الفراشة أصبح فتيات Ftayat.com : يتم تحديث الموقع الآن ولذلك تم غلق النشر والمشاركات لحين الانتهاء من اتمام التحديث
ترقبوا التحديث الجديد مزايا عديدة وخيارات تفاعلية سهلة وسريعه.
فتيات اكبر موقع وتطبيق نسائي في الخليج والوطن العربي يغطي كافة المجالات و المواضيع النسائية مثل الازياء وصفات الطبخ و الديكور و انظمة الحمية و الدايت و المكياج و العناية بالشعر والبشرة وكل ما يتعلق بصحة المرأة.
السلام عليكم ورحمة الله وبركانه
اختي في الصف الثاني ثانوي ومطلوب منها كتابة قصة قصيرة
فالرجاء مساعدتي يالفراشات وخاصة الموهوبات في كتابة القصص ابغيها ليلة السبت يعني بكرة الجمعة بالليل ابغيها
ومشكورين ياقلبي
جارتي
كانت عندنا جارة... ربي... وأي جارة! لا تعيش إلا مع حمامها الأبيض وصورة زوجها المستشهد. ودعتها سنوات زادت عن الخمسين، جمالها أنيق، عيناها تومض ضياء مريحا، شعرها تستره بمنديل من الحرير... يشكي الجيران أحوالهم بينما هي... تحمد، يلعنون... تصفح، يصرخون فتهمس!!.
كنت أطل من وراء شباكي قبل الذهاب للمدرسة، أربط (مريلتي) بينما أتفرج عليها حيث تمد بكفيها المدورتين لحمامها الحب والطل يغشاها، تطعم بيد وبالأخرى تضعها في العش فتخرج منه بيضتين، ثم تتأمل الطير وهو ينفض عن جناحيه قطرات الندى، ويرتفع لأعلى!
أخطف كوب اللبن مسرعا، أهرول على السلم، شنطة مدرستي تلهج تحت يدي من لهفة اللقاء.. تراني أمامها عندما تسحب جريدة الصباح، فتداعب شعري الأسود، وتبث حولي أدعيه نورانية، ثم تدس يدها الطرية في جيبي لتودعها.. "نعناعة السكر!".
لا زلت أذكر يوم الغارة، تتخبط أقدامنا إلى المخبأ، يئز في سمعنا طلقات المدفع، لن أنسى (تكتكة) الركبتين، وصراخ أختي الرضيعة على كتف أمي، ثم تدور أحاديث الجيران عبر بقعة ضوء مرتعشة، أبى يتحاور ثائرا في شئون السياسة، شابان يتجادلان في صحة هدف المباراة الملغى، لغط وحوارات تتهاوى هنا وهناك..
أما الجارة فيبسم ثغرها بسمة صافية، ويلتم حولها نسوة العمارة، تبدأ كلامها باسم الله، فتمسك أول الحديث، تغزله في دعابة، وتوصله بحكاية وراء حكاية، ثم تقطعها بآية!!.
وتنطلق صفارة نهاية الغارة، فتفتح لنا باب شقتها تدعونا بالدخول، تعتذر أمي وتوعدها بالحضور في يوم عاجل، نكمل صعود السلالم وأبي يقترب من أمي قائلا: "ما أطيب هذه الجارة".
تنطبع تفاصيل زيارتي لبيتها أول مرة، حيث دفعني الفضول الجارف لأتعرف على شقتها، تقابلني بالتحية وحولها أثاث يومئ بالراحة.
سألتني:
- هل رأيت حمامي الأبيض؟
تقودني لشرفتها، تناولني بضع حبات، فأنثرها مندهشا داخل العش، أسرح في منقار حمامة صغيرة، أفرد أصبعي وأمر به على ريشها فتغمرني وداعة!.
أسأل جارتي عدة أسئلة تبدأ ب (كم وكيف ولماذا و....) فتحني قامتها نحوي، وكأنها تعيرني سرا مستورا: -
- يا حبيبي للحمام معنى!
رددت في سري (للحمام معنى؟!! ) ولم أفهم.
يدي الشقية تعبث بعقدها الطويل، أدوره في الهواء بسذاجة، تنط حمرة الخجل في وجهي فور وقوعه على الأرض، ناديت الأرض أن تبلعني، فلا أطيق غضب نظرتها، وانتظرت قلقا ما سوف تفعل.. تقترب منى بهدوء، تنظر للعقد على الأرض، تلم حباته صامته، تعقدها في الخيط فتفشل، تجرب ثانية وتسألني بنفس الابتسامة:-
- هل رأيت فصوص الرمانة؟
أدير زر (تليفزيونها)، وأنتظر الصورة. ولكن لا يأتيني سوى صوته، أخبرتني بعطل الجهاز منذ فترة، لم أجد شيئا يسليني، فتألفت مع (تليفزيونها) المعطل، أتابع برامجه بأذني وأتخيل كيف يكون المنظر!.
تدق الساعة المعلقة دقتين، أحس بالعطش ولا أجدها حولي، لا أسمع (خشخشة) يديها في المطبخ، تساءلت بداخلي متوجسا، أين هي؟! ولما هذا الهدوء المقلق؟.
تسحبت على أصابع قدمي وعند باب حجرتها، بصرتها تستلقي فوق بساط متواضع، ترمى يديها على الأرض في استسلام وتحدق تجاه السقف، تطول اللحظات.. كدت أنبهها بوجودي، ولكن لمحت فجأة دموعها تظفر، تزفر معها تنهيدة شجية، بينما رأسها لا يتحرك.. فيم تفكر؟! هل تفتش عن فتحة بالسقف، أم تسرح في لونه الباهت؟!.
كيف أتصرف؟ أأرتمى بجانبها مواسيا أو أرجع لأمي فأكشف لها خبايا آناتها؟!.
جرجرت ساقي، أكتم أنفاسي حتى لا تسمع، وفتحت الشرفة مرة أخرى، كم يطيب لي الآن الاتكاء على جدارها كي أتشاغل بحركة الطريق وتزول من عقلي صورتها وهي تتألم.
