- ما أصعب أن يبخل عليك طفل بابتسامة ! .
- تابعت القول وأنا أشدد على العبارات :
في مركز لتحفيظ القرآن , كانت تجلس صامتة , وكأن الهدوء أخذ قدسيته وجلاله من عينيها .
حزينة ذابلة , كوردة خريفية تلوح من خلف ضباب الثلج ...
ستة أيام وأنا أراها وحيدة منفردة كشجرة صحراء , متخذة لها زاوية بعيدة , أضحت كأنها موقعة الملكية باسمها .
لم تكن منسجمة مع أندادها ولم أرها يوما ً تلعب مع أطفال المركز ! ..
إنها طالبة صغيرة تدرس تحت يدي , في الحادية عشر من عمرها , تردد خلفي الآيات بصوت خفيض كأنه قادم من آبار سحيقة في القدم ..
وككل يوم : تلتقي عيناي بعينيها فأبتسم , غير أن شفتيها مستكينتان لم تنفرج ............ ولا عن شبه ابتسامة .
وأصر أنا : أن يكون هذا اليوم مختلفا ً , فأحصل على ابتسامتها ؛ فرسمت ابتسامة عريضة على شفتي وانتظرت .... دون فائدة.
فوسعت بعناد من ابتسامتي حتى أصبحت عيناي تشعان بالإصرار , محفزة ً إياها على التجاوب معي . تتعلق عينا سارة بي , بحيادية صامتة تبدو متعمدة , وأيضا ً لا تبتسم .
سارة أرجوك ابتسمي , تجاوبي معي , ماذا تخبئين خلف هذه الملامح , التي تصر أن تكون غير شفافة ؟! .
وتتابع سارة ترديد الآيات بشفتين باردتين خلفي ,وعيون مطفئة تتعلق بعيني ..
ما أصعب أن يبخل عليك طفل بابتسامة ! .
فأزيح نظري مضطرة عنها , لأوزع نظراتي على الفتيات الأخريات , و اللاتي يجلسن على الأرض حولي ,في حلقة شبه مستديرة ؛ كنوع من العدالة التعليمية والإنسانية , وفي قلبي غصة : من حزن سارة المستديم منذ أن رأيتها ..
هنا ( فاطمة ) الصغيرة السمراء بعيونها السوداء الذكية اللامعة , وشعرها البني .
وهذه ( رناد )الفتاة الأكثر شغبا ً وحديثا ً في الحلقة ,والتي تسليني مبددة مللي حينا ً , وحينا ً تثير غضبي الصامت ..
وتجلس عن يميني (وحيدة) الفتاة الأكثر حفظا ً والأتقن تجويدا ً, صاحبة الاسم الذي لفت انتباهي وشغفي , وذات البشرة السوداء ..
عن يساري كانت جميلة المحيا ( عنود ) من أبرأ من خلق الله , وأجمل من برأ الله , آية في الجمال سبحان الله .
فتيات صغيرات متقاربات في العمر , كل واحدة منهن تحاول أن تستأثر بانتباهي ومدحي ..
سعيدات ولطيفات وذكيات المحيا والعقل . ولديهن قصصهن الخاصة , التي يردن أن يحكينها باستمرار لي ..
وكما يأخذن الأطفال ما يشاؤون منا : حصلن هن على حبي ورغبتي في تعليمهن ....أفضل ما عندي .
وكان هذا هو اليوم السادس من بداية رحلتي معهن في حلقة ( عائشة بنت أبي بكر ) رضي الله عنها , وكنت عرفت تقريبا ً تركيبة الشخصيات الماثلة أمامي ومعادنهن ,إلا هذه السارة كانت لغز هذا الصيف الذي يثير فضولي ..
لم تكن تبتسم , كانت تتفاعل _اجتماعيا _ بالقدر الذي يوقف فقط : إلحاحي عليها .. كما يقول المثل ( كلمة ورد غطاها ! ) ..
لم تكن لديها قصة لتحكيها , ولا كانت تحاول أن تثير إعجابي ولا أن تحصل على حبي , على الأقل هذا ما كنت أراه وأشعر به ..
من الناحية التعليمية كانت الفتاة ممتازة جدا ً ولديها مداخلتها الذاتية الجيدة , وكانت لديها هواياتها الخاصة التي تبرز في فسحة الترفيه : ترسم , وتخط بخط ممتاز , والأجمل بالنسبة لي : تكتب بتعبير متدفق الشعور والمعرفة .
