- أخواتي الفراشات هذه قصة ابن عاق لوالديه يحكيها الأستاذ علي الطنطاوي
- فقال:
- فبدأ الرجل يحكي ماساته المريرة قائلا:
- فقلت لها بغضب : ولم لا ؟!!... وهل يترفع احد عن مهنة أبيه؟!!...
- ثم تطور الأمر ... فصار ولدي يطلب مئة ليرة !!...
- وزاد به الأمر آخر مرة فطلب أن نرسل له ثلاثمائة ليرة !!...
أخواتي الفراشات هذه قصة ابن عاق لوالديه يحكيها الأستاذ علي الطنطاوي
فقال:
كنت جالسا في المحكمة التي اعمل فيها ... فدخل علي رجل كبير السن ...يسحب رجليه سحبا ... ولا يستطيع أن يمشى من الكبر والضعف... فسلم علي ثم قال: أريدك أن تسمع قصتي... ثم تحكم لي على من ظلمني ... فقلت له: اجلس... وأنا كلي آذان صاغية لك....
فبدأ الرجل يحكي ماساته المريرة قائلا:
كنت في شبابي رجلا مستورا ... أغدو من بيتي في حارة(كذا) على دكاني التي أبيع فيها الفجل والباذنجان والعنب وسائر الخضروات والثمار ... فاربح في يومي قروشا معدودات فاشتري بها خبزا ولحما ... وآخذ ماتبقى من الخضروات عندي في المحل ... فتطبخه زوجتي طعاما لي ولها... ولم يكن لنا آنذاك أولاد... فكنا نأكل هذا الطعام البسيط المتواضع... وننام حامدين ربنا على نعمائه وفضله ... ولا نطلب من احد شيئا... ولا احد يطلب منا شيئا...
ولم أكن متعلما ولا قعدت في مدرسة قط... ولكني كنت اعرف أصلي فرضي... واحسب دراهمي ...
ولقد عشت هذا العمر كله... ولم أغش ولم اسرق ولم اربح إلى الربح الحلال ... وما كان ينغص علي حياتي إلا انه ليس عندي ولد يملأ علي حياتي سعادة وبهجة ... فألاعبه وأداعبه كلما عدت من دكاني ...وسلمت أمري إلى ربي... واستسلمت لقضائه ...
وسارت الأيام على هذه الوتيرة الهادئة الرتيبة...
وفي يوم من الأيام ... حلت الفرحة العارمة بيتنا !!...
لقد حملت زوجتي بمولود ... فحمدت الله كثيرا ... على أن عوضنا عن صبرنا الطويل بهذا المولود...
وصرت ادلل زوجتي الحامل ... وأقوم عنها بكثير من أشغال البيت ... خشية أن يسقط حملها بسبب التعب أو الإرهاق...
وصرت أنا وزوجتي نعد الساعات والأيام... انتظار لساعة الولادة السعيدة المرتقبة... حتى كانت ليله المخاض ... فسهرت الليل كله ارقب وصول المولود الجديد... فلما انبلج الفجر سمعت الضجة ... وقالت " أم عبد النافع " وهي القابلة التي تولد النساء في حارتنا: البشارة... لقد جاءك صبي ..!!
كانت الأرض لا تكاد تسعني من شدة الفرح بهذا المولود الجديد ... اعتنيت أنا وأمه به وبتربيته ... وقلبناه في فراش الدلال والنعيم ... فإن ضحك ضحكت لنا الحياة ... وان بكى تزلزلت لبكائه الدار... وان مرض اسودت أيامنا وتنغصت عيشتنا ...
وكان كلما نما وشب قليلا قليلا ... كان ذلك لنا كالعيد ... وكلما نطق بكلمة جدت لنا فرحة ... وصار إن طلب شيئا بذلنا في إجابة طلبه... وبلغ صبينا الوحيد سن المدرسة .. فقالت أمه : إن الولد قد كبر ... فماذا نصنع به ؟!!..
