- وتوقفت عن الحديث ولفها صمت طويل وكأنها تبحث عن الإجابة.
- @ @ @
- @ @ @
- @ @ @
- @ @ @
- @ @ @
- @ @ @
- @ @ @
- أم أن أبا زرع هو الذي ندر وجوده في هذا الزمان؟
استمع الحبيب { إلى حديث السيدة عائشة رضي الله عنها عن نسوة اجتمعن، وتحدثت كل واحدة منهن عن زوجها، وكان من بينهن من تُدعى أم زرع، وقد أثنت كثيراً على زوجها بل أفاضت في حنوه عليها ورقته معها وتألمه لألمها وفرحه لفرحها، ورغم طول الحديث، وثقل مسؤولياته {، إلا أنه أنصت إليها، وفي نهاية حديثها قال لها: ألم اكن لك خيراً من أبي زرع لأم زرع؟ فأين نحن من هذه النماذج الأسرية الفريدة؟
في ليلة ممطرة من ليالي هذا الزمان ذهبت ببردها آهات دفينة وزفرات حارة انبعثت من صدور نسوة جمعهن حديث أجبر قلمي على تسطير مكنونات نفوسهن...
تساءلت والحيرة بادية على نبرات صوتها: كان في بداية زواجنا يستوعب أخطائي، يرشدني بكل الحب والحنان، ويوصيني دوماً بالهدوء والصبر حيال الأولاد وكل من أتعامل معهم... ومرت الأعوام وكبر الأولاد، وأصبحوا على مشارف الجامعة، وتوافر من الوقت ما أتاح لي كثرة القراءة، في الوقت الذي أصبح فيه مكتفياً بمعلوماته القديمة، ولم يطور نفسه، فإذا دار بيننا حوار أو نقاش وحاولت إقناعه بفكرة جديدة، أجده ضيق الصدر، لا يقبل غير آرائه بل ربما اتهمني بحب السيطرة.
وتوقفت عن الحديث ولفها صمت طويل وكأنها تبحث عن الإجابة.
@ @ @
قطع صمتها تنهد الثانية فقالت: أما أنا فباسم القوامة، تلك القيمة السامقة التي شوهت كثيراً يريدني أن أتقبل تدخله في كل ما أسمع وأقرأ، وأن كل ذلك لابد أن يمر من خلاله وكأنه ليس لي حق الاعتراض أو استبانة الموقف، أين الثقة إذن؟ ومن قال له إن ذلك يدخل في قوامته؟ وهل القوامة مطلقة؟ إن هذا الأسلوب ربما يجوز له أن يمارسه مع أولاده رغم أن الحوار هو الأسلم، أما أنا فهو يعلم تماماً أني لا أخفي عنه شيئاً فهلا كان أسلوبه أرق من ذلك؟ ليته حاول إقناعي بدلاً من إصدار أوامره العسكرية.
@ @ @
أما الثالثة فقد أصابها الذهول وبلغت منها الدهشة كل مبلغ عندما تشاجرت مع زوجها ذات مرة، فإذا به يفاجئها بقوله: لقد قلت نفس الكلمة التي تلفظت بها منذ ستة أعوام، وأنا أحتفظ بتاريخها باليوم والشهر والسنة.
قالت: انعقد لساني ولم أدر بماذا أجيبه؟ ولكن عندما هدأت قليلاً تعجبت!! فمن عادة الناس أن يحتفظوا بكل ما يذكرهم بالأوقات والمناسبات السعيدة في هذه الحياة لا المواقف التعيسة.
هلا تبصر بحقيقة نفسه وأحصى عيوبه وأخطاءه ليحاول إصلاح نفسه بدلاً من أن يرد عليّ بقوله: انصحي نفسك، أنا أعرف نفسي جيداً؟ وهل يتصور أنني وبعد علمي بذلك سأكون على طبيعتي وغير متكلفة في حديثي معه، لقد كسر شيئاً ما بداخلي.