يقتحم سمعي رنين (التليفون) المتواصل، ترفع السماعة، تتكلم وتحكي ثم تضحك أجدها تقترب تجاهي بأسارير منشرحة، كأنها منذ لحظتين لم تكن تتوجع، وتفاجئني بالسؤال:-
هل تحب عصير المشمش؟
في الصيف سافرت تزور شقيقتها، وانشغلت في عطلتي، مع الأصحاب والشقاوة، لكن طالت غيبتها، يسأل عنها كل سكان العمارة.
يقبل خريف تظلله كآبة، أطل على العش المقفول، أين يا ترى راح حمامها؟! ولما نست على الحبل منديلها الأحمر، يتطاير وحيدا، يترنح بين فكي المشبك؟! يجهدني عبث الشوق فأسدل الستارة على أمل يوم تالٍ.
أعود من مدرستي، تصطف في وجهي أسياخ حديد بابها، كأنها تتحدى.. أصعد لشقتي كسير النفس، همي يدفع رأسي لأسفل، تفتح لي أمي وتغمزني، فأنظر وراءها، ويزغرد قلبي ها هي أمامي، أغمض عيني وأنتشي بحنان ضمتها، هتفت طربا في جهري وسري، تلثم خدي بقبلة فأردها لها قبلتين، توسلت الزمن أن يتوقف، تشرح لها أمي حالي أثناء غيابها، فتزيد لي من دفء الضمة.
تعود لشرفتها يرخي الحمام جناحيه، يطير مرنما لحن العودة، يتألق على السحاب، يشكل خطوطا تتدلل، بينما أختلس من وراء الزجاج جمال المشهد.
وتتدحرج الأيام، يطوي العمر صفحة، تتراكم المتغيرات، ونرحل لبيت آخر جديد ولكنه بعيد.. جدا بعيد عن بيتنا القديم.
صرت شابا يزين وجهي شارب كثيف، صوتي تخشن، ينبت الشوك بذقني، تتحور الأحاسيس لأخرى، علمني زماني تعاطي الدخان الأسود، هويت في نار الغرام، أعبث مثل غيري، ألهو معهم وأولع ببريق الشهوة، وصرت أجيد صفرة الابتسامة.
لكني لم أقتل بعد وميض الذكرى، ذكرى أول أيامي، وأعاتب أمي:-
- سبعة أعوام يا أمي ولم نبادر بالزيارة؟!
يزعق حنيني الآن لرؤيتها، قطعت زحام الطريق وطول المسافة، أقترب من شقتها، وأحلم بالموعد، لأزفر عندها الآهة، أفتح شرفتها، وأتحسس ريشة الحمامة...
عبرت الرصيف يسبقني وجدي، دخلت من باب العمارة المخلوع، وقفت أمام شقتها، لكن لا أحد يفتح!! هاجت سكناتي، ارتجف أصبعي فوق الجرس، ينقبض صدري بهواجسي المرة، لكن لا...
أسمع الآن وقع خطواتها، وتفتح لي.. فأكاد أسبح!.
تتهلل لرؤيتي، تستقبلني بالبسمة، تسكب على بحور الفرحة، هي كما هي لم تتغير، لم يقدر الزمن على بهاء جواها، تنطق باسمي وكأنها تتغزل، وتعتذر لي بالأهداب المبتلة:-
آسفة على التأخير.. كنت أتوضأ.
أتت لي بالشاي والسكر، تحكى وتسهب، تخبرني بزواج ابنة أختها، تريني شالها الجديد الأخضر، يتدفق منها الكلام سلسا، لا ثرثرة ولكن مكرمة لضيفها، تشعرني بمدى قربي لها، تختزل في عفوية قطيعة سنوات ممتدة، تظل تقص علي بينما بصري يتشبث بمقلتيها وكأنه يستحلفهما: -
-
تتوقف عن الكلام، وتقترب مني: -
- وأنت ما أحوالك؟ ولما غبت عن جارتك أم نسيت؟
لمست بفطنتها تغير ملامح وجهي:-
ما بك؟ احكي فلا أطيق صرخة (النني)!
ألم أشجاني ومتاعبي المتنافرة البوح أحيانا يكون أصعب، جاهدت.. وبدأت:-
- خانتني الحبيب ة، سافر الصديق، لم تعد لأيامي بهجة، الغل بصدري يتمدد، يكرهني زميل عملي فأبادله الكره، يفصلنا هواء مسموما، دخاني الأسود يا جارة يحوطني، يغزو قلبي، بينما أمي تنشغل بأختي، وأبي بماله.. يستثمر! الكل صار تمتطيه شهوة وأنا أشتاق الآن للون أبيض، ولا أدري لما أمشي في طريقي فأتعثر، صرت يا جارتي كالصغير الذي يهاب العسكر.
أنهيت كلماتي وأنا أكاد أهوى على الأرض نظرت لي في شفقة وأمالت علىّ برقة:-
- اصبر!
علا صوتي صارخا:-
- من أين لي؟
وشوشتني
- اذكر ربك.
لم أنبس، فكررت الطلب ثم نبهتني:-
- أذكره من قلب القلب.
وكأنني لم أسمع فأعيد عليها الشكوى:-
يا جارتي، تركتني الحبيب ة، والصديق، أطفأ مللي أملي..
استمهلتني في حزم، سكتت برهة، رف رمش العين قبل أن تلقي على القول بنبرة تعز على الوصف:-
- صل على الحبيب.
سكتّ... سكت، ثم غفوت..
خيوط الصمت الهامس تنسج الفراغ حوالينا، ذرات السكون تتزين، تصلي وتسلم، أتوه في اختلاج شفتيها، تأخذ بيدي لأطوف معها، جلد يدي يحس بقلبها.. ينبض نسايم من الشرفة المفتوحة تهل علينا، هديل الحمام يشاركنا الجلسة، صورة زوجها المستشهد تكاد تنطق، تنقر جارتي بكلمات طيبة على الأوتار العذبة، تلتف في الحرير، تمد لي يدها، تطوف ونطوف، عيونها تتلألأ، كأنها تشم عبيرا من الجنة، يدهشني رجاء نظرتها، أهي لهفة؟ أم.. رهبة؟! لا.. بل هي سجدة!.
تتجاور المعاني وتتجمع على سحاب أملس، يتهدهد الشعور بما لم أحس به من قبل، وأقسم بأنني الآن.. أجمل!!.
