع لقصتي؟ هل تصغي لآهاتي؟ هل تنقل كلامي للناس، لكي يرو نتيجة إهمالهم تربية أبنائهم؟ هل أسرد قصتي عليكم، عسى أن تكون عبرة وعظة لغيري من أقراني و للوالدين؟
قلت: تكلمي، فكلي آذان صاغية.
في يوم من أيام الربيع من عام 1982م, كان مولدي من أم ليست مواطنة، ولكنها عربية، وقد كنت الأمل الذي طالما عاشه أبي، استقبلني بحفاوة بالغة، مع أني لم أكن أول أولاده، ولكني كنت أول بناته..
كان أبي يتمنى أن يولد له بنت في كل مولدٍ من ميلاد إخوتي الخمسة، حتى أعطاه الله البنت التي انتظرها كثيرًا..
لكن فرحته لم تكتمل، والسبب مرضي الذي أثر على حياتي؛ فقد أصبت بمرض الربو، وكان شديداً علي، حتى عشت أغلب أيام طفولتي في ال
مستشفيات والعيادات، وكان أبي أقرب شخصٍ إلي، حتى من أمي..
لقيت اهتماماً شديداً منه، وعناية بالغة، حتى صار يُفرِّقُ بيني وبين إخوتي، كان يلبي جميع طلباتي، لم يتردد يومًا قط في شيء مما أريده، كان يحملني بين يديه، ويضعني على صدره، يطوف بي بين الأطباء، يتطلب لي الشفاء..
أهمل أبي تربية أبنائه، وصرت شغله الشاغل، فأحدث ذلك فتنة بيني وبين إخوتي، وصاروا يحقدون علي؛ لأني محط اهتمام والدي.
لاحظتْ أمي ذلك، وخشِيَتْ أن تقع بيني وبين إخوتي النفرة والجفاء، فطالبت أبي بالعدل، وأن يكف عن التمييز الواضح، والدلال الزائد، الذي سيكون أثره سلبيًا على الجميع، لكنه لم يفعل، وتجاهل جميع النصائح.
بدأت أمي تتغير علي، أهملتني تمامًا، والتفتت إلى إخوتي، بل أصبحتُ أحس أنها تحقد علي بسبب دلالي الزائد، ولم تكتف بذلك، بل صارت لا تتوانى عن ضربي وإيذائي، ولسان حالها يقول: خلي دلال ابوج ينفعج.
انقطعت حبال الوصل بيني وبين أمي، بعد أن انقطعت بيني وبين إخوتي، فصرنا فريقان متحاربين، كَرِهتُ أمي كراهيةً لا أظن أحدًا من البشر عرفها قط..
وصار عندي نوع من الحالة النفسية برفضها وعدم الاعتراف بوجودها، وكنت كلما أراها أهرب من المنزل، وأذهب إلى أحد بيوت الجيران خوفًا منها..
وجدت الراحة النفسية، وحنان الأم وعطفها ومحبتها عند جارتنا؛ فكنت لا أجلس في البيت حتى يعود أبي من العمل، وعند خروجه أعاود الخروج..
كل هذا وأنا ما أزال في السنة الثالثة أو الرابعة من عمري.
مضت الأيام، وبدأت حالتي الصحية في التحسن، حتى شفيت من مرضي ذلك بفضل من الله تعالى، وكان عمري وقتها 7 سنوات.
دخلت المدرسة، وصارت لي متنفسًا، وجدت من ألعب معه من بنات جنسي، ممن هو في سني، لكني حين أعود إلى البيت أدخل في وحدة قاتلة، فإعراض أمي وجفاؤها، وفارق السن بيني وبين إخوتي، والمواقف السابقة التي تسبب فيها أبي، جعلت بيني وبينهم سدًا منيعًا، وزاد الأمرَ سوءًا انتقالُ جيراننا، وكنت لا أزال أحس بشيء من العطف والحنان عند أبي..