@ @ @
وتبسمت الرابعة، ولكنها كانت ابتسامة حزينة انسابت من خلالها كلماتها، نعم هو طفلي الأكبر، نعم هو صاحب الحق الأول في حبي وحناني، وله أوفر الحظ من مشاعري، قبل أولادي وقبل الناس جميعاً، هكذا من المفترض أن أكون، لكنه لم يكلف نفسه مشقة السؤال يوماً، لماذا أبخل عليه بتلك المشاعر والأحاسيس.. لم يفطن يوماً لهذا الحاجز النفسي الذي وضعه بإحكام بيني وبينه بسبب كلماته الجارحة وانتقاصه مني كلما أخطأت ومن منا لا يخطئ وهل أخطائي تبيح له تجريحي وإهانتي؟ ثم يعود ويلومني إنه ما عاد يجد حتى الابتسامة، تلك التي صهرها تماماً في أتون مفرداته اللاذعة ونقده الملتهب.
لا والله، لست جامدة المشاعر ولا بليدة العواطف، إن بداخلي الكثير من الحب والرغبة في العطاء، ولكن كيف لهذه الأحاسيس أن تنبت، وتتطاول فروعها وتثمر، وقد خنقها بدخان غضبه المتهور ورذاذ سخريته المتبعثر؟
@ @ @
أما الخامسة فكانت أكثر انفعالاً، فلم يكن وقع الكلمات عليها هيناً عندما أخبرها أن القرار فيما يخص الصغار من شأنه وحده، فلم تستطع تقبل الأمر، وعندما سألته: أين الشورى التي ذكرها القرآن عند فطام الطفل؟ وعندما ضربت له المثل باستشارة الحبيب { للسيدة أم سلمة فيما يخص سياسة الدولة، إذا به يرد: هذه اللافتات لا أعرفها، من الممكن أن أستمع فقط، مجرد استماع إن كان عندك شيء، ولن يزيد الأمر على ذلك، ثم تركها، فمن تتحدث معه سواه؟
@ @ @
وجاء دور السادسة فقالت: أعلم أنه لم يقصر في حقي إلا قليلاً ورغماً عنه، ولا أنكر ذلك أبداً، ولكن لا أدري لماذا يتركني في فترات مرضي وعند ولادتي لغيره يمرضونني؟، مهما كان عطف صديقاتي علي وتفانيهن في خدمتي، إلا أنني أشد ما أكون احتياجاً إليه في هذا الوقت، وليست حاجتي فقط في توفير الدواء ونفقات العلاج، وقوفه بجانبي وعطاؤه لي من وقته واهتمامه، ألا يكون ذلك من حقي عليه؟
@ @ @
وتحدثت السابعة قائلة: مثل كل الزوجات أنتظر قدومه بشوق ولهفة، ويعلم الله كم أجتهد لحسن لقائه، ولا أذكر أنني أخبرته بشيء يزعجه بمجرد دخوله البيت، وأحرص على أن يأخذ قسطاً من الراحة، وأحاول أن أتلمس مداخل لطيفة لأستشيره وأخبره بما في بيتنا من مشكلات الأولاد المعتادة، أو أي جديد في حياتنا، فلا أجد إلا مفردات ثابتة غير قابلة للتجديد: أنا ليس عندي وقت.. عندي ما يكفيني.. أنا مرهق نفسياً وعصبياً... مشكلات البيت والأولاد يمكنك تحملها والعمل على حلها، ومع ارتفاع نبرات صوته انتبه على إغلاق باب البيت بشدة وعنف.