تعطر جارتي الحرف وتتذوق، تحنو على الحاء، وتؤكد على المخرج قبل أن يشرق لسانها ب:-
محمد.
آه.. أردد معها وأهفو، رعش قلبي لنور روحها المقطر، تمدد في الحنايا البلسم، رن الحس الذي تبلد، وصلى الله عليه وسلم.
قمت أطلب الانصراف، فذكرتني:-
أنا موجودة طول الوقت، لا أغادر مكاني إلا ساعة بالنهار.
أخرج للطريق، تدبدب قدماي، يتمايل عودي راقصا، أرى الناس أحلى، لكن سرعان ما يداهمني الزحام داخل العربة، فأجد نفسي محشورا وسط أجسام لزجة، يلتف الخناق حولي، يهم لساني بالسب واللعنة، لكن لم تزل صورتها بعد في خيالي (تبسم لنا ببسمتها الصفية يوم الغارة) فأقلدها محاولا، بينما تتسلل أصابع يدي داخل جيبي، لتطمئن علي..
نعناعة السكر!
****************************
النقد والتعليق
يقول الناقد والسينارست/ عماد مطاوع:
عندما تتراكم الإحباطات وتتجاور الهزائم النفسية يحن المرء للعودة إلى نبع أحلامه الأول، ويهفو لاستعادة هذه اللحظات الدافئة، خاصة إذا ارتبط ذلك بأشخاص يحتلون مكانة مهمة في مسيرة حياتنا، ومن هنا كان إعجابي بقصة "جارتي" للقاص حسام نور الدين.
وهذه القصة رغم طولها النسبي فإنها تجمع بالفعل عناصر قصصية/ فنية جيدة، فهي ترجمة لحالة نفسية، ليس لبطلها فقط بل لنا جميعا. خاصة أن نموذج هذه الجارة يفتح الباب لاستقبال كل ما هو أصيل وحميم.
تبدأ القصة بالدخول مباشرة إلى الحدث بعد جملة واحدة تقريبا يقولها القاص... "كانت عندنا جارة... ربي.. وأي جارة"، ثم يبدأ في اجترار ذكرياته مع هذه الجارة التي تعد ملمحا مهما لطفولته ولأيام حياتية مؤثرة فيه، فهو يؤرخ من خلال هذه الجارة لفترة اجتماعية/ سياسية، فهي أرملة لشهيد، تحرص على أن تجعل صورته متصدرة الجدار، وهي تسلك في حياتها مسلكا إيمانيا يصل حد التصوف، كما أنها تربي وتعتني بحماماتها البيضاء اللون -ولهذه الحمامات دلالة مهمة على شخصيتها المسالمة المرهفة والوثابة في ذات الوقت- ويبدأ بطل القصة في نسج التفاصيل الصغيرة لعلاقته بهذه الجارة التي كانت تحتل لديه ولدى الجميع مكانة أصيلة، ثم تجري في النهر مياه عديدة وتبدل الوجوه والأحداث وتنتقل الأسرة للإقامة في مكان آخر، وتنقطع الزيارات لهذه الجارة، ثم يجرف الشوق هذا الطفل/ البطل الذي صار شابا لرؤية الجارة خاصة وقد تكاتفت على كاهله الخطوب، فنجده يقول... "خانتني الحبيب ة، سافر الصديق، لم تعد لأيامي بهجة... إلخ" فنجد الجارة تتخذ مكانها المعهود وتقف إلى جواره وتوصيه بالصبر، ثم يكثف الكاتب حالة إنسانية مرهفة للغاية تصل إلى درجة النظرة الصوفية الشفافة للعالم والحياة، وهنا تتكشف جوانب أخرى من شخصية تلك الجارة التي مثلت لذلك الطفل/ الشاب- بطل القصة- مفتاحا مهما من مفاتيح أبواب البهجة التي يلج منها إلى مياه أكثر متعة وأكثر ثراء.
ولقد اعتمد الكاتب على الراوي العليم بمجريات الأمور ليضفي على عمله جوا أكثر مصداقية- ولقد نجح- والحق أن التشكيل البصري للسرد هنا، جعل اللحظات القصصية التي تصيدها القاص تتمثل أمام أعيننا ولا يتأتى ذلك إلى بحرفية عالية في القص وذكاء في إدارة دفة الحدث، ويحسب للكاتب هنا البناء الجيد للشخصيات للدرجة التي جعلتها حية تنبض بالحياة.
ولقد استدرجت الحكاية وجماليتها الكاتب فأسهب قليلا في السرد وكان عليه أن يراعي التكثيف حتى يخرج لنا قصة متماسكة أكثر، والحق أنني حاولت القيام بعمل "مونتاج" لهذه القصة فوجدتني أضعف عن الاستغناء عن أي فقرة بسهولة والقاص بالطبع هو الأقدر على ضبط إيقاع العمل وهذه التجربة ثرية بالفعل على مستويات متعددة، فهي ترصد حالة إنسانية/ اجتماعية مهمة، تغوص في أعماق التركيبة الاجتماعية في مراحل مختلفة وتسجل أياما وحقبا، كما أنها تعد منظومة إنسانية رقيقة لأسباب متعددة ربما أكثرها وضوحا اللغة الشاعرية التي استخدمها الكاتب والتي أعانته على توصيل رسالته، كما أعانته على نسج لحظات قصصية عالية التكثيف تواشجت مع هذه اللغة فنجده يقول مثلا... "خيوط الصمت الهامس تنسج الفراغ حوالينا، ذرات السكون تتزين... إلخ" وهذا النص يقدم لنا كاتبا راسخا يمتلك أدواته ويتعامل مع فن القص بذكاء وحرفية عالية.