أخرج إلى المدرسة فلا يودعني أحد، أعود منها فلا يستقبلني أحد..
لو أن الإنسان مُنع من الطعام والشراب أيامًا ماذا يحصل له؟ أليس يضمر جسمه، ويتغير لونه، وتغادر روحه جسده؟
ليتني مُنعت من الطعام والشراب، ولم أحرم من العطف والحنان..
كانت روحي تضمر، ومشاعري تجف، كنت عطشى وجوعى، فلا يسقيني أحد، ولا يطعمني أحد..
لا أريد ماء باردًا، ولكني أريد صدرًا حنونًا..
لا أريد طعامًا ذا رائحة زكية، ولكني أريد قبلة حانية على جبيني، على ثغري، يدًا تحتضنني، تضمني..
أمًا تودعني وتقول: في حفظ الله ورعايته... أماً تستقبلني وتقول: أهلاً بحبيبتي، كم أنا في شوق إليك، كأنك غبت عني سنة كاملة..
وكانت الطامة حين بدأ أبي يبتعد عني شيئاً فشيئًا، كان يظن أني محتاجة إليه بسبب مرضي، أمَا وقد شُفيت فلا حاجة لي به..
لكنه مخطأ، لقد أخطأ خطأ فادحًا أصابني في مقتل...
أنا الآن أشد حاجة إليه، أكثر من ذي قبل..
قلبي الآن يمرض، مرضًا أخطر من مرض جسمي..
أنا الآن أشد حاجة إلى عطفه وحنانه وحبه الذي فقدته من الكل، حتى من أمي..
صرخت، أدركوني، أنا مريضة فعلاً..
أدركوني قبل أن أموت..
أبي هل تسمعني؟ أما ترى مرضي يفت في عضدي، أما تراني أتضور جوعًا..
أبي.. أين أنت؟ أعلم أنك موجود، كل يوم أراك في البيت، ولكني أراك جسمًا لا مشاعر فيه...
أبي.. لم لا تضمني إلى صدرك؟!
أبي.. لم لا تقبلني؟!
أبي... لم لا تناديني بحبيبتك؟!
كل يوم أكبر فيه تزداد مشاعر الوحشة في نفسي، والنفرة من واقعي، والهروب إلى المجهول...
أتطلب شيئًا لا أجده عند أمي وأبي..
لم يعد للبيت أي قيمة عندي... صارت المدرسة هي أنسي، وراحتي، وبيتي الحقيقي..
ولكن هيهات أن تجد بين ساذجات مثلي من يقدم لك النصيحة الصادقة..
بدأت العاصفة تهب، ودخلت في مرحلة جديدة من حياتي..
رفقاء السوء، وبداية السقوط في الهاوية..
كنت في الثانية عشرة من عمري، في بداية مراهقتي، قد اكتملت أنوثتي، حتى إن الْخُطَّاب طرقوا باب أبي، ولكنهم رُفضوا بحجة أني ما زلت صغيرة، ولأجل مواصلة الدراسة..
بدأت أُعبِّر عما أشعر به من حاجه ماسة إلى الحنان والاهتمام..
أبي كان مشغولاً في مزارعه، ومع أصدقائه، كان في وادي، وأنا في واد آخر..
ربما أكون مبالغة في طلبي للعطف والحنان، ولكني قد افتقدت قدرًا كبيرًا منه...
هل أنا صادقة مع نفسي حين أُعلِّق أخطائي على غيري؟!
هل كان افتقاد العطف والحب والحنان والألفة هو السبب الوحيد؟!
الحقيقة أنه ربما كانت هناك أسباب أخرى متعلقة بنفسيتي وشخصيتي الحساسة المرهفة، وتضييق أبي في الإنفاق، ورغبتي في مجاراة من حولي في المظهر...
لكن لا أشك أن السبب الرئيس هو إعراض أبي، وجفاف أمي..
