اللوتس
14-12-2022 - 12:52 am
بسم الله الرحمن الرحيم
هناك من القصص التى نقراها ما تترك فى انفسنا اثر , تعجبنا كلماتها , اسلوبها , فكرتها , اتقانها المحكم
لن اتحدث كثيرا ً .. الموضوع ببساطه كل من اعجبتها قصه تضعها هنا فى الموضوع مع ذكر اسم الكاتب والموقع او المنتدى المنشوره فيه
مع رجاء خاص بالا نضع اى ردود سوى التى تحوى القصه أواى تعليق نقدى على قصه منشوره
ودمتم بأمن الله وعنايته
قصة قصيرة بقلم : سمير الفيل
منتدى شظايا أدبيه
المسألة وما فيها أن عاكف أفندي الموظف بقلم الحسابات في ديوان عام وزارة المالية طقت في رأسه فكرة أن يغير نمط حياته و يخرج من جلده القديم، فربما يتغير به الحال بعد أن حاصرته المشاكل، وطاردته المتاعب في عمله ، حتى أنه فكر في أن يزج بنفسه في مستشفى المجانين ، فزوجته متسلطة ، ورؤساء العمل لا يعطونه ما له من حقوق .
والحقيقة أن عاكف المتولي بصل رجل روتيني ، يقدس الحياة الوظيفية ، ويعرف قيمة الحكومة ، ويحترم لوائحها ، ويفهم في الدرجة ، والمربوط ، والعلاوة ، ولا تشغله في الكون غير مصلحة بيته ، وزوجته نظلة تمشيه على الصراط المستقيم، وتشطّب على جيوبه أولا بأول ، وهو مطيع ، لا يكسر لها أمرا ، حتى لو قالت له أن الشمس تطلع من الغرب ، وتغرب من الشرق ، فهي على حق ، إذ أن عصاها ناشفة ، وهي التي تقود دفة الحياة ، وتستولي على ماهيته حتى آخر مليم ، وهو عارف بفضلها ، مدرك أن الله قد أرسلها من لدنه لتتولى تدبير أمره ، وإلا ضاع في خضم الحياة بمرتبه الذي لا يتجاوز مع الحوافز ، والوقت الإضافي أكثر من مائتي جنيه وبضعة قروش .
لكن هاجسا ظل يزحف نحوه في الظلمة ، من ذهنه إلى روحه ، ومن روحه إلى جسده ، فتمرد على النوم ، وضعضعه القلق ، فقام من حجرته ، وأطل على الأولاد : بنتان ، وولد شقي ظريف هو آخر العنقود ، ونظلة عندما تحمل هذا الولد بالذات تهدهده ، وتنغم صوتها ، وتغني : آخر العنقود سكر معقود .
هو لا يعرف كنه هذا الشيء الذي راح يشك بدنه، ويطلب منه أن يتحرك ، ويتخلى عن سلبيته ، ويشعره برجولته . دخل حجرة الصالون ، فتح النور ، وواجه نفسه في المرآة ، كانت ملامحه الأليفة هي هي ، وتجاعيد جبهته التي تكاثرت من هم البيت ومتاعب الشغل ، وقلة ذات اليد بدون أي تغيير .
ومضت في ذهنه فكرة أن يحلق شاربه ، نعم مجرد تغيير ، من هنا قد يأتي التحول ، ألم يسمع منذ زمن بعيد عبارة صكها الناس ، وهي تقفز أمامه الآن وتستولي على انتباهه ، وتهزه بعنف " تفرج على أهون سبب " ، وبالفعل أمسك المقص ، وجز الشعر الأسود الكثيف الذي يعتلي شفته العليا ، وأكمل على البقية بماكينة الحلاقة ، ثم غسل وجهه مرتين ، وعاد يتأمل السحنة ، وجد شخصا آخر تماما . شخص بشوش يضحك ، ويشرق وجهه بغمازتين خفيفتين لم يكن يراهما من قبل .
في البداية أنكر نفسه ، ولكنه ما لبث أن صرخ بحذر في صورته المنعكسة : هذا أفضل ، والبداية تبدأ من الشكل ، ثم تسري في المضمون .
عاكف أفندي المتولي بصل الذي يحرص كل صباح على أن ينزل بالسلطانية ليشتري الفول المدمس المقدس ، والكباب الوطني الملقب خطأ بالطعمية ، رأى أن يحضر اليوم أصنافا جديدة ، فارتدى بيجامته المقلمة ، ونزل إلى قلب السوق .
ابتاع بيضا وبسطرمة ومربى ، وقالبا كاملا من الزبدة ، وبدلا من العيش الأسود الذي يُضرب به الكافر فيسلم على الفور ، غيّره بالعيش الأبيض الفينو في كيس أنيق من السولفان .