هروب خادمة
رن المنبه الموضوع على المنضدة بنبرة منخفضة ورويداً رويداً تعالى صوته إلى أن أصبح شديد الإزعاج موتراً للأعصاب، امتدت أناملها إليه وأخرسته بحركة سريعة خوفاً من أن يوقظ صوته المزعج أهل المنزل، لم تشأ النهوض من سريرها فالشمس لم تشرق بعد ولكن ما باليد حيلة، فركت عينيها ووثبت من سريرها بحركة سريعة أعادت النشاط لجسدها المنهك. توجهت إلى المطبخ لتشرع في عملها اليومي، وبدأت في تنظيف الأرضية بسرعة فلا زال لديها الكثير من الأعمال الواجب إنجازها قبل أن تستيقظ سيدتها. تراءى لها وجه طفلها الضاحك منعكساً على الأرضية اللامعة، ولكنها سرعان ما طردت الصورة من تفكيرها فآخر ما تريده هو البكاء الآن.
كان هذا حالها كلما تذكرت طفلها الذي تركته منذ سنة في حضانة أمها بعدما طلقها زوجها وتركها تجابه قسوة الحياة وحدها بلا معيل أو حرفة تعينها. بين ليلة وضحاها أصبحت ملزمة بالعمل لتطعم طفلها وتطعم نفسها. جربت كل الأعمال من فلاحة وخياطة و...و... و...، ولكن لم يكفها أي من الرواتب التي تقاضتها في بلدها ليسد رمقها وابنها. وفي النهاية لم تجد بداً من السفر إلى إحدى دول النفط التي سمعت عنها روايات كثيرة من صديقاتها العائدات من هناك. دلتها إحداهن على الرجل الذي أحضر لها تأشيرة العمل، وذهبت من فورها إليه. كان رجلاً خمسينيًّا، غزى الشيب الشعيرات القليلة المتبقية في رأسه، ولكن الشيب لم يستطع التغلب على نظراته الطامعة بكل امرأة تدخل مكتبه.
امتلأ مكتبه بنساء مثلها "هدتهم" ظروف الحياة ولم "يجدوا" ملجأً آخر لهم، أحست لوهلة بأن هذا المكتب أشبه ما يكون بسوق نخاسة بمسمى جديد.
أتى دورها للتحدث مع صاحب المكتب، نظر إليها مليًّا ثم طلب منها تعبئة بعض الأوراق، كما طلب منها صورة لها وصورة لجواز سفرها. كانت رائحة التبغ تخرج من فمه مع كل كلمة يتفوه بها تشعرها بالإعياء، ولكنها تمالكت نفسها وفعلت كل ما طلبه منها، فإذا به يطلب منها مبلغاً من المال بدا لها كبيراً جدًّا ولكن لم يكن لديها خيار. (ما حيلة المحتاج أمام من يستغل حاجته؟) دار ذلك في خلدها وهي تبيع أثاثها وكل ما وقعت عليه يداها من متاع.
بعد عدة أسابيع ودعت والدتها وابنها بكثير من الأسى ونهر من الدموع. تركت موطنها بعبق هوائه وصفاء سمائه، تركت أمها وإخوتها، بل تركت فلذة كبدها وأي حزن يوازي حزنها على "فرقاه".
انتبهت فجأة على صوت بكاء ابن مخدوميها، فهرعت إليه واحتضنته بين ذراعيها بمنتهى الحنان. كان هذا الطفل الوحيد حالياً لمخدوميها حيث إن سيدتها حامل في شهورها الأخيرة، وكان هذا الطفل هو عزاء الخادمة الوحيد في غربتها عن طفلها. كانت تحتضنه كلما تسلل الحنين إلى قلبها، وتقبله كلما لاح طيف ابنها في خيالها. لم "تدري" كم من الوقت مر عليها وهي تداعب الصغير إلى أن استيقظت أمه ورأتها جالسة على طرف سريره فصرخت بوجهها وأمرتها بتحضير الفطور لسيدها. لطالما أحست بأن سيدتها تغار منها على ابنها فلقد أضحى الطفل متعلقاً بها كثيراً ولا ينام إلا في حضنها بعد أن تغني له أغنيات تعبق برائحة موطنها.
أعدت الإفطار سريعاً وجهزت المائدة بينما جلس سيدها وسيدتها إلى المائدة. أمسكت إبريق الشاي وهمت بأن تصب فنجان شاي لسيدها وإذ بالإبريق ينزلق ويتهشم إلى مئات القطع على أرضية الغرفة. أصيبت بالهلع وانتظرت تعنيفاً من سيدها ولكنه فاجأها بابتسامة وقال لها بلطف: لا عليك، لم يكن ذنبك. (ليسا بهذا السوء) فكرت في ذلك وهي تجمع قطع الزجاج من على الأرضية، فسيدها ودود جدًّا ولم يكن يعنفها أبداً، أما سيدتها فكانت تسمح لها بأن تأكل ما تريد وكانت تعطيها من ملابسها وأحذيتها ولو لم تكن تغار منها على طفلها لما نهرتها يوماً. محظوظة هي مقارنة بخادمة الجيران، فالأخيرة كانت تشكي دوماً من المعاملة السيئة التي تلقاها كلما شاهدتها على سطح الجيران أثناء نشر الغسيل. شكت لها تلك الخادمة كثيراً من العنف الذي تبدو آثاره واضحة على وجهها، كما شكت لها حرمانها أياماً طويلة من العشاء وكثرة الصراخ والشتائم التي تتلقاها. (محظوظة! ربما، ولكني أموت اشتياقاً لولدي) تذكرت ابنها وفاضت عيناها بالدموع حتى بدا لها وكأنها تنظر من خلال سحابة بيضاء تغلف عينيها من كثرة الدموع التي اجتاحت مقلتيها.
ذهب سيدها إلى عمله وجلست سيدتها مع طفلها أمام التلفاز، بينما تابعت هي تنظيف المنزل، سمعت صوت قهقهة الصغير كلحن عذب يداعب أذنيها فاسترقت النظر على سيدتها وهي تلاعب ابنها بحنان الأم. كانت تقبله وتربت على رأسه بحنو بالغ، ثم مرغت رأسها في بطنه مدغدغة إياه لتنطلق ضحكاته في جنبات المنزل. أحست الخادمة بحرقة شديدة في قلبها ودوار في رأسها. آهٍ كم تشتاق لممارسة أمومتها وكم تشعر بالأسى على طفلها الذي حُرم وجود أمه بجواره. تبعد عنه آلاف الأميال وتفصلها عنه جبال و"صحاري" ومحيطات، هل كتب عليها أن تعيش العمر كله بعيدة عنه؟ هل سيكبر ابنها ويتغير شكله فلا تستطيع التعرف عليه؟ أم هل ستموت وحيدة في الغربة تناجي أمومتها المكلومة؟
في ذلك المساء كتبت لأمها رسالة توصيها فيها بابنها وتطلب منها أن ترسل لها صورة كبيرة له لتعلقها على جدار غرفتها الصغيرة. طوت الرسالة بعناية ووضعتها في الظرف مرفقة بحوالة مصرفية. نامت ليلتها هانئة تحلم بالملابس الجديدة التي ستشتريها أمها لطفلها، كما تخيلت الألعاب الجميلة التي سيطير بها ابنها فرحاً.
