- هيا .. هيا .. هيا.. )
- كافرة.. كافرة.. مخلدة في النار .. النار .. النار.. النار ....
الشمس تشرق دائماً
لم أكن أشعر بنفسي ، كنت أسير .. وأسير
لا أعلم كم مضى من الزمن وأنا على هذه الحال
توقفت قليلاً ، وتلفت من حولي
كان الليل قد لف المكان بعباءته السوداء ، وفشل ضوء القمر الشاحب في تبديد تلك العتمة ،
الريح تعصف واحتكاك الأغصان بعضها ببعض يملأ المكان بأصوات مرعبة
لم أعبأ بكل هذا وتابعت سيري .. فوجهتي أصبحت قريبة .. وأخيراً
ها هو
كان هناك ! واقفاً في مكانه ، اتجهت إليه ، تفحصته بعيون تجمدت فيها الدموع
كان كما عرفته دائماً
ولكن غضبه الليلة كان أشد من ذي قبل
وقفت أمامه ، وعلى ضوء القمر تأملت وجهه الشاحب
أغرقت الدموع وجهي ، جثوت على ركبتّي
مددت يدي أتحسس وجهه البارد ، تمنيت لو يحتويني ويغمرني بدفئه كما كان يفعل عادةً ، لكنه
ظل بارداً .. قاسياً .. متجاهلاً
دون أن أشعر بنفسي نهضت على قدميّ
وتقدمت أكثر وأكثر ، غاصت قدماي في الرمال ، ضربتني موجة عاتية .. ومع هذا لم أتراجع بل تقدمت للغوص أكثر ، ومع كل خطوة أخطوها ؛ كنت استرجع لحظات حياتي
ألم ، عذاب ، فشلٌ وراء فشل ثم يأس قاتل
وصل الماء لخصري .. ولا زلت أتقدم ، أصارع ضربات الموج المتتالية ، والتي بدا كأنها تقول لي أفيقي
ولا من مجيب
غاصت قدماي أكثر.. وصل الماء لصدري ... وهنا أفقت من جمودي وجدت نفسي وسط البحر وصفعات متتالية من الأمواج تهاجمني بلا رحمة ، التفت بفزع لأعود لشاطئ النجاة .. ولكن
صوت من الأعماق همس في أذني : ( جبانة ، فاشلة ، لم تنجحي يوماً ، ولن تنجحي أبداً ، هيا..
تابعي.. أكملي ما بدأت ، كوني شجاعة لمرة واحدة في حياتك ، تشبثي برأيكِ .. بقراركِ ..
قرري مصيرك .. أنهي هذه الحياة البائسة .. ستجدين أخيراً الراحة والسكينة.. هيا .. أقدمي
هيا .. هيا .. هيا.. )
أصابني الخدر ، وقفت أتأرجح ، ثم حسمت أمري وعدّلت وجهتي، وأكملت طريقي ، حتى غصت تحت الماء، واستسلمت تماماً. ضاقت أنفاسي ، ومع هذا لم أتراجع، ولماذا أتراجع ! إنها الطريق إلى الراحة التي لطالما سعيت لها، استسلم جسدي تماماً، وعم الظلام والهدوء .. ( وأخيرا سأرتاح ) رددت لنفسي بآخر نفس بقي في صدري.. وفجأة سمعته من بعيد ، صوتٌ عذب ، تردد في أرجاء الكون ، غمر نفسي .. اخترق سمعي ، وقلبي ، وعقلي .. أنار روحي كسراج من نور
كان خافتاً ، ثم أخذ يعلو ويعلو حتى بات شديد الوضوح
{ إنه لا ييأس من روح الله إلا القوم الكافرون )
كافرة.. كافرة.. مخلدة في النار .. النار .. النار.. النار ....
تردد صدى الكلمات في رأسي ، وأخذ يقرع ناقوساً داخل نفسي ، فتنبهت لأمري ، وبآخر ذرة إيمان في قلبي استجمعت قواي ، وصارعت كل يأسي واستسلامي ، ودفعت رأسي دفعاً فوق سطح الماء .
استنشقت هواء الليل البارد ، وملأت صدري بالهواء كما لم أفعل من قبل . ضربتني موجة عاتية أعادتني تحت الماء ثانيةً، ولكني ضربت بذراعيّي حتى عدت لسطح الماء من جديد ، وقاتلت لأجل حياتي وإيماني ومصيري، صارعت الأمواج وأنا اردد لنفسي..
( لا .. لا .. لن استسلم .. لن أموت كافرة .. لن أقابل ربي قانطة.. هذه فرصة ثانية منها لي الرحمن الرحيم ولن أضيعها أبداً .. استغفر الله ، استغفر الله كيف فكرت بالانتحار ؟ كيف؟ ... مهما كانت قسوة حياتي؛ هل يستحق الأمر الكفر والقنوط من رحمة الله ؟ هل يستحق الأمر الخلود في النار... استغفر الله .. استغفر الله)
ظللت اردد الاستغفار إلى أن وصلت للشاطئ ، ويبدو أني استنفذت كل قواي في سبيل النجاة إذ أنه ما أن شعرت بأرض ثابتة القي بجسدي عليها حتى سقطت في غيبوبة، وكأن جسدي يرغب بإعادة شحن نفسه بعد أن استهلك كل طاقته . لم أشعر بشيء ، ولا كم مر من الزمن وأنا مستلقية على الرمال البيضاء التي غطتني كأني قطعة حلوى تم تغطيتها بحبيبات السمسم . شعرت بطعم الملح في فمي ، وسمعت الطيور تصدح بالتسبيح وهي تسعى لرزقها. غمرتني أشعة الشمس الدافئة ، فتحت عيناي ببطء وتأملت ما حولي كأني أراه لأول مرة ، وقفت على قدماي ، ونظرت لقرص الشمس الذي يملأ الدنيا دفئاً ونوراً وأملاً ، ثم ابتسمت وأغلقت عيناي وأنا أتذكر مقولة جدتي العجوز لي عندما كنت أبثها همي وحزني :
( يا بنيتي.. مهما طال الليل الشمس تشرق دائماً )
أجل ، الشمس تشرق دائماً المهم ألا نفقد إيماننا أبداً .
..................................................