- فما هو الحلم؟
- قبل البدء بتعريف الحلم، يجدر بنا أن نتحدث عنه في حالات ثلاث:
فما هو الحلم؟
قبل البدء بتعريف الحلم، يجدر بنا أن نتحدث عنه في حالات ثلاث:
المثل الأول هو الحلم الذي يتعرض لمؤثرات خارجية وصور وأفكار ومشاعر تؤثر في الدماغ فتنعكس في أعضائه الفسيولوجية أو في بعضها أو في واحدة منها. وتبدو النتائج المادية واضحة لدى الاستيقاظ. ويُعَدُّ الحلم الجنسي مثالاً واضحاً على هذا النوع من الأحلام. ولدى الاستيقاظ، يدرك الحالم أنه حقق عملية واقعية يتلمس أثرها، ويحس بانعكاساتها على الرغم من عدم وجود موضوع هو المرأة (إن كان الحالم رجلاً) أو الرجل (إن كان الحالم امرأة). ومع ذلك نقول: إن حلماً من هذا النوع هو استمرار لليقظة وتفاعل جسدي يماثل اليقظة، وقد يتفوَّق عليها
يُظهِر لنا هذا المثل أن جسد الحالم يتفاعل مع موضوعه الفكري، أي الصورة، تماماً كما يتفاعل الجسد المستيقظ، كما يُظهِر أن الانفعالات والأحاسيس التي تطرأ على الجسد في حالة كهذه تكون أكثر شدة من مثيلاتها في حالة اليقظة. ويمكن أن تكون اللذة أعمق والألم أشد والإحساس أقوى، وذلك لأن الجسد الحالم يكون قد تخلص من العوائق التي تفرضها حالة اليقظة. ففي حالة النوم، يستسلم الجسد للفعل، ويحقق الفكرة أو الصورة التي يرغب في تحقيقها.
- المثل الثاني هو التالي: نفترض أن أحداً من الناس تصور نفسه ملكاً، وحلم في ليلته الأولى بأنه ملك حقيقي. إنه، إذ يستيقظ، يستمر شعوره بكونه ملكاً إلى حدٍّ معين. وفي الليلة الثانية حلم بأنه ملك. وبعد الاستيقاظ يستمر شعوره بأنه ملك إلى حدٍّ أكبر وفترة زمنية أطول. وفي الليلة الثالثة يزداد شعوره بأنه ملك... وفي ليلته، لنقلْ السابعة، يتصرف بشعوره كأنه ملك.
إذ نحاول أن نحلل هذا النوع من الأحلام نقول: إن الحلم، في هذه الحالة، يمثل اليقظة واليقظة تمثل الحلم. ونعني أن الشعور أو الأثر المخلَّف بكونه ملكاً قد انطلق من حالة اليقظة ليتحقق في النوم، فأصبح الحلم هو اليقظة، أي الواقع. ولدى الاستيقاظ، يستمر الحلم على نحو شعور، ويعبِّر عن وجود صورة تماماً كما تستمر الصورة والفكرة من اليقظة إلى النوم. فهل أن هذا الشخص يحقق أو يحيا كونه ملكاً أم أنه كان يحلم فقط؟
لم يكن هذا الشخص ملكاً حقيقياً في حالة اليقظة، بل تولَّد لديه شعور مدعَّم بالتخيُّل بأنه ملك. وعندما حلم بأنه ملك، تحقق وجوده ملكاً في الحلم، وتميز بكل صفة ملحقة بالملك: تاج، صولجان، عرش، عظمة، جنود، قصر وحاشية، وإصدار الأوامر، إلخ. وعندما استيقظ استمر شعوره بأنه ملك. وفي التكرار، استمر هذا الشعور، وأصبح أكثر شدة
يشير المثل الأخير إلى بقاء الأثر النفسي والجسدي بعد انقضاء الحلم على نحو خيال يدفع بالحالم المستيقظ إلى الرغبة المتمثِّلة بالعودة إلى النوم. وهنالك من يحلم بأنه يركض، فيحس بالتعب والإنهاك، أو يحلم بأنه يُضرَب فيحس بتوعك في جسده. ولدى الاستيقاظ، يشعر هذا الحالم بأن جسده منهك ومتعب. وعندما يعلم بأنه قد نال قسطاً وافراً من التعب والألم في حلمه يعلم أيضاً أنه قد تعرض لحلم مزعج بدت آثاره من خلال الجسد المتعب. ونحن نعجب كيف يمكن أن يشعر أو يحس بهذا الإنهاك ما دام جسده لم يغادر الفراش ولم يُضرَب ولم يركض.
الحلم، في درجاته الأولى، اشتراك حقيقي بين اليقظة والنوم. ويبدو واقعُه في الآثار النفسية والجسدية التي تظهر في الجسد ومن خلاله. ولا ننسى أن نوعاً من الغمِّ والكآبة يجتاح نفوسنا عندما نستيقظ ولا ندري سبباً مباشراً أو علة واضحة له. لكن، لدى الرجوع إلى الحلم، نعلم أن حالة ألم قد ألمَّت بنا وتركت أثراً نعاني منه في اليقظة. وهذا دليل على أن الارتباط قائم، وهو وثيق الصلة بحالتي اليقظة والنوم، وذلك لأن الشعور يمتد في كلتا الحالتين.