في الأسبوع التالي، دخل سيدها عليها بينما كانت تنظف غرفة الجلوس حاملاً بيده مظروفا، تعرفت على الطوابع التي يحملها الظرف فوراً وركضت إلى غرفتها لتقرأ أخبار أحبائها. فتحته على عجل، وفضت الورقة لتجد بضعة سطور مقتضبة من أختها تخبرها فيها أن طفلها مريض جدًّا وقد نقلوه إلى المستشفى ليجدوا أنه مصاب بالملاريا المنتشرة في ربوع وطنها.
جمدت في مكانها لحظات تحاول إعادة قراءة الرسالة عسى أن تكون فهمت المقصود خطأً ولكن بلا جدوى فالرسالة واضحة وضوح الشمس...
(طفلي مريض جدًّا أرجوك أحتاج لإجازة لأراه) خرجت الكلمات من فمها متحشرجة وهي تستعطف سيدها، ولكنه رفض رفضاً قاطعاً متعللاً بحمل زوجته وحاجتها الآن لمن يساعدها، وأنها تحتاج لبعض الوقت لتجد خادمة أخرى... (تستطيعين الاتصال بابنك على حسابي لتطمئني كما أنني سأرسل له بعض المال ليتعالج في أحسن المستشفيات، فقط انتظري بضعة شهور حتى تضع زوجتي مولودها، وأجد لها خادمة أخرى ثم سافري كما تريدين)، عقب سيدها بذلك بعدما توسلت إليه كثيراً أن يدعها تسافر في اليوم التالي، ولكنها أحست بأنه لن يفهمها أبداً فقد قدم مصلحته على أي شيء آخر، تمالكت نفسها وتمسكت برباطة جأشها وهي تقول: حسناً سأتصل به غداً.
دلفت إلى غرفتها في تلك الليلة، وجلست تراقب الساعة بهدوء بينما بدا عليها علامات التفكير العميق، بعد منتصف الليل تسللت إلى الباب الخارجي حاملة حقيبة صغيرة تحوي متاعها وأغلقت الباب وراءها بهدوء.
*************************************************
النقد والتعليق :
الناقد والسيناريست عماد مطاوع
"رن المنبه الموضوع على المنضدة بنبرة منخفضة ورويدا رويدا تعالى صوته إلى أن أصبح شديد الإزعاج موترا للأعصاب".
في جرأة شديدة وبلا أية مقدمات (فَرْشة) من تلك التي يلجأ إليها كتاب القصة في مراحلهم الأولى، وببداية متوترة مكثفة تضعنا "مايا" وسط حالة فنية /إنسانية تدعو للإعجاب والتقدير بالفعل، فهي تعالج خصيصة إنسانية تم تناولها كثيرا، لكنها برهافة حس وبمشاعر عالية تعالجها بطريقة خاصة بها معتمدة على موهبتها البادية بالفعل، إنها ترصد لحالة خاصة جدا، وفى ذات الوقت شديدة العمومية، فهي ترصد قهرا إنسانيا فرق ما بين أم وطفلها تحت وطأة الظروف المعقدة، وهى أيضا ترصد لنسق حياتي اعترى مجتمعاتنا العربية، وغذى فيها طبقية اقتصادية طاغية.
إن قصة "هروب خادمة" تحتوي على لحظات قصصية جيدة البناء، مرهفة الحس، حادة كالسكين في ذات الوقت، خاصة تلك التي تتناول مشاعر الأم تجاه طفلها الذي اضطرت لتركه والسفر بعيدا عنه، سعيا وراء الرزق لكليهما، ولنا أن نتوقف عند وصف القاصة لتلك الحالة التي كانت تعتري الأم (الخادمة) عندما تحمل ابن مخدوميها بين ذراعيها، إذ تعتريها لحظات يتداعى فيها الشعور بأمومتها المهدرة وتتخيله طفلها فتداعبه وتغدق عليه من حنانها... "كانت تحتضنه كلما تسلل الحنين إلى قلبها، وتقبله كلما لاح طيف ابنها في خيالها" فكانت معالجة القاصة لهذه الحالة معالجة جيدة استخدمت فيها أدوات فنية هامة.
ومع ولع الكاتبة باستخدام الجمل البلاغية الإنشائية واستخدامها لبعض الأقوال والأمثال إلا أن ذلك لم يكن عائقا كبيرا أمام انسيابية العمل وتدفقه، ولكن اختيارها لاسم القصة لم يكن موفقا، ولم يكن على نفس مستوى القصة، إذ إنها اختارت عنوانا إخباريا يصلح لخبر صحفي أو ما شابه ذلك، ولهذا عليها أن تجتهد كثيرا في اختيار عناوين قصصها، ولا تتعامل مع العنوان بسهولة؛ لأن العنوان بوابة هامة للعمل.
ولقد أنهت القاصة عملها نهاية جيدة، تضافرت فيها الحالة النفسية مع الصورة الفنية فشكلتا لوحة رائعة، والكاتبة تمتلك قدرة عالية على رسم صورة قصصية، بل في هذه الخاتمة أتخيلها تكتبها بلغة السينما "السيناريو"، حتى إنني أكاد أستشعر موسيقى خاصة تلف هذه اللحظة العالية البناء، و"مايا" بهذا العمل تؤكد امتلاكها لأدواتها الفنية، وأيضا امتلاكها لوعي إنساني عالٍ، ولهذا أطالبها أن تعمل على إيجاد خط قصصي خاص يميزها مستفيدة من تلك الأدوات وأظنها قادرة على فعل ذلك.
