- ترى ما الجديد في الأمر؟
- الله.. أطيب قهوة تذوقتها في حياتي.
- رد الجميع: فيها العافية يا ست الكل..
- ردت ابنتها:
- أريد عروساً حلوة.. أريد بنت الحلال يا أمي..
انه يومها نعم يومك ياأمي الغالية
صباح مشرق كعادته يوم الإجازة.. وإن لم يكن مشرقاً فهو يبعث في النفس الإشراقة والمتعة..
لا عمل اليوم... استيقظت متأخرة عَلّها تعوض بعضاً من النوم الذي افتقدته خلال أسبوع عمل متواصل...
حركة غير عادية في المنزل، أصوات لم تتعود سماعها في مثل هذا الوقت.. كيف استيقظ أولادها دون أن توقظهم كعادتها كل صباح؟ تمطت، رفعت غطاء السرير، قامت وما يزال الإرهاق يشدها إليه ثانية.. إنها تحتاج إلى راحة طويلة!!
فتحت باب غرفتها فلاحت لها وجوه حبيبة مشرقة تقف خلف الباب.. كأنها في انتظارها..
- صباح الخير يا أجل وأرق أم في الدنيا..
عقدت المفاجأة لسانها، فلم ترد عليهم صباحهم الرقيق.. سألتهم:ما الذي أيقظكم باكراً؟ ولماذا تقفون جميعاً خلف الباب؟..
قالوا مجتمعين: لنقول لك: صباح الخير..
انهالت على يديها ووجنتيها قبلات حارة صادقة.. ولهجت ألسنة أولادها بالدعاء لها والسؤال عن صحتها وراحتها.. مشاعر فيّاضة لم تعهدها متجمعة محتشدة بهذا الشكل من قبل!!
ترى ما الجديد في الأمر؟
رائحة القهوة تنبعث من غرفة الجلوس... مَنْ يُتقن إعداد القهوة غيرها في هذا البيت؟ غير معقول!! أغلقت عينيها ثم فتحتهما تكاد لا تصدق.. إنه زوجها يحمل صينية القهوة ويتقدم منها.. ينحني بأدب رفيع.. يقدم إليها القهوة مع ابتسامة رقيقة وعبارات مُعَطَََّّرة قائلاً:
تناولت فنجانها على استحياء.. كلماته العذبة عطرت مذاق القهوة فاحتست معها شذا الفل وأريج الياسمين.. قالت:
الله.. أطيب قهوة تذوقتها في حياتي.
رد الجميع: فيها العافية يا ست الكل..
عبارات حلوة.. أشهى من الشهد وأطيب من الحلوى.. وهنا تذكرت طعام الإفطار الذي يجب أن تعده لهم.. كادت فرحتها بمشاعرهم الفياضة أن تنسيها واجباتها اليومية.. أسرعت إلى المطبخ.. غير معقول.. طعام الإفطار جاهز!! إنه يوم المفاجآت!!
أسرع الأولاد يحملون الطعام إلى المائدة.. خفة ونشاط وهمة لم تعهدها في أولادها من قبل!! تذكرت صباحها كل يوم.. حين توقظهم وتعد لهم شطائر المدرسة الساخنة وحليب الصباح مع العسل.. كم كانت تتلهف لمساعدة أحدهم.. أو لسؤاله إن كانت تحتاج إلى مساعدة!! آلمتها المقارنة بين الأمس واليوم.. ولكن ما عليها!! إنهم اليوم مختلفون.. ربما سيبدأ أولادها عهداً جديداً طالما تمنته!!..
قبلتهم جميعاً.. شكرتهم بحرارة.. إفطار لذيذ، واجتماع حلو ينسيها مرارة أيام الأسبوع كله.. سألتهم برفق:
- ماذا تحبون أن اعد لكم على الغذاء ؟ أنا مستعدة اليوم لكل طلباتكم يا أحبابي..
وحين بدأ أولادها يصنفون ألذ أنواع الطعام لديهم حسم والدهم الموقف وقال:
- لا .. لن تطبخي اليوم.. سأحضر لكم طعاماً من السوق.. دعوني اليوم أختار لكم طعامكم.