لقد عانت أمي كثيرًا، عانت من أبي سوء تصرفاته، وتضييقه عليها في النفقة...
في تلك الفترة الحرجة كان أقرب الناس إلي زميلاتي في المدرسة..
كنا نجلس ونتكلم عما يدور في داخلنا، نشكو بعضنا لبعض، كل واحدة تتحدث عما بداخلها، عن أسرار بيتها، عن ضياع أسرتها..
أصدقكم القول أني لما سمعت معاناتهن وجدت نفسي أحسنهن حالًا...
هذه إحداهن بدأت كلامها بدمعات تساقطت على وجنتيها الصافيتين، دموع حارة، صاحبتها آهات وزفرات، خرجت من فيها كأنها وهج من نار..
قالت: أنا أكبر إخوتي، وكان أبي سبباً في ضياعي..
قلنا: كيف؟؟؟
قالت: تزوج أبي من أمي وهي في مقتبل العمر، وكان يكبرها بعشرة أعوام..
كانت أمي بالغة الجمال والحسن، من أسرة محدودة الدخل، وكان أبي ميسور الحال..
كان أبي يريد ابنًا يخلفه، يرثه من بعده، حتى يقطع أطماع إخوانه في تركته..
أنجبتني أمي.. وكان أبي خارج غرفة الولادة ينتظر الولد الذي يكون له السند والعون، والذي سيرثه بعد موته حتى لا يرثه إخوته..
فوجئ بمولدي، غضب غضباً شديداً، وكأن أمي هي التي خلقتني، وكأن قرار تحديد نوعية النسل بيدها... طلقها وتركني معها..
حتى إذا أتممت السنة الأولى من حياتي أخذني أبي عنده، كان مصراً على أن أكون صبياً، سماني باسم من أسماء الذكور، مع العلم أن أمي سمتني في شهادة الميلاد باسم أنثوي جميل...
لكنه لم يكترث بما في الأوراق، وصار يناديني بالاسم الجديد وهو (أحمد).
كان يلبسني ملابس الذكور، ويعاملني معاملتهم حتى نسيت أني أنثى..
لو كان يستطيع أن يُجري لي عملية جراحية أتحول بها إلى ذكر حقيقةً لفعل..
بمرور الوقت أيقن أبي حاجتي لأمي؛ فأرجعها إلى عصمته وتزوجها من جديد..
حملت أمي، وأنجبت بنتًا ثانية، فطلقها...
ثم راجعها؛ فأنجبت له بنتًا ثالثة، فرابعة؛ فصرنا أربع بنات، لا.. عفوًا، بل أربع مصائب وبليات..
في آخر مرة حملت فيها أمي، أنجبت ما كان يتمنى أبي، أنجبت ولدًا، استطاعت في آخر محاولة أن تلبي رغبته، لكن للأسف لم تقر عين أبي به؛ لأنه مرض مرضاً شديدًا في قلبه، قبل أن تلد أمي، لم يصمد كثيرًا، ففارق الحياة...
من حينها بدأت رحلت العناء والشقاء لي ولإخوتي مع هذه التركة الكبيرة..
استهان عمومتنا بوفاة أبي، كانوا يحضرون إلى المنزل، يودون لو طردونا منه..
حاولوا أن يستولوا على تركة أبي وأخذ أملاكه، ولكنه قبل موته كتب أغلب ثروته لي...
لم يقتنع أعمامي بذلك، فاتهموا أمي بأنها زورت المستندات، وأن أبي كان مريضًا..
كلام طويل، وشقاق ونزاع من أجل حفنةً من المال سيموتون غدًا ويتركونها..
عشنا في إهانات متتابعة، وشتائم وسباب من أقرب الناس لنا..
أصيبت أمي بمرض نفسي بسبب هذه الظروف التي أحاطت بنا، فذهبنا وعشنا في بيت جدتي أم والدتي، ولم نسلم من طمع أخوالنا فينا..
بكت ولم تستطع إكمال حديثها...