ويضيف الزميل جمال عبد الناصر:
ولا يفوتنا هنا أن نذكر الأخت الكاتبة بأن تكثر من مراجعة قواعد اللغة كي تتقنها جيدا؛ فاللغة هي أداة أساسية في يد كل كاتب، وهي التي يستطيع أن يعبر بها عن أفكاره وما يدور في خياله، وقد وقعت الكاتبة في بعض الأخطاء النحوية والصرفية، مثل:
1- "امتلأ مكتبه بنساء مثلها (هدتهم) ظروف الحياة ولم (يجدوا) ملجأً آخر (لهم)"، يلاحظ عدم مطابقة الفعل لفاعله من حيث التذكير والتأنيث، والصواب هو "يجدن" بدلا من يجدوا، وهدتهن بدلا من هدتهم، "ولهن" بدلا من"لهم".
2- "لم (تدري) كم من الوقت مر عليها وهي تداعب الصغير"، يلاحظ عدم جزم الفعل بعد لم هنا، والصواب هو "تدرِ" بدلا من تدري.
3- "تبعد عنه آلاف الأميال وتفصلها عنه جبال و(صحاري) ومحيطات"، يلاحظ عدم تنوين الاسم المنقوص تنوين عوض، والصواب هو "صحارٍ" بدلا من صحاري.
ولكن مع هذا فالكاتبة لديها حس لغوي رائع، عليها أن تحرص عليه وتنميه.
كانت عندنا جارة... ربي... وأي جارة! لا تعيش إلا مع حمامها الأبيض وصورة زوجها المستشهد. ودعتها سنوات زادت عن الخمسين، جمالها أنيق، عيناها تومض ضياء مريحا، شعرها تستره بمنديل من الحرير... يشكي الجيران أحوالهم بينما هي... تحمد، يلعنون... تصفح، يصرخون فتهمس!!.
كنت أطل من وراء شباكي قبل الذهاب للمدرسة، أربط (مريلتي) بينما أتفرج عليها حيث تمد بكفيها المدورتين لحمامها الحب والطل يغشاها، تطعم بيد وبالأخرى تضعها في العش فتخرج منه بيضتين، ثم تتأمل الطير وهو ينفض عن جناحيه قطرات الندى، ويرتفع لأعلى!
أخطف كوب اللبن مسرعا، أهرول على السلم، شنطة مدرستي تلهج تحت يدي من لهفة اللقاء.. تراني أمامها عندما تسحب جريدة الصباح، فتداعب شعري الأسود، وتبث حولي أدعيه نورانية، ثم تدس يدها الطرية في جيبي لتودعها.. "نعناعة السكر!".
لا زلت أذكر يوم الغارة، تتخبط أقدامنا إلى المخبأ، يئز في سمعنا طلقات المدفع، لن أنسى (تكتكة) الركبتين، وصراخ أختي الرضيعة على كتف أمي، ثم تدور أحاديث الجيران عبر بقعة ضوء مرتعشة، أبى يتحاور ثائرا في شئون السياسة، شابان يتجادلان في صحة هدف المباراة الملغى، لغط وحوارات تتهاوى هنا وهناك..
أما الجارة فيبسم ثغرها بسمة صافية، ويلتم حولها نسوة العمارة، تبدأ كلامها باسم الله، فتمسك أول الحديث، تغزله في دعابة، وتوصله بحكاية وراء حكاية، ثم تقطعها بآية!!.
وتنطلق صفارة نهاية الغارة، فتفتح لنا باب شقتها تدعونا بالدخول، تعتذر أمي وتوعدها بالحضور في يوم عاجل، نكمل صعود السلالم وأبي يقترب من أمي قائلا: "ما أطيب هذه الجارة".
تنطبع تفاصيل زيارتي لبيتها أول مرة، حيث دفعني الفضول الجارف لأتعرف على شقتها، تقابلني بالتحية وحولها أثاث يومئ بالراحة.
سألتني:
- هل رأيت حمامي الأبيض؟
تقودني لشرفتها، تناولني بضع حبات، فأنثرها مندهشا داخل العش، أسرح في منقار حمامة صغيرة، أفرد أصبعي وأمر به على ريشها فتغمرني وداعة!.
أسأل جارتي عدة أسئلة تبدأ ب (كم وكيف ولماذا و....) فتحني قامتها نحوي، وكأنها تعيرني سرا مستورا: -
- يا حبيبي للحمام معنى!
رددت في سري (للحمام معنى؟!! ) ولم أفهم.
يدي الشقية تعبث بعقدها الطويل، أدوره في الهواء بسذاجة، تنط حمرة الخجل في وجهي فور وقوعه على الأرض، ناديت الأرض أن تبلعني، فلا أطيق غضب نظرتها، وانتظرت قلقا ما سوف تفعل.. تقترب منى بهدوء، تنظر للعقد على الأرض، تلم حباته صامته، تعقدها في الخيط فتفشل، تجرب ثانية وتسألني بنفس الابتسامة:-
- هل رأيت فصوص الرمانة؟
أدير زر (تليفزيونها)، وأنتظر الصورة. ولكن لا يأتيني سوى صوته، أخبرتني بعطل الجهاز منذ فترة، لم أجد شيئا يسليني، فتألفت مع (تليفزيونها) المعطل، أتابع برامجه بأذني وأتخيل كيف يكون المنظر!.
تدق الساعة المعلقة دقتين، أحس بالعطش ولا أجدها حولي، لا أسمع (خشخشة) يديها في المطبخ، تساءلت بداخلي متوجسا، أين هي؟! ولما هذا الهدوء المقلق؟.
تسحبت على أصابع قدمي وعند باب حجرتها، بصرتها تستلقي فوق بساط متواضع، ترمى يديها على الأرض في استسلام وتحدق تجاه السقف، تطول اللحظات.. كدت أنبهها بوجودي، ولكن لمحت فجأة دموعها تظفر، تزفر معها تنهيدة شجية، بينما رأسها لا يتحرك.. فيم تفكر؟! هل تفتش عن فتحة بالسقف، أم تسرح في لونه الباهت؟!.
كيف أتصرف؟ أأرتمى بجانبها مواسيا أو أرجع لأمي فأكشف لها خبايا آناتها؟!.