يا لها من مفاجأة سعيدة.. سبحان مغير الأحوال!! تذكرت يوم الجمعة الماضي حين طلبت منهم أن تجعله إجازة مفتوحة من أعباء المطبخ فرفضوا قائلين:
- نحن ننتظر إجازتك بفارغ الصبر لنملأ بطوننا بطعامك الشهي وأكلاتك اللذيذة. إنه حقهم، وإنه من واجبها أن تقضي إجازتها تعد لهم أشهى الأصناف.. كيف يتخلون اليوم عن حقهم المشروع؟..
آلمتها المقارنة من جديد!! كيف أدركوا اليوم أن من حقها أن ترتاح؟ ولكن ما عليها.. إنها سعيدة بهذا الإدراك الجديد.. أنه ما كانت تتمنى منذ زمن بعيد.. قالت في سرها:
لا بد أنهم كبروا ونضجوا.. لابد أنهم أحسوا هول معاناتي وجسيم عطائي..
اليوم تشعر أنها قوية فتية.. تستطيع أن تستمر في مشوار عطائها وأن تتابع المسيرة دون توقف!! لمست ساعدها فأحست فيه قوة جديدة.. كيف كان تشكو منه ألماً أرَّق عليها مضجعها ليلة أمس؟
أسرعت إلى الحمام.. قليل من الحناء تنشط فروة الرأس.. وتمحو آثار سنوات مضت..
طرقات أولادها المتتابعة بين دقيقة وأخرى أقلقت راحتها!! سألتهم:- ماذا دهاكم ؟ لم تطرقون باب الحمام كل دقيقة؟..
ردت ابنتها:
- نسألك إن كنت ستحتاجين شيئاً!! هل أُدّلِّك لك رأسك؟ هل أغسله عنك؟..
سؤال غريب لم تعهده من قبل!! كم تمنت يوماً لو يسألها أحدهم هذا السؤال!! كانت أحياناً تشعر بحاجاتها الماسة إليهم.. تناديهم.. ولا أحد يجيب!! لقد عودوها أن تعتمد على نفسها في كل أمورها.. وعودتهم أن يعتمدوا عليها في كل صغيرة أو كبيرة.. لقد بذلت نفسها لتعطي الجميع.. وألا تأخذ من أحد حتى القليل.. أن تذكر الجميع.. وألا يتذكرها أحد!! آلمتها المقارنة من جديد! ولكن ما عليها اليوم.. إنهم يذكرونها في كل دقيقة، ويشاركونها يومها المشرق هذا..
حاولت أن تجد تفسيراً لتساؤلاتها!! حاولت أن تقنع نفسها بإجابة مُرضية تُسعد قلبها وتحقق أملها المنشود فيهم...
- الحمد لله.. لقد كبروا ونضجوا.. ربما حان وقت عطائهم!! لون شعرها المتألق مع بريق السعادة في عينيها المتعبتين أعادها إلى شرخ الصبا من جديد.. فجأة تذكرت...
يا إلهي إنها ما تزال تعمل منذ عشرين سنة.. لم تجمع ثروة.. ثروتها هم أولادها.. هم كل رصيدها في هذه الحياة!! لم تحرمهم يوماً شيئاً تمنوه.. ولم تمنعهم شيئاً تستطيع أن تقدمه لهم.. إنها تعمل من أجلهم!! تذكرت طلباتهم حين كانوا صغاراً.. كان أقصى ما يتمنوه لعبة جديدة.. أو حلوى لذيذة.. أما اليوم فمن كان منهم يطلب سيارة لعبة صار يطلبها حقيقة ومن نوع مميز يعجبه.. ومن كان منهم يطلب دمية متحركة.. صار يطلب عروساً تعمل بتحكم الزوجية!! ضحكت من أعماقها حين تذكرت طلب ولدها الكبير:
أريد عروساً حلوة.. أريد بنت الحلال يا أمي..
لن تتوقف عن العطاء.. سوف تعمل على تلبية كل طلباتهم.. يكفي زوجها أن يطعم أفواههم الجائعة.. وأن يكسو أجسادهم الفتية، وأن يعلمهم ويلبي حاجاتهم المدرسية..