يمكننا أن نقول: إن أنواعاً من هذا الحلم تبدو بدائية في عالم النوم. فهي يقظة بدون موضوع خارجي. وتُعَدُّ هذه الأنواع أدنى درجات الأحلام لأنها مرتبطة بعالم الواقع اليومي أشد ارتباط. فهي لا ترفع الإنسان عن مستواه الفكري العادي ولا تتجاوز الواقع أو تتسامى عليه لأنها ترتبط بالوجود المادي الذي يحياه المرء. وتكون هذه الأحلام ضارة أحياناً، إذ تؤدي إلى عقد نفسية أو إلى قلق واضطراب لأنها تدور حول أمور معيشية وانفعالية ومادية لا يضعها الإنسان موضع التنفيذ في حالة اليقظة.
الحالة الثانية: يُعَدُّ حلم الدرجة الثانية تجاوزاً للحالة البدائية والمادية التي يظل فيها الجسد عالقاً بانعكاساته العديدة. وتعد هذه الحالة خلاصاً من عالم الرغبات وأنواع الكبوت والإشراطات، واستغراقاً في عالم النفس والروح، وامتداداً في المستقبل الزماني. ولكن روحانية هذه الدرجة تظل معتدلة وغير مكتملة مادامت تعبيراً عن درجة فوق عقلية. وفي هذه الدرجة، يشعر الإنسان بشيء من الطمأنينة والترفُّع عن الهواجس والانفعالات والرغبات والمخاوف والاضطرابات النفسية والجسدية التي تسيطر على أحلام الدرجة الأولى. ويكاد حلم الدرجة الثانية أن يكون تنبؤياً، يحدس الأحداث قبل وقوعها، بحيث إنها تتحقق في المستقبل الزماني المتصل باليقظة. ولا يكون لهذا النوع من الأحلام سابقة أو مصدر أو سبب موضوعي ماضٍ، وقد يكون له مصدر عقلي حدسي.
من أحلام هذه الدرجة التحدث إلى أرواح الموتى الصالحين، أو السير معهم، أو التعلُّم منهم، أو معرفة حادثة قبل وقوعها أو بعد وقوعها دون معرفة العقل لها. ومن أحلامها أيضاً رؤيا أناس سنلتقي بهم، أو الإطلاع على أمور تهمُّنا معنوياً. وتعد هذه الأحلام أعلى مرتبة من أحلام الدرجة الأولى لأنها تنفصل عن عالم الواقع المادي المعيش لتدخل عالم النفس والروح. ولا تحدث أحلام من هذا النوع إلا مع أناس ذوي عقول صافية ومستنيرة، ويتمتعون بأخلاق عالية وسامية.
نستنتج مما تقدم أن هذه الأحلام لا تعتمد على موضوع. وإذا وُجِد الموضوع فهو ليس أكثر من رمز فقط، وهكذا، تتضاءل قيمة الموضوعات الملموسة أو المحسوسة، وتنشط قوى ما فوق العقل، عن طريق الرموز التي تعبِّر عن اللاوعي الجمعي المشتمل على الأنماط البدئية الأولى ، التي تعتبر نفسية وقريبة جداً من التحقيق الروحي. وتفعل فينا هذه الأحلام بشدة وقوة، وتترك أثراً عميقاً في ذاكرتنا لأنها هامة جداً لوجودنا، إذ تساعدنا على معرفة أمور لا نبلغها بالعقل الموضوعي، أي العقل المشدود إلى الدماغ.
تشير هذه العبارة الأخيرة إلى أن العقل في درجاته العليا ينطلق من قيود مادته وموضوعاته وانعكاساته ليغوص إلى عالم أكثر شمولاً وصفاءً وعمقاً. وتتراءى له صور لا تمتُّ إلى الموضوع بصلة أو تتجاوزه أو تتسامى عليه. ويشعر كل من يحلم بهذا النوع من الأحلام بأنه متسامٍ، وأن قدرته تتعالى. كما يشعر بقوة نفسية وعقلية معاً، وُيحس بأهمية حياته، ويضمِّن هذه الحياة معنى غير محدود. وتبرَّر هذه القوة، إذ يتأكد من وجود قوى عميقة تفعل فيه، وترفعه عن مستواه المادي، وتشير إلى مكامن طاقته.
الحالة الثالثة: نقول إن الحلم في درجته الثالثة والأخيرة صعود إلى مملكة الإنسان الحقة، مملكة الروح. وفي هذه الدرجة يسمو الإنسان على وجوده المادي، ويتعالى في عالم حقيقته. ولا يحقق هذه الدرجة إلا أصحاب الأرواح الصافية والعقول المستنيرة والأخلاق السامية. وتكون أحلام هذه الدرجة قليلة ونادرة.
ومن أحلام هذه الدرجة رؤيا الملائكة، وشعور قوي بالغبطة والطيران. وتُعَدُّ الغبطة درجة عالية جداً في الحلم الروحي، وذلك لأن الغبطة هي حقيقة الروح ونهاية الثنائية والكثرة وتحقيق الوحدة. فالروح تحيا في عالم الغبطة الدالة على الانتصار على الشدائد والخلاص من تجزئة الكيان. وتعد أحلام الطيران انعتاقاً من قيود الجسد المادي، وحرية للجسد الروحاني وتسامياً في عالم اللامكان واللازمان. أما رؤى الملائكة الذين هم حاملو النور، وهي ذروة التجربة الروحية، أو رؤى كبار الحكماء، فلا تتم إلا لمن تفوَّق على كثافة الوجود المادي وحقق البصيرة الداخلية.
تترك هذه الأنواع من الأحلام أثراً عميقاً في الإنسان يذكره ما دام حياً في عالم الزمان والمكان. ويستولي عليه شعور من الفرح والغبطة كلما تذكرها أو تحدث عنها. ويشعر أنها حديثة العهد وأن الزمان والمكان لا يشكلان وجوداً حقيقياً.
المصدر :maaber
بارك الله بكِ غاليتي مونيانا
دمتي بخير