فقلت لها : آخذه إلى دكاني ... فيتسلى ويتعلم الصنعة ... لتنفعه في مستقبل حياته ... وما يستقبل من عمره ...
فقالت لي: أتريد أن يكون خضريا ؟!!..
فقلت لها بغضب : ولم لا ؟!!... وهل يترفع احد عن مهنة أبيه؟!!...
فقالت : لا والله لايكون هذا أبدا ... بل لابد أن ندخله المدرسة مثل ابن جارنا... أريد ابني أن يصير " موظفا " في الحكومة...
واصرت المرأه على رأيها هذا إصرارا عجيبا ... فسايرتها وأدخلته المدرسة ... وصرت اقتطع من طعامي وطعام زوجتي... لنوفر له مصاريف الدراسة وثمن الكتب ... فكان ولدنا هو الأول في صفه ... وأحبه معلموه وقدروه ...ونجح ولدي في الامتحانات ... ونال الشهادة الابتدائية ...
فقلت لها حينذاك:يا امرأة !! لقد نال إبراهيم الشهادة الابتدائية ... فحسبنا ذلك وحسبه ... وليدخل الدكان ... وليتعلم له حرفه ...
فقالت:يوه!!ويلي على الدكان...أضيع مستقبله ودراسته من اجل دكان خضروات ؟!!... لابد من إدخاله المدرسة الثانوية ...
فرفضتُ ذلك ... فأخذت تولول وتصيح ... وانقلب البيت إلى جحيم لا يطاق ... فاضطررت إلى الموافقة على دخوله للمرحلة الثانوية ...
وازدادت التكاليف ... وعظمت الأعباء ... وأنا صابر محتسب ... اكتم في صدري ولا أبوح لأحد بشيء منها ...
وبالفعل مرت سنوات ... و حصل ولدنا إبراهيم على الشهادة الثانوية ...
فقلت حينها : والآن هل بقي شيء ؟!!...
فقال الولد : نعم يا بابا ... أريد أن أسافر إلى أوروبا لأدرس الجامعة هناك !!...
فقلت:أوروبا ؟!! وما أوروبا هذه ؟!!...
فقال :إلى باريس لأدرس هناك ...
فقلت أعوذ بالله ...أتذهب إلى بلاد الكفار ...!!والله العظيم لا يكون هذا
أبدا مادمت حيا...!!
وأصررت على موقفي...وأصر ولدي على موقفه في السفر ...وناصرته أمه...
فلما رأتني لا الين ولا أرضخ لمطالبهم.......باعت سوارين وقرطين أعطيتهما
إياها ليله عرسنا.....وهما كل ماتملكه من حلي ومجوهرات احتفظت بها عدة
لنوائب الدهر.....
ودفعت ثمن تلك المجوهرات لولدها...... فسافر إلى فرنسا على الرغم مني.....
وغضبت على" إبراهيم " غضبا شديدا... وقاطعته مده... فلم أكن أجيب على رسائله التي كان يبعث بها إلينا من فرنسا...
ثم رق قلبي له وانت تعلم ما في قلب الوالد لولده الوحيد ؟!! وصرت أكاتبه وأساله عما يريد ... فكان دائما يطلب مني نقود ا... لتكون مصروفا له أثناء دراسته في فرنسا ... في البداية كان يقول: أرسل لي عشرين ليرة...ثلاثين ليرة ...
فكنت أبقى أنا وأمه ليالي بطولها على الخبز القفار ... لأجل توفير المبلغ الذي يطلبه ابننا ...
وكان رفاقه وزملاؤه الذين يدرسون معه ... يجيئون في إجازة الصيف إلى أهاليهم وذويهم ليزورونهم ... وكان هو لا يجيء ولا نراه ...
وكان يعتذر دائما عن عدم حضوره إلينا في إجازة الصيف ... بحجة كثرة الدروس والارتباطات الجامعية ... وبالتكاليف الباهضة لتذاكر السفر ...