تكلمت زميلتي الثانية؛ فقالت: لم أعد أثق بأحد..
قلنا: لماذا؟؟
قالت: في يوم من الأيام، بينما أنا جالسةٌ في غرفتي إذ دخل أخي الكبير علي، نظر إلي بنظرات أرعبتني، أقترب مني.. قبلني.. لكني لم أطمأن لقبلته؛ لأنها لم تكن قبلة طبيعية كما كان يفعل، ثم عانقني، فزعت... نظرت إليه مرة أخرى وأنا في حيرة عظيمة، لا أريد أن أصدق أنه يريد ما حدثتني نفسي به، مستحيل.. إنه أخي، ماذا دهاه؟؟!!..
لكن الأمر لم يمكن فهمه إلا على هذه الصورة...
وزاد الأمر يقينًا تصريحه بذلك، لقد طلب مني أن .....
بكيت بكاءً شديدًا، وخرجت من غرفتي، واختبأت في الحمام، حتى اطمأننت أنه خرج من غرفتي، فأخذت المفتاح وأقفلت الباب علي, ولم أنم ليلتها لما فاجأني وآلمني منه، حيث كان أخي الكبير الوحيد الذي كان خليفةَ أبي بعد وفاته..
وكنت أتجنب رأيته، حتى لا أتذكر ما حصل لي معه، ولم أخبر أمي ولا أخواتي بما حصل لي...
هكذا كان حوارنا... مآسي متقابلة، وكأن القدر ساقاني إلى أمثال هؤلاء...
لَمَ لَمْ أرتبط بغيرهن؟؟
هل كانت المدرسة كلها هكذا؟
لا أظن.. الخير بحمد الله موجود...
ولكن القدر ساقاني، ولكل شيء سبب وحكمة وغاية..
وأخَذَتْ الواحدة منا تتحدث تلو الأخرى..
قصص أغرب من الخيال..
حتى جاء دوري بالحديث عن نفسي:ومع بداية حديثي بدأ مشوار الضياع...
قد قيل قديمًا: فاقد الشيء لا يعطيه..
كيف يمكن أن أجد عند أمثال هؤلاء حلاً سليمًا؟؟؟
كل واحدة غارقة في مشاكلها، تهرب من واقعها إلى واقع تتخيله..
تظن أن الكلمات المعسولة التي تسمعها من الشاب هي فيض جنانه، وخالص حنانه، تظن أنه يعطيها أغلى ما يملك، حتى إذا وقعت لم تستطع أن ترى الحقيقة؛ لأنها لا تريد رؤيتها..
تريد أن تسمع كلمات المدح والثناء، كلمات الإعجاب والإطراء، كلمات الحب والغرام...
آه.. كم أنا مشتاق.. قلبي ينتفض كعصفور بلله القطر...، أنت كل شيء في حياتي، كلماتك أحلى من تغريد الطير، وأنفاسك أعطر من الورد، الساعة التي لا أراها فيكِ كأنها أسبوع، تمر ببطء شديد.. وحين أكون معك يطير الوقت، كأنما تريد هذه الساعة أن تقطع حديثنا..
هل لعبت الغيرة برأسها فدارت عقاربها بسرعة؟!!!
لماذا أيها الزمن تعاندنا؟!!
لماذا تسرع في ساعات الأنس والفرح؟؟ وتمشي ببطء في ساعات الحزن والأسى؟؟
حتى أنت أيها الوقت صرت ضدنا، لا تمنحنا من الحنان ما نريد..
ألا يكفي أن يكون أهلنا كذلك، حتى تكون أنت معهم..
أحلام وردية جميلة، لكنها سراب.. إذا وصلنا إليها وجدناها لظى تحرق أجوافنا.. وتقتلنا وأرواحنا في أجسادنا..
بدأتُ أسرد عليهم ذكرياتي الأليمة، وتاريخي المر، مع أنه كان ألطف بكثير من واقعهن السيئ..