جرجرت ساقي، أكتم أنفاسي حتى لا تسمع، وفتحت الشرفة مرة أخرى، كم يطيب لي الآن الاتكاء على جدارها كي أتشاغل بحركة الطريق وتزول من عقلي صورتها وهي تتألم.
يقتحم سمعي رنين (التليفون) المتواصل، ترفع السماعة، تتكلم وتحكي ثم تضحك أجدها تقترب تجاهي بأسارير منشرحة، كأنها منذ لحظتين لم تكن تتوجع، وتفاجئني بالسؤال:-
هل تحب عصير المشمش؟
في الصيف سافرت تزور شقيقتها، وانشغلت في عطلتي، مع الأصحاب والشقاوة، لكن طالت غيبتها، يسأل عنها كل سكان العمارة.
يقبل خريف تظلله كآبة، أطل على العش المقفول، أين يا ترى راح حمامها؟! ولما نست على الحبل منديلها الأحمر، يتطاير وحيدا، يترنح بين فكي المشبك؟! يجهدني عبث الشوق فأسدل الستارة على أمل يوم تالٍ.
أعود من مدرستي، تصطف في وجهي أسياخ حديد بابها، كأنها تتحدى.. أصعد لشقتي كسير النفس، همي يدفع رأسي لأسفل، تفتح لي أمي وتغمزني، فأنظر وراءها، ويزغرد قلبي ها هي أمامي، أغمض عيني وأنتشي بحنان ضمتها، هتفت طربا في جهري وسري، تلثم خدي بقبلة فأردها لها قبلتين، توسلت الزمن أن يتوقف، تشرح لها أمي حالي أثناء غيابها، فتزيد لي من دفء الضمة.
تعود لشرفتها يرخي الحمام جناحيه، يطير مرنما لحن العودة، يتألق على السحاب، يشكل خطوطا تتدلل، بينما أختلس من وراء الزجاج جمال المشهد.
وتتدحرج الأيام، يطوي العمر صفحة، تتراكم المتغيرات، ونرحل لبيت آخر جديد ولكنه بعيد.. جدا بعيد عن بيتنا القديم.
صرت شابا يزين وجهي شارب كثيف، صوتي تخشن، ينبت الشوك بذقني، تتحور الأحاسيس لأخرى، علمني زماني تعاطي الدخان الأسود، هويت في نار الغرام، أعبث مثل غيري، ألهو معهم وأولع ببريق الشهوة، وصرت أجيد صفرة الابتسامة.
لكني لم أقتل بعد وميض الذكرى، ذكرى أول أيامي، وأعاتب أمي:-
- سبعة أعوام يا أمي ولم نبادر بالزيارة؟!
يزعق حنيني الآن لرؤيتها، قطعت زحام الطريق وطول المسافة، أقترب من شقتها، وأحلم بالموعد، لأزفر عندها الآهة، أفتح شرفتها، وأتحسس ريشة الحمامة...
عبرت الرصيف يسبقني وجدي، دخلت من باب العمارة المخلوع، وقفت أمام شقتها، لكن لا أحد يفتح!! هاجت سكناتي، ارتجف أصبعي فوق الجرس، ينقبض صدري بهواجسي المرة، لكن لا...
أسمع الآن وقع خطواتها، وتفتح لي.. فأكاد أسبح!.
تتهلل لرؤيتي، تستقبلني بالبسمة، تسكب على بحور الفرحة، هي كما هي لم تتغير، لم يقدر الزمن على بهاء جواها، تنطق باسمي وكأنها تتغزل، وتعتذر لي بالأهداب المبتلة:-
آسفة على التأخير.. كنت أتوضأ.
أتت لي بالشاي والسكر، تحكى وتسهب، تخبرني بزواج ابنة أختها، تريني شالها الجديد الأخضر، يتدفق منها الكلام سلسا، لا ثرثرة ولكن مكرمة لضيفها، تشعرني بمدى قربي لها، تختزل في عفوية قطيعة سنوات ممتدة، تظل تقص علي بينما بصري يتشبث بمقلتيها وكأنه يستحلفهما: -
-
تتوقف عن الكلام، وتقترب مني: -
- وأنت ما أحوالك؟ ولما غبت عن جارتك أم نسيت؟
لمست بفطنتها تغير ملامح وجهي:-
ما بك؟ احكي فلا أطيق صرخة (النني)!
ألم أشجاني ومتاعبي المتنافرة البوح أحيانا يكون أصعب، جاهدت.. وبدأت:-
- خانتني الحبيب ة، سافر الصديق، لم تعد لأيامي بهجة، الغل بصدري يتمدد، يكرهني زميل عملي فأبادله الكره، يفصلنا هواء مسموما، دخاني الأسود يا جارة يحوطني، يغزو قلبي، بينما أمي تنشغل بأختي، وأبي بماله.. يستثمر! الكل صار تمتطيه شهوة وأنا أشتاق الآن للون أبيض، ولا أدري لما أمشي في طريقي فأتعثر، صرت يا جارتي كالصغير الذي يهاب العسكر.
أنهيت كلماتي وأنا أكاد أهوى على الأرض نظرت لي في شفقة وأمالت علىّ برقة:-
- اصبر!
علا صوتي صارخا:-
- من أين لي؟
وشوشتني
- اذكر ربك.
لم أنبس، فكررت الطلب ثم نبهتني:-
- أذكره من قلب القلب.
وكأنني لم أسمع فأعيد عليها الشكوى:-
يا جارتي، تركتني الحبيب ة، والصديق، أطفأ مللي أملي..
استمهلتني في حزم، سكتت برهة، رف رمش العين قبل أن تلقي على القول بنبرة تعز على الوصف:-
- صل على الحبيب.
سكتّ... سكت، ثم غفوت..
خيوط الصمت الهامس تنسج الفراغ حوالينا، ذرات السكون تتزين، تصلي وتسلم، أتوه في اختلاج شفتيها، تأخذ بيدي لأطوف معها، جلد يدي يحس بقلبها.. ينبض نسايم من الشرفة المفتوحة تهل علينا، هديل الحمام يشاركنا الجلسة، صورة زوجها المستشهد تكاد تنطق، تنقر جارتي بكلمات طيبة على الأوتار العذبة، تلتف في الحرير، تمد لي يدها، تطوف ونطوف، عيونها تتلألأ، كأنها تشم عبيرا من الجنة، يدهشني رجاء نظرتها، أهي لهفة؟ أم.. رهبة؟! لا.. بل هي سجدة!.