ثم تطور الأمر ... فصار ولدي يطلب مئة ليرة !!...
وزاد به الأمر آخر مرة فطلب أن نرسل له ثلاثمائة ليرة !!...
تصور يا سيدي القاضي ... ثلاثمائة ليرة بالنسبة لخضري مثلي تجارته كلها لا يساوي ثمنها عشرين ليرة ... وربحها في اليوم الواحد أقل من الليرة !!... بل ياليت الربح يصل إلى الليرة ... فلقد كانت تلك الأيام أياما رخصت فيها الأسعار ... وقلت الأعمال .. فكتبت أليه أخبره بعجزي عن تدبير المال...ونصحته ألا يحاول تقليد رفاقه وزملائه ...
فإن أهلهم أثرياء موسرون ... ونحن فقراء على قدر حالنا ...
فكان جوابه على نصيحتي تلك برقية مستعجلة يطلب فيها إرسال المال إليه حالاَ وفي أسرع وقت ممكن ...
وأمام إلحاح الزوجة وضغطها المتواصل ... وعاطفة الأبوة والخوف على ولدي أن يكون في ورطة كبيرة ... ولا خلاص له منها إلا بالمال ...
تحت تأثير كل ذلك ... بعت داري التي أسكنها !!...
نعم !! لقد بعتها بنصف ثمنها ... لقد كانت تساوي أربعمائة ليرة ... فبعتها بمائتين لأجل عيون ولدي الحبيب ... واستدنت باقي الثلاثمائة من مراب يهودي دلوني عليه بربا تسعة قروش عن كل ليرة في الشهر ...
وبعثت إلى ولدي " إبراهيم " بالمال ... وأخبرته بأني قد أفلست تماما ...
وانقطعت رسائله عنا بالكلية ... من حين أخبرته بإفلاسي الكامل ...
ولم يجيب على سيل الرسائل التي بعثت بها إليه في فرنسا ...
ومر على سفره سبع سنين كوامل .. لم نر فيها وجهه أبدا ... وحاولنا أن نبحث له عن خبر ... فلم نفلح في ذلك ... فسلمنا أمرنا إلى الله ...
وبقيت بلا دار ... فاستأجرت غرفه صغيرة سكنت فيها أنا وزوجتي ...
ولاحقني المرابي اليهودي يطالبني بسداد دينه ...
فعجزت عن قضائه ... فأقام علي دعوى في المحكمة ...
وناصرته الحكومة علي ... لأنه أبرز لهم أوراقا لم أدري ما هي !!...
فسألوني: أأنت وضعت بصمتك في هذه الأوراق ؟!!...
فقلت : نعم !!...
فحكموا علي بأن أعطيه مايريد ... وإلا الحبس ينتظرني ...
وحبست يا سيدي بسبب ولدي الذي لم أرى وجهه منذ سبع سنوات ...
وبقيت زوجتي المسكينة لوحدها ... وما لها أحد إلى الله عز وجل ...
فاضطرت هي للعمل غسالة لملابس الناس ... وخادمه في البيوت ...
وشربت كأس الذل ... وتجرعت شراب المهانه في تلك البيوت ...
وخرجت من السجن بعد فترة تزيد على السنة ...
فقال لي رجل من جيراننا القدامى :يا أبا إبراهيم أما رأيت ولدك ؟!!...
فقلت له : بشرك الله بالخير !! أين هو ؟!!...
فقال مستغربا: ألا تدري يا رجل أين ولدك الآن ... أم أنك تتجاهل ؟!!...
هو الآن موظف كبير في الحكومة ... ويسكن مع زوجته الفرنسية ...دارا فخمة في الحي الجديد ...
في البداية ... لم أصدق ما قاله جارنا ... إذا كيف يعود ابني العزيز " إبراهيم " من سفره من فرنسا ... ثم لا يسأل عني ولا حتى عن أمه ...