أنا أفتقد العطف والحنان، أريد من يمنحني الاهتمام والحب بعدما فقدته من أبي..
أريد من ينفق علي، أبي يقصر علي في النفقة حتى في العيد يحرمني الكسوة..
لم يكن للعيد أي طعم في حياتي..
أرى الناس يلعبون، ويمرحون، ويضحكون فأتعجب، وأقول: لم تفعلون ذلك؟؟
لا أرى في العيد أي معنى يستحق الفرح به..، لا فرق بينه وبين أي يوم آخر..
ليس هناك أقارب يزوروننا...، ولا ألعاب جديدة نفرح بها...
لا ألبس جديدًا، ولا يعانقني فيه أحد...
لقد وصل الأمر إلى ما هو أعظم من ذلك...
هل تصدقون أن الخادمة صارت أصدق وأحب إلى أبي مني؟؟
بل هل تصدقون أن أبي أراد أن يطردني من البيت بسببها؟ بل لقد طردني فعلاً..
تعجبت زميلاتي من ذلك أشد العجب، وقلن بصوت واحد: أب يطرد ابنته!! كيف ذلك؟؟
في يوم من الأيام حدث لي مع الخادمة موقف، سوء خلاف، كما يحدث كثيرًا بين الخادمة والبنات الصغيرات من أمثالي..
تظلمتْ عند أبي، وشكتني إليه...
أقسمتُ لأبي بما حدث، وقلت: نعم.. قد أكون قصرت في حقك، لكني لا أكذب، لا أحلف كاذبة، إني ما زلت أُعظِّمُ ربي..
وأقسمتْ هي أيضًا...
صدقها أبي وكذبني..
صُدمت وأحسست بالظلم؛ لأني كنت صادقة فعلاً، وقلت: كيف تُكذِّبُ ابنتك، وتصدق امرأة غريبة عنك..
قال: هي تنفعني، وأنت ليس فيك نفع، أصرف عليك بلا فائدة..
أنت أبي، كيف تصرف علي بلا فائدة؟؟!! الأب لو كانت اللقمة في فمه فطلبتها ابنته لأعطاها إياها وحرم نفسه..
ماذا تنتظر مني... أن أجلب لك المال؟! أن أصرف على نفسي بنفسي؟!...
لم تكن كلماتي تلك إلا وقودًا لنار تشتعل في جوفه، ففقد وعيه، وطردني..
أب يطرد ابنته... هل سمعتم بهذا من قبل؟؟؟؟!!
أنا نفسي لم أصدق.. أبي يطردني...!!! ولماذا؟؟!! من أجل من؟!!!
أين أذهب؟!!
أنا لو رأيت عمي في الشارع ما عرفته؛ لأني لم أره من قبل...
أصر على خروجي، ولكني رفضت، وقلت: لن أخرج.
لم يقف في وجهه إلا أمي، لم ترض بهذا القرار الجائر الظالم...
بقيت في البيت، ومن ذلك اليوم تولَّد في داخلي حقد شديد عليه..
لم أكلمه بعدها، وهو لم يكلمني.. تمر علينا المناسبات فلا يقع لساني على لسانه، ولا عيني على عينه...
توقفتُ عن الحديث، وصارت دموعي تتحدث بدلاً عني..
قامت إحدى زميلاتي إلي.. وهدأت من روعي.. واحتضنتني..
وقالت: لا عليك، الأمر يسير، ستجدين العطف والحنان عند غير أبيك..بل حتى المال..
ستسمعين كلام الحب والغرام... سترين العاطفة التي شح بها عليك أبوك، وستجدين المال الذي بخل به أبوك..
انظري إلى هذا الهاتف النقال الذي أحمله، لقد أحضره لي حبيبي بمناسبة عيد مولدي...
خذي فكلمي... وستجدين كل شيء..