تتجاور المعاني وتتجمع على سحاب أملس، يتهدهد الشعور بما لم أحس به من قبل، وأقسم بأنني الآن.. أجمل!!.
تعطر جارتي الحرف وتتذوق، تحنو على الحاء، وتؤكد على المخرج قبل أن يشرق لسانها ب:-
محمد.
آه.. أردد معها وأهفو، رعش قلبي لنور روحها المقطر، تمدد في الحنايا البلسم، رن الحس الذي تبلد، وصلى الله عليه وسلم.
قمت أطلب الانصراف، فذكرتني:-
أنا موجودة طول الوقت، لا أغادر مكاني إلا ساعة بالنهار.
أخرج للطريق، تدبدب قدماي، يتمايل عودي راقصا، أرى الناس أحلى، لكن سرعان ما يداهمني الزحام داخل العربة، فأجد نفسي محشورا وسط أجسام لزجة، يلتف الخناق حولي، يهم لساني بالسب واللعنة، لكن لم تزل صورتها بعد في خيالي (تبسم لنا ببسمتها الصفية يوم الغارة) فأقلدها محاولا، بينما تتسلل أصابع يدي داخل جيبي، لتطمئن علي..
نعناعة السكر!
****************************
النقد والتعليق
يقول الناقد والسينارست/ عماد مطاوع:
عندما تتراكم الإحباطات وتتجاور الهزائم النفسية يحن المرء للعودة إلى نبع أحلامه الأول، ويهفو لاستعادة هذه اللحظات الدافئة، خاصة إذا ارتبط ذلك بأشخاص يحتلون مكانة مهمة في مسيرة حياتنا، ومن هنا كان إعجابي بقصة "جارتي" للقاص حسام نور الدين.
وهذه القصة رغم طولها النسبي فإنها تجمع بالفعل عناصر قصصية/ فنية جيدة، فهي ترجمة لحالة نفسية، ليس لبطلها فقط بل لنا جميعا. خاصة أن نموذج هذه الجارة يفتح الباب لاستقبال كل ما هو أصيل وحميم.
تبدأ القصة بالدخول مباشرة إلى الحدث بعد جملة واحدة تقريبا يقولها القاص... "كانت عندنا جارة... ربي.. وأي جارة"، ثم يبدأ في اجترار ذكرياته مع هذه الجارة التي تعد ملمحا مهما لطفولته ولأيام حياتية مؤثرة فيه، فهو يؤرخ من خلال هذه الجارة لفترة اجتماعية/ سياسية، فهي أرملة لشهيد، تحرص على أن تجعل صورته متصدرة الجدار، وهي تسلك في حياتها مسلكا إيمانيا يصل حد التصوف، كما أنها تربي وتعتني بحماماتها البيضاء اللون -ولهذه الحمامات دلالة مهمة على شخصيتها المسالمة المرهفة والوثابة في ذات الوقت- ويبدأ بطل القصة في نسج التفاصيل الصغيرة لعلاقته بهذه الجارة التي كانت تحتل لديه ولدى الجميع مكانة أصيلة، ثم تجري في النهر مياه عديدة وتبدل الوجوه والأحداث وتنتقل الأسرة للإقامة في مكان آخر، وتنقطع الزيارات لهذه الجارة، ثم يجرف الشوق هذا الطفل/ البطل الذي صار شابا لرؤية الجارة خاصة وقد تكاتفت على كاهله الخطوب، فنجده يقول... "خانتني الحبيب ة، سافر الصديق، لم تعد لأيامي بهجة... إلخ" فنجد الجارة تتخذ مكانها المعهود وتقف إلى جواره وتوصيه بالصبر، ثم يكثف الكاتب حالة إنسانية مرهفة للغاية تصل إلى درجة النظرة الصوفية الشفافة للعالم والحياة، وهنا تتكشف جوانب أخرى من شخصية تلك الجارة التي مثلت لذلك الطفل/ الشاب- بطل القصة- مفتاحا مهما من مفاتيح أبواب البهجة التي يلج منها إلى مياه أكثر متعة وأكثر ثراء.
ولقد اعتمد الكاتب على الراوي العليم بمجريات الأمور ليضفي على عمله جوا أكثر مصداقية- ولقد نجح- والحق أن التشكيل البصري للسرد هنا، جعل اللحظات القصصية التي تصيدها القاص تتمثل أمام أعيننا ولا يتأتى ذلك إلى بحرفية عالية في القص وذكاء في إدارة دفة الحدث، ويحسب للكاتب هنا البناء الجيد للشخصيات للدرجة التي جعلتها حية تنبض بالحياة.
ولقد استدرجت الحكاية وجماليتها الكاتب فأسهب قليلا في السرد وكان عليه أن يراعي التكثيف حتى يخرج لنا قصة متماسكة أكثر، والحق أنني حاولت القيام بعمل "مونتاج" لهذه القصة فوجدتني أضعف عن الاستغناء عن أي فقرة بسهولة والقاص بالطبع هو الأقدر على ضبط إيقاع العمل وهذه التجربة ثرية بالفعل على مستويات متعددة، فهي ترصد حالة إنسانية/ اجتماعية مهمة، تغوص في أعماق التركيبة الاجتماعية في مراحل مختلفة وتسجل أياما وحقبا، كما أنها تعد منظومة إنسانية رقيقة لأسباب متعددة ربما أكثرها وضوحا اللغة الشاعرية التي استخدمها الكاتب والتي أعانته على توصيل رسالته، كما أعانته على نسج لحظات قصصية عالية التكثيف تواشجت مع هذه اللغة فنجده يقول مثلا... "خيوط الصمت الهامس تنسج الفراغ حوالينا، ذرات السكون تتزين... إلخ" وهذا النص يقدم لنا كاتبا راسخا يمتلك أدواته ويتعامل مع فن القص بذكاء وحرفية عالية.