ولكني كنت أثق بكلام جاري ... فما جربت عليه كذبا قط ...
فتحاملت على نفسي ... وأنا غير مصدق لما أسمع ...
وذهبت أنا وأمه إلى فلته الفخمة في الحي الجديد ... وما لنا أمنيه في هذه الحياة
إلى أن نعانقه كما كنا نعانقه وهو صغير ... ونضمه إلى صدورنا ونشبع قلوبنا منه بعد هذا الغياب الطويل ...
ولما قرعنا باب الفيلا الفخمة ... فتحة الباب لنا الخادمة...
فلما رأتنا بملابسنا المتواضعة ... اشمأزت من هيئتنا ... ثم قالت بتأفف :
ماذا تريدون ؟!!...
فقلنا : نريد إبراهيم !!...
فقالت : إن " البيك : لا يقابل الغرباء في داره ... اذهبا إلى مقر عمله وقابلاه هناك ... وطلبا منه ما تريدان ...
فقلت لها مغضبا: أنحن غرباء يا قليلة الأدب... أنا أبوه وهذه أمه ...
فسخرت الخادمة من كلامنا ... ولم تصدقنا ... فدخلنا معها في صياح ونقاش ...
وسمع " إبراهيم و زوجته " ضجتنا وصياحنا مع الخادمة ... فخرج مغضبا وهو يقول : ما هذا الصياح ؟!!... ولماذا كل هذا الضجيج ؟!!...
وخرجت وراءه زوجته الفرنسية ...
فلما رأته أمه أمامها بعد غيبة سبع سنين ... لم أتملك نفسها أن قالت : إبراهيم ولدي ... حبيبي !!...
ومدت يديها إليه و همت بإلقاء نفسها عليها والارتماء في أحضانه ...
ولكنه بكل أسف ... ابتعد عنها ونفض مامسته يداها من ثوبه الأنيق ...
وقال لزوجته : هؤلاء مجرد مجانين !!...
ثم أعطانا ظهره واستدار عائداً إلى داخل الفيلا ... وأمر الخادمة أن تطردنا من الباب ...
فطردتنا الخادمة شر طردة من بيت ولدنا الذي ضحينا من أجله بكل شيء ...
أصابتني وأمه صدمة كبيرة على إثر هذا الموقف المأساوي ...
أهكذا ياإبراهيم تفعل بوالديك ؟!!...كم ليلة سهرنا لتنام ؟!!...
وجعنا لتشبع ؟!!... وتعرينا لتلبس ؟!!... وبكينا لتضحك ؟!!...
والآن تطردنا من بيتك شر طردة ... وتتبرأ منا ... وبل وتتهمنا بالمجانين ...
نعم إننا مجانين ... حين ربيناك وعلمنا ك وأنفقنا عليك الغالي والنفيس وكل ما نملك ... أما والله لو علمنا أنك ستفعل بنا هذا عندما تكبر... لقتلكَ بيدي هذه يوم ولادتك ...فموت مثلك خير من حياته...
ولأن يموت الابن بحادث أو مرض فأبكي عليه ساعة ... خير من أن يتنكر لوالديه
فيظلان يبكيان عليه ويتحسران .. إلى قيام ساعتهما ورحيلهما عن هذه الدنيا...
ليتني وزوجتي متنا قبل أن نرى هذا اليوم المرير !!...
لقد قتلنا ولدنا بدون سكين ... قتل كل معاني الأبوة والأمومة والمحبة في نفوسنا ...
ولكني لم أيأس ... فبقيت أتتبع ولدي إبراهيم ... وأتعرض له المرة تلو الأخرى في مقر عمله ...
لعله أن يفيق من سكرته ... لعله أن يتذكر أباه وأمه ... ولكن بلا فائدة ...
بل إنه في إحدى المرات ... هددني بأن يقتلني إذا ذكرت لأحد أنني أبوه ...
من الروعه صرت اشهق
مشكوره اختي على نقل هالقصة المؤثرة