في الحقيقة لم أقتنع بكلامها..، لا يمكن أن أفعل ذلك، أنا من بيت مستور، ما كلمت رجلاً غير أبي، لم أعرف طريق الحرام يومًا، أنا أحتاج إلى حب صادق، وعاطفة كريمة، إلى من ينفق علي بالحلال..
أنا أشكو لأبث ما في نفسي.. لعلي أخفف من وطأة واقعي المألم..
لكن واقعي يزداد سوءًا، فصرت بين نارين..
نار الواقع الذي أعيشه.. ونار الوقوع في هذه الهاوية المظلمة..
كان يستحثني على موافقتهن ما أرى من حالهن..
يضحكن ويمرحن ويقضين الساعات الطويلة في الكلام الجميل...
بدا أن أستشير أحدًا تكون له تجربة، لعله يدلني إلى الطريق الصحيح..
لكن من أستشير؟؟ أبي؟؟!! وهو من أراد أن يطردني..
أمي؟!.. وهي التي منحت إخواني كل اهتمامها، ورمتني خلف ظهرها، كأنها ما أجنبتني..
وماذا أقول لهم؟ أريد العطف والحنان، عاملوني كإنسانة..
لقد كانت كلماتي تضيع في الهواء...
تذكرت قريبات لي يكبرنني بخمس عشرة سنة، كن عانسات..
قلت في نفسي: لعلي أجد عندهن الحل، أستطيع أن أصارحهن بما أريد فعله، فأنا في مأمن من أن يصل شيء من ذلك إلى أهلي..
وكانت مشورتهن كالحبل الذي طوق عنقي، وأدخلني من باب الهاوية..
لم أكن أعرف أن لهن تاريخًا مجيدًا -عفوًا بل سخيفًا- في قصص الحب والضياع..
ما عرفت ذلك إلا متأخرًا.. كانت أمي تسخر منهن؛ لأنهن عوانس، ولم يرض بهن أحد من الرجال لسمعتهن السيئة..
لما وقعت بين أيديهن رأينني فريسة سهلة، ساقه القدر إليهن..
بالإيقاع بي سيردون الصاع إلى أمي صاعين...
يا ولتا... أمي تسخر، وأنا الضحية!!...
ألا فلا تسخروا أيها الأباء والأمهات من أحد، ولكن أحمدوا الله على نعمة السلامة، وسلوا لغيركم العافية..
أشاروا بأن أفعل، إن الأمر لن يكلف شيئًا، هو كلام، كلام ضائع، هل تعرفين شيئًا أرخص من الكلام، وهذا الكلام الرخيص يُدرُّ مالاً...معادلة بسيطة..
أطرقي الباب، وإياك والخوف... استمتعي بأنوثتك، أخلعي ثياب الأسى والحزن..
إلى متى وأنت تنتظرين...
لا أظن إلا أن الشيطان بدأ يتعوذ من مكرهن وكيدهن..
في اليوم التالي جاءت زميلتي ومعها هاتفها النقال، واتصلت بأحد الشباب وأعطتني الهاتف فرميته؛ لأني لا أستطيع فعل ذلك، الخوف يتملكني، والعاقبة المجهولة تكاد تقتلني..
لكنها أصرت واتصلت مرة أخرى، فأخذت الهاتف، فكان أول ما بدأتُ به حديثي أن قلت: كيف حالج؟
ضحك، وقال: آنا ما ني بنت، أنا ريال.
رميت السماعة، ووقعت زميلتي في إحراج بسبب موقفي، فأكملتِ هي التحدث إليه بعد أن غيرتْ صوتها..
لم تيأس مني زميلتي، كانت تعلم أن المسألة مسألة وقت.. وأن الحاجز هو الخوف والرهبة.. وأن الرغبة ما زالت موجودة، لكنها تحتاج إلى جرأة، إلى شيء من المنشطات..
في المرة الثانية كتبت كلامًا في ورقه؛ لكي أقوله منها...