لكن كانت مشكلتها في التفاعل مع المجموعة , لم تكن اجتماعية .
في هذا اليوم أنهيت درس القرآن بسرعة نسبية , بعد أن قررت أن أعرف ولو قليلا ً من قصة هذه السارة ..
وختمت الدرس بقولي : ما رأيكن اليوم أن نصنع شيئا ً مختلفا ً ؟ ..
وتعلقت العيون متحفزة بي ..
فقلت : كل واحدة , أريدها أن تخبرني عن أجمل موقف مر بحياتها ؟ ..
فبدأت الصغيرات بالتدافع مرة واحدة , وبصوت واحد يحكين قصصا ً مختلفة !.
فوضعت يداي على أذني وأغمضت عيناي, وعندها توقفت الفتيات بدهشة , من تصرف بدا لهن غير معتاد من معلمة , وربما غير لائق ! .
ضحكت وأنا أقول : لدي أذنان فقط , وهي لا تستطيع سوى سماع قصة واحدة , كل مرة .. فابتسمن .
نبدأ من اليمين رجاء ً , وصنعت بحركة من كفي وأصابعي : مايكرفونا ً , وابتسمت وأنا أضع كفي أمام فم ( وحيدة ) .. لينفجر الصغيرات بالضحك .
فحكت لي وهي تضحك بأسنان بيضاء كالثلج : أنها يوما كانت تقف أمام محل تجاري , رأت في واجهته الزجاجية فستانا ً أعجبها جدا ً , فركضت تسبق أمها في اتجاه الباب , وهي تلتفت قائلة : ماما , هنا فستان أريده ..
وهي تركض بسرعة تجاه الباب الزجاجي الذي يفتح ( أوتوماتك ) ...... طراخ , ثم ارتداد عنيف ناحية الخلف ! ..
كان باب المحل مغلق للصلاة ..
وضحكنا جميعا ً .......... إلا سارة ابتسمت باقتضاب , كانت لهذه الطفلة _ دائما ً _ ردة الفعل الأهدى والأقل تفاعلا ً !.
ومضت القصص المضحكة تُحكى مرة تلو الأخرى , وأنا أضحك بقلب مشغول ! أنتظر دور سارة ..
و توقف الزمن لوهلة متعلقا ً بحنجرة سارة ..
وبلعت غصة تعلقت بحلقي , كان يبدو أنها لن تحكي , أو أن ليس لديها ما تحكيه .
وفكرت بسرعة هائلة : إذا كنت الآن , قد وضعت نفسي في موقف تعليمي تربوي سيء , أمام الصغيرات , فهل أنا قادرة على مواجهة التحدي بأقل حجم من الخسائر ! مع سارة لم أكن أفكر في النصر , بل بأقل الخسائر فقط ..
وهمس صوت داخلي : أرجوك سارة لا تخيبي ظني .
وقالت الصغيرات بصوت بدا لي أنه خالي من الرحمة : بسرعة يا سارة قولي لا تطفشينا , وإلا خلي عنود تقول .
وقلت بصوت خرج بالكاد يسمع : دعوها تأخذ راحتها .
وتقلص الوجه المهيب , وتحركت الشفتان الورديتان قائلة : ليس لدي موقف سعيد ..
وقالت الصغيرات بسرعة : يلا يا عنود ! .. متجاهلات لسارة ..
آوه تعرفون هذه القسوة الطفولية ! بالتأكيد تعرفونها , ولابد أنها مرت بكم يوما ً ..
هذا الإنسان الطفولي الهمجي قبل أن تعلمه الحياة , وترقق قلبه الحوادث ..
ذلك الطفل المنطلق الواضح الصريح في مواقفه والذي لا يجامل,يتعاون مع فريق من الأطفال _ في لحظة _ للمتعة فقط , ويسحق الآخرين في لحظات بأنانيته دون مبرر..... للمتعة أيضا ً, مقررا ً أن تبقى ألعابه له وحده , دون أن نستطيع تأنيبه , لأنه غير قادر على الشعور أو الفهم.
وأوقفت الصغيرات بنظرة من عيني وأنا أقول : دعونا نسمع من سارة .. وهمهمت الصغيرات بصوت غير راضي .
