zahya
16-01-2022 - 05:39 pm
سنوات ثلاث مرَّت طويلة ..بطيئة تضطرم حرقًا, وأرقًا ,ماخمد لهيبها في صدرها هنيهة, ولاأقل من ذلك ولاأكثر, حتى في تلك اللحظات الشاحبة التي يواجه فيها اليوم أصعب الأوقات حسرة وقلقا, يحتاج فيها لشفقةٍ حُرِمتْها منه بقسوة مفرطة طوال حياتها معه.. كتمثال حجري وقفتْ يسار السرير الذي تمدد فوقه شبه جثة هامدة , تنظر إليه وعيناه تستجديان من عينيها نظرة سماح ,تخرج بها روحه مطمئنة ,لكنَّها تأبى بصمتها الحارق أن تهب له هذه النظرة التي هي بالنسبة له الأمل الأخير بتحقيق أمنية ,فتعمَّدت كلَّما التقت عيناهما أن تطبق جفونها برعونة تعلمتها منه عندما كان قويًا يذيقها الويل دونما رحمة, حين كانت ضعيفة لا تستطيع ردَّ الجور عنها.. جبانة غير قادرة على مواجهة ذاتها بهمِّها وشقائها معه مادامت تحبه, وتقدس التراب الذي يمشي فوقه ..تتوجع بسرها كل يوم ..تموت وتولد في الثانية الواحدة عشرات المرات,وفمها مطبق تلوب فيه الكلمات ..تجف.تصدأ ..تتدبب جوانبها,فتبتلعها بغصَّة تخنقها,ودمعها جامد بين أجفانها المرهقة ينتظر فرجًا عابرًا دافئ الصدرِ فينهمربلهفة تزيح بها عن قلبها كربة, ولكن من أين يأتيها الفرج, وقد سُدَّت حولها الطرقات ؟..الحب عندها يعني الصبر ..التحمل ,الصمت والرضا .. يعني عدم الاحتجاج على ما تتجرعه بكأس غرامها من ذلٍ وهوان ..من حرقة وحرمان .. الحب كما يقول هو عذاب ومرار , ومن لا يصبر على ناره وأشواكه هو في اعتقاده ليس محبًا ,وهي عاشقة حتى الثمالة ,فكيف تخالف مبادئ حبيبها! الذي تركت لأجله الدنيا كلها وتزوجته..ولمَ لا تترك الحياة برمَّتها وقد سحرها بكلِّ شيء فيه ..وسامته الخارقة ..أدبه الجم ..مركزه الاجتماعي المرموق ..رجولته اللافتة وزرقة عينيه التي غرقت في بحرهما حتى القاع..كلماته التي حلَّقت بها في الفضاء على متن الهوى , فصدَّقت أنها وليفة نسر ؟!حبَّها له قيَّد قواها بسلسلة أحاطت عنقها قيدًا أحكم إقفاله بمفتاح الغرام, وألقى به من برجه العاجي في مزابل الجحود..هكذا كانت صخرة صامدة تقف بوجه الريح والموج , والعواصف التي تضرب قلعة حبها كل يوم بكل الاتجاهات,ولاتكل ولاتمل من الصبر, ولا يزدادُ قلبها إلا نبضًا بحبه,وتفانيًا بخدمته ,والسهر على رعاية شؤونه .كانت تنسى تعب يومها كله عندما تسمع صوت مفاتيحه المتراقصة بين أصابعه ,وقد تدلت من حمالة ذهبية أُهديتْ له في عيد ميلاده من مجهول رفض البوح باسمه , فتهرع لاستقباله وهي بكامل زينتها ..صدقته فكلام الحبيب مقدس لايحتمل المناقشة ولامثقال ذرة من ريبة.. إلى أن رأته ذات مساء مصادفة مع امرأة ثانية ..عيناه في عينيها ..كفاه في كفيها ..أحست بشي ما في صدرها يُقتلع بقسوة رهيبة ..يفرُّ بكل المشاعر الدافئة والعواطف النبيلة والأحاسيس الجميلة , فيسقط في هوة سحيقة لاأمل للنجاة منها , يتصاعد منها دخان أسود لزج تستنشقه بملء رئتيها كرهًا ,كيف حصل ذلك لاتدري , ولكنها صدقت إحساسها تجاهه عندما صدقها الشعور ..حتى ملامحه تبدلت عما ألفتها سابقًا..كانت تراه جميلا..وسيما ..رائعا حتى أنها من كثرة النظر في وجهه حاضرًا , وتجليه بخيالها غائبًا, جعلها تنجب منه طفلين على صورته.. أحبتهما حب الأمومة, وحب الشبه من الحبيب, واليوم أصبحت لاتطيق النظر في وجهيهما, أضاف إليها ألمًا آخر في نبض أمومتها, يالقسوته ما أشدَّ بطشه بها!
وعندما أخبروها أنه يطلبها في المستشفى ,وهو في سكرات الموت إثر حادث مؤلم ..ارتدت ملابسها بهدوء تام , وخرجت إليه كأن شيئًا لم يكن ..انفردت به ..نظر إليها برجاء يسألها بعينيه المتورمتين العفو والغفران ,ظلَّتْ شفتاها مزمومتين, تحيطهما أخاديد مظلمة نحتها الزمن بكف الحزن حول فمها.. بينما عيناها تخترقان جدار اللحظة إلى البعيد..تسمع نشيج الحرمان يتفجر صورا قاتمة, رسمتها ريشة ظلمه بالدمع والآه والحرقة ,وعلقتها في ذاكرة هيجتها تداعيات الموقف, وهي تقف معه موقف المواجهة عند حاجة القاتل للقتيل ...تنقبض يداها بشدة , وهما تعبثان بحقيبتها السوداء, التي التصقت ببطنها كطفل صغير, ينكمش في حضن أمه هربًا من يدٍ تمتد لتصفعه ..يرتفع صوت أنفاسه يصلها متعبًا..يناديها بتقطع الزفير والشهيق .. تعاود النظر إليه , ودموعه تتدحرج فوق خديه, وصدره يعلو ويهبط بشدة ..فهمت لغة الأنفاس اللاهثة..تذكرت قطتها البيضاء وهي تحتضر ذات مساء ..كانت مولعة بها جدًا..تسقط من عينها دمعة..
تنفرج أساريره..
القطة تموت وهي تحاول إنقاذها ..
يزداد صوت شهيقه وزفيره ارتفاعا ..
تلتفتُ إليه..
تتسع مساحة ابتسامته فوق شفتيه المرتجفتين..
تموت القطة ..
تنهمر الدموع من عينيها أغزر..
ينخفض صوت الأنفاس في صدره وتبدأ بالهدوء..
تقترب منه ..تتناول منديلا ورقيًا من جيبها ..تمتد يدها المرتجفة بالذكريات نحو عينيه ..تمسح بها دموعه المتساقطة على جانبي وجهه..
بقلم
بنت البحر
يكفيكم فخرًا فأحمد منكم***وكفى به نسبًا لعزِّ المؤمن