تكلمتُ، وكنت أقرأ من الورقة كالذي يقرأ قصةً في كتاب، أو مقالاً في جريده، ولم يكن يوجد بيننا حوار؛ لأني اكتفيت بالقراءة، ولم أسمع ما قال.. أنهيت المكالمة فور انتهاء النص الذي أعطتني إياه زميلتي .
مع الوقت، والتدريب المكثف استطعت التكلم والحوار دون ورقة، بل صار عندي نوع من الجرأة في التكلم، ليس ذلك فحسب، بل تفوقت عليهن في الأسلوب، وعذب الكلام...
صرت أبتكر الكلام، وأُنشئ ألونًا من صور الغرام، فلقد منحني الله ذكاء، وقدرة على الكلام القوي الواضح الفاضح، مع نغمة متكسرة ساحرة..
انتهت مرحلة زميلتي، كانت مهمتها أن تزيل حاجز الخوف، وقد زال..
وتولى إكمال المسيرة قريباتي...
لقد ذهبتُ إليهن أشكو إليهن أني لا أجد ما كنت أطلب، لا أحس أن من يكلمني يحبني فعلًا، إنما أراه متسليًا، يغريني بالكلام المعسول لكي يصل إلى جسدي، وهذا ما لا يمكن فعله...
كلام جميل في الظاهر، لكنه جاف في الحقيقة، كلحاء الشجر، ليس فيه أي ندى..
القضية خداع في خداع...
أنا أريد شخصًا يحبني حقيقة..، لا يطلب جسدي..
قُلن لي: الحب الخالص لا تجدينه إلى عند الزوج، لن تحصلي على ما تطلبينه في هذه المكالمات.. ليس في هذه المكالمات إلا الكلام الفارغ فقط، القضية تسلية فحسب..
أنت تشعرين بالضيق، وتحسين بالأسى؛ لأنك لا تسمعين مثل هذه الكلمات، فاسمعيها من هذا الشاب..
قلت: لكن هذا كذب في كذب.
قالت إحداهن: مسيكينة، ما زلت فتاة نظيفة القلب، صادقة المشاعر، أرجوك اخلعي هذه الثياب، لأنها لن تنفعك، والبسي ثياب النفاق والجدل..
ثم الكذب أحسن من لا شيء...
كذب يجيب فلوس، ووناسة، وسعة صدر، فيه أحسن من كذا..
استوعبت الدرس، وفهمت المقصود، وانطلت عليَّ الحيلة..
من وقتها صرت أكلم الشاب تلو الآخر، بالعشرات..
كنت أتسلى.. نسيت المشاعر الصادقة، والعواطف النابعة من القلب، نسيت الحب الذي ينطلق من معاني شريفة وسامية...
نسيت الحب للذات.. للخُلق.. للقيم.. للمعاني الشريفة... للتعاون الصادق..
نسيت ذلك كله لأني أطلب المستحيل..
هل يمكن أن تجد في النار شربة ماء...؟؟!!
هل يمكن أن تجد في الكهف المظلم في الليلة المظلمة شعاعًا من ضياء..؟؟!!
كنت أتسلى وألهو.. أعبث بشهواتهم وعواطفهم جزاء كذبهم وخداعهم..
لقد كنت فاتنة ساحرة.. لكن أحدًا منهم لم يصل مني إلى شيء غير الكلام، والنظرات الفاتنة الساحرة..
لكن ..لم يزل عندي أمل بأني سوف أجد الشخص الذي يحبني ويرتبط بي زوجة...
وقد جاء.. لكنه كان ذئبًا في جلد محب ولهان.. استطاع أن يحطمني مرة أخرى، بعد أن حطمني أهلي في المرة الأولى..
ليتني ما عرفته..
بسببه وصلت إلى القاع..
في القاع يستوي في نظرك كل شيء..
كنت أظن أن الذكاء والدهاء سيحمياني من الوقوع في الرذيلة، لم أكن أعرف أن عقلي ناقص، وأن