سارة تقولين ليس لدي موقف سعيد ) , من فضلك .. دعيني أفهم قليلا ً , أنت تقصدين : أنا لا أتذكر أي موقف سعيد لي . وهذا يختلف عن ليس لدي موقف سعيد .... وأنا أحاول تبسيط وتفسير فكرتي بمنطقهن الطفولي , قاطعتني سارة وهي تركز عينيها في عيني : أقصد ب (ليس لدي موقف سعيد ), أي : (لم يحدث لي يوما ً موقفا ًسعيدا ً ) ..
ولمحت فراغا ً هائلا ً في عيني سارة , وشعرت أنها أذكى مما تصورت , وتفهم أبعد مما يليق بطفولتها ! ..
وكنت أريد منها أن تقول كل شيء غير هذا ..
فأنزلت عينيَ مفكرة : ( كيف أتحاور مع هذه الطفولة , دون أن أجرح اعتزازها بذاتها ؟), ثم عدت ورفعتهما تجاه وجه سارة ناسية ً كل من حولنا .
وأنا أتأملها لاح لي أنها تشبهني كثيرا ً عندما كنت في مثل عمرها , وذهلت كيف لم أكتشف هذا الشبه طوال هذه الأيام الستة .
وأخيرا ً شعرت بها تتحدث بلسان طفولتي , عندما حدث لي موقف مشابه مع معلمتي لمادة التاريخ (سميرة ) , وتذكرت شعوري وأنا أهمس لتلك المعلمة بعيني , وفي أعماقي أتوسل دون أن أتكلم : (أبلة سميرة : أنا وأنت فقط نعرف ما يسكن الأعماق , ولدينا أنفسا ً شاعرية, أكثر ممن يجلسون هنا في صفنا الدراسي , لا تخاطبيني_ رجاء ً _ مثلهن , ولا تخاطبيني أمامهن بشيء قد يكشف لهن سريرتي) .
فابتسمت لسارة _ متأكدة أنها ابتسامة بروح ميتة _ وقلت : ( كنت في مثل عمرك ,وكنت حزينة جدا ً , بحيث أنني لم أستطع تذكر أي موقف سعيد وأنا أفكر في حياتي ) ..... فترة صمت لأرى ردة فعلها , وكانت تستمع , فواصلت :
( كنت غاضبة وأنا أشاهد نصف الكوب الفارغ فقط , وكنت أرى أن الحياة ظالمة , والبشر أكثر قسوة من أن يفهمونني أو يشعرون بي , وفي يوم قالت لي معلمة التاريخ الحكيمة : عندما تكبرين يا "أبرار" ستجدين كل هذه المواقف البائسة التي حدثت لك :مضحكة جدا ً , وأنت تتذكرينها .. ) . ولمعت عينا سارة غير مصدقة , فتأكدت أنها تفهمني ..
تابعت القول وأنا أشدد على العبارات :
(في ذلك الوقت يا سارتي : شعرت أن معلمتي مضحكة وقاسية ولا تفهمني , كما كل الناس الذين يحيطون بي , وأن تنبئها لن يحدث مطلقا ً ! كان الماضي أسودا ً وخانقا ً ولا تلوح منه شارة ضوء ! أما اليوم وقد مضت سنوات كثيرة , فأنا أضحك من مواقفي المحزنة تلك ).
و استرخت تقاسيم وجه سارة ..
( ليس هذا فقط يا سارة , بل أصبحت أجعل من كل موقف مؤلم يحدث لي : موقف مضحك منذ اللحظة التي يحدث فيها , وعرفت أن السعادة تنبع من الداخل , عندما أريد أن أكون سعيدة فلن يمنعني أي بشري أو موقف ) .
وضعت يدي على قلب سارة وقلت : ( أريدك أن تتذكري دائما , أن السعادة تنبع من قلبك يا صغيرتي , أميرتي الرقيقة جدا ً ) ..
ولوهلتين نظرنا لبعضنا البعض ثم ابتسمت لسارة , لطفولتها , لوجهها الصغير , لقلبها .... بالتأكيد هي لم تبتسم .
ولكن فكرت أن هذا ليس مهما ,إذا كان ما قلته قد يحدث فرقا ً , كما فعلت لي يوما معلمتي !.
وقلت وأنا ألتفت للفتاة التي بجوارها :الآن دورك عنود .
منقول
بنوته كول
يعطيك الف عافية اختى الغالية