نظرت إليهم وهم يلتهمون طعام السوق بشهية.. سألت نفسها بدهشة: كيف يستسيغونه اليوم؟ كيف لا يقولون لها كعادتهم: طبخك ألذ؟! وأشياء غريبة تدور اليوم في المنزل!! همسات رقيقة خافتة.. نظرات حانية.. قبلات سخية من الجميع.. ماذا دهاهم اليوم!! لابدّ أنها تحلم..
أخذت قيلولتها دون أن يترامى إلى سمعها صراخ صغارها وأصوات معاركهم المستمرة، وقالت في سرها:
- يا أحبابي.. لقد أصبحتم كباراً.. بدأتم تشعرون أنني بأشد الحاجة إلى الراحة.
وفي المساء، تحلق الجميع حولها، أحاطوها بحبهم الزائد وغمروها برعايتهم الفريدة.. قالت لهم:
- يكفيني حباً ودلالاً.. وهيا إلى دروسكم وواجباتكم المدرسية!
وكم كانت دهشتها عظيمة حين أقسموا أنهم انتهوا من كل واجباتهم ليلة أمس.. إنها تكاد لا تصدق!! يا له من تقدم رائع كانت تتمناه وترجوه منذ زمن طويل..
مضى يومها هذا سريعاً.. تمنت لو لم يأت الليل.. خشيت أن تستيقظ صباح اليوم التالي على حقيقة مرة!!
اقترب منها ولدها الكبير.. قَبّل رأسها ويديها.. انحنى مع أخوته نحو قدميها.. لا.. لا.. معاذ الله.. منعتهم.. رفعت رؤوسهم عالياً.. قبلتهم ولكن ما تزال نظرات التساؤل والدهشة توزعها بينهم!! قال ولدها وهو يقدم لها علبة صغيرة أنيقة:
هدية رمزية يا أمي.. اشتركنا جميعاً لنقدمها لك عربون حب وعرفان..
تلعثمت!! ارتبكت.. كأنها عروس يفاجئها زوجها بهدية الزفاف.. سألتهم:- ولكن ما المناسبة؟.. أجابوا فرحين..
- إنه يوم الأم.. إنه يومك يا أغلى أم...
عقدت لسانها المفاجأة.. لم تشكرهم على هديتهم كما هي الأصول وكما يقتضي الواجب !! لم تفرح.. لم تبتسم.. تجمدت ملامح وجهها، قَلبَّت عينيها بينهم، ثم بكت.. بكت بحرقة..
لم تكن دموعها دموع سعادة، وقد حسبها الجميع من حولها كذلك!! تألمت كما لم تتألم من قبل.. بكت كما لم تبك من قبل.. إنها دموع الخيبة والألم!! لقد خاب ظنها في أولادها..
هل يكفيني منكم يوم واحد في السنة!! أرجوكم.. لا تستوردوا بركم من عادات الغرب الغريبة.. لا تقلدوا من ضلّ الطريق!! مسح الجميع دموعها السخية.. والتي ما عرفوا حقيقتها!! غمروها بقبلاتهم ودموع عرفانهم..
أشرق صباح جديد.. وبدأ يوم عمل جديد.. البيت ساكن هادئ.. الجميع ينام.. عليها أن توقظهم.. أن تعد ملابسهم المدرسية... أن تُحَضِّر لهم شطائر المدرسة الساخنة، والحليب الممزوج بالعسل، سوف تنسى شطيرتها كالعادة.. عليها أن تنسى نفسها في زحمة الواجبات والأعباء.. عليها أن تعطيهم جميعاً.. عليها أن تستمر في العطاء إلى ما شاء الله!!!
لقد تعايشت مع القصة ورأيت نفسي في المستقبل وأولادي يحيطون بي .. ولكن الظاهر أن الزمن الذي نعيشه تغلب عليه العادات والتقاليد الغريبة .. وينسون تعاليم الاسلام وصلة الرحم ..
اللهم بارك لنا في أولادنا واجعلهم من الذرية الصالحة ومن حفظة القرآن ومن الهداة المهتدين وليس من الضالين المضلين ..
تسلمين حبيبتي على القصة الجميلة ..