@ @ @
أما الثامنة وعلى غير ما ألفناه فكانت غير مكترثة بهيئتها ولباسها وزينتها، وقد كنا نضرب بها المثل في حفاظها على رشاقتها وبهاء طلعتها داخل البيت وخارجه أيضا.ً. لاحظت علامات الاستفهام على وجوهنا، قالت.. أعلم ما يدور في أذهانكن، ولكن ما حيلتي بعد ما سمعته منه عندما دخل البيت يوماً وهو غاضب ورغماً عني وبسبب كثرة الأعمال الملقاة على عاتقي وعلى غير عادتي لم أكن وقتها في هيئة حسنة، وكنت منهكة القوى، فلم أستطع التجاوب معه، فإذا به يصدمني وبكل تهكم.. أنا لا أدري لماذا لا تكونين مثل فتيات (...) ألا تتعلمين، ألا كنت عوناً لي على العفة وغض البصر؟ حسناً.. هنيئاً لك بسخط الله عليك ولعن الملائكة لك.
كدت أبكي من قسوة كلماته، كيف هان عليه وبعد كل هذه السنوات أن يقارن بيني وبين هؤلاء اللاتي لا يعرفن أي قيمة للزواج ولا البيت ولا تربية الأولاد، وهل أستطيع أنا أن أتفوه بكلمة واحدة بمثل ما آذى به سمعي، لماذا لم يضع نفسه مكاني؟ ماذا سيكون شعوره لو قارنته بغيره مثلما فعل معي؟
@ @ @
وتساءلت الأخيرة: لا أدري لماذا لا يكون صادقاً مع نفسه، هل يريدني رجلاً أم امرأة؟
كنت كلما ثقلت عليّ مسؤولية الأولاد، أو آلمني شيء، أو ازدادت معاناتي مع أهله، أتيته والدموع في عيني، أخفف عن نفسي بحديثي معه، وأنتظر كفه الحانية لتمسح دموعي، وتحتوي لحظات انفعالي، ولكنه كثيراً ما نصحني، بل وطالبني بالصبر والتجلد والشدة وعدم الضعف، فأجدني مضطرة أن أكتم ذلك الفيض الغامر من مشاعري فتغيب عني الابتسامة، ونضرة الوجه وطلاقته أياماً، فلا أراه يتحمل ذلك، ويتساءل في دهشة يشوبها الكثير من الاستنكار: أين ابتسامتك الرقيقة، وكلماتك العذبة، أين سحر الأنثى بداخلك، ودلالك ورقتك في تعاملك معي؟!!
ألا يرى أنه ما أفسح لها مكاناً في نفسي بعدما أجبرني على ملء المساحة المخصصة لها بما طالبني به؟ ألم أكن أنثى حين أتيته أشكو إليه؟ أم أنه أرادني وقتها رجلاً، والآن يريدني امرأة؟
@ @ @
ولا يزال حديثهن يتدفق، تسمعه أذناي، ويجري به القلم، ولكن عقلي ذهب بعيداً، أسائل نفسي: أليس من بينهن أم زرع كالتي حكت لنا عنها السيدة عائشة؟ أين ذهبت؟ أتراها خشيت على نفسها (العين) فتوارت بعيداً؟
أم أن أبا زرع هو الذي ندر وجوده في هذا الزمان؟
فهلا عدت إلينا أبا زرع...هلا عدت زوجاً حنوناً هادئاً وصبوراً، هلا عدت صديقاً وحبيباً.. لتخرج لنا من بين حناياك وأضلعك أم زرع، وأبناء أبي زرع؟
هيا أبا زرع.. ألست صاحب القوامة، خذ بزمام المبادرة، واجه نفسك، لا تنشغل بالتفسيرات والتبريرات... كن واثقاً أنك عندما تتخذ قرارك بالتغيير فلن يطول بك الوقت في البحث عن أم زرع، فسرعان ما ستعود إليك وبأفضل مما كانت.
وما أعظم أجرك وثوابك حين تعيد الابتسامة إلى ثغرها، وتهدئ بعذب كلماتك نفسها، وتملأ السكينة والمودة جنبات البيت، وترفرف أجنحة الحب على عش لم تجد يوماً أفضل من أم زرع لتبنياه سوياً.