صعد قبل أن تصحو زوجته فتوبخه على ما فعل ، وانتزع قميصا أحمر كان يخشى أن يرتديه فيما سبق من أيام ، وبنطلونا له فتلة لامعة من القصب ، كانت منيرة أخته قد جاءت به له من " دبي " ، وفك الزرار العلوي للقميص فبانت بعض شعيرات صدره التي لها خليط عجيب من الأبيض الخجول بالأسود الجسور ، وبدأ في إعداد كوب الشاي ، وبينما هو ينتظر غليان الماء في البراد دخلت زوجته المطبخ ، فاستدار ليقول لها : صباح الخير ، وهو نادرا ما يفعل ، فصرخت بعزم ما فيها من قوة : يامصيبتي ، حرامي .. حرامي .
وضع يده على فمها بقوة لم يألفها ، وهمس في أذنها أن الحرامي عادة لا يدخل المطبخ ليعمل شايا ، بل يكتفي بحمل ما خف وزنه وغلا ثمنه ، ثم يلوذ بالفرار ، وقتها كانت تتأمل وجهه، فعرفت أنه بعلها ، صرخت فيه غاضبة : أيه اللي عمل فيك كده يامنيل؟
والمنيل الذي تعود الإهانة، وجد يده تسرع ، وتصفعها صفعة خفيفةعلى وجهها ، لكنها حاسمة للتحذير أن أيام الفوضى والتسيب قد انتهى عهدها ، وأن كائنا جديدا قد بُعث من العدم ، وأمرها بحسم لم تعهده فيه أن تجهز الإفطار لأنه سينزل اليوم مبكرا .
انكمشت نظلة لثوان ثم انسحبت إلى المطبخ ، وأدارت مؤشر الراديو على القرآن الكريم ، لعله يصرف الشياطين ، ويقصر الشر، ورأته قد جلس واضعا ساقا على ساق ، يقرأ جريدة الصباح باهتمام شديد ، وكلما قرأ خبر ملفتا قهقه ضاحكا ، وضرب كفا بكف .
في الأحوال العادية كان عليها أن تشخط فيه وتخبره أن الأولاد نائمين ، وعليه أن يضع حصوة ملح في عينه وينكتم ، لكنها تحسست مكان الصفعة ، ورأت أن تبعد عن الشر وتغني له ، وحالما فتحت القراطيس ، ورأت المربي والزبدة ، والبيض والبسطرمة ، مع غياب مؤكد للفول والطعمية تأكدت أن مسا ً قد أصاب الرجل ، واسترجعت أيام جاء ليخطبها ، لقد حذرها ابن عمها الأستاذ مأمون مدرس العلوم الذي كان يريدها لنفسه أن عائلتهم فيها عرق طاقق ، يظهر عند اللزوم ، وهي سألت في العمل ، واستفسرت كثيرا ، فعرفت أن عاكف رجل ملتزم ، لا يدخن السجائر، و حتى الشاي لا يجسر أن يشربه في مقهى .
إنه شديد الانضباط ، وقد قبلته لسبب وحيد هو أنها تأكدت أن شخصيتها الطاغية ستجعلها في وضع مميز لا يحلم به أحد ، وسوف تركبه كما تفعل أمها الباطشة مع المحروس أبيها بدون أن يبدي المسكين سأمة أو نأمة ، كل ما يمكنه أن يفعله ، هو أن يهز رأسه في استكانة : الصبر جميل .
أقتربت بصينية الشاي الفضية التي لا تخرجها لغير الضيوف ، وضعت الغموس في أطباق "الأكروبال " التي أخفتها منذ يوم دخلتها ، وسألته في استعطاف : عايز حاجة تانية يا أخويا ؟
نظر إليها من فوق إلى تحت ، وتأمل شكلها الرث ، نهرها : أيه الهلاهيل اللي أنت لابساها دي ؟ روحي إلبسي هدوم عليها القيمة .
تسللت إلى حجرتهما المشتركة ، وعادت بطاقم جديد كانت قد ادخرته لأيام مفترجة ، ودخلت الحمام ، تحممت ، ودعكت جسدها بالليفة ، فصعدت الرائحة العطرة للصابونة اللوكس ،وملأت نخاشيشها ، أحست أنها تستمتع لأول مرة بالصباح. صحيح أنها في الإجازة الصيفية ، وعملها كمدرسة فلسفة يتيح لها قدرا ً من الحرية في التزويغ من دفاتر الحضور والانصراف ، ولا عمل عندها اليوم ، لكن ما المانع أن تتجمل في الصباح ؟ هل كتب على بني جنسها أن يقتصر تجملهم في الهزيع الأخير من الليل ؟
مشطت شعرها ، وضعت بودرة خفيفة على الوجنتين ، زججت الحاجبين ، ومررت بفرشاة الرميل أسفل الجفنين لتتحول السمرة الشاحبة إلى اخضرار فاتن .
دهشت أن رأت عروسا في أكمل زينتها ، حتى أنها كادت تمسح ما فعلت بوجهها ليصبح غريبا ، صبوحا إلا أن صوته عصف بأفكارها : أنت يا ست نظلة ، تعال افطري وبطلي تضييع وقت !
كان صوته خشنا على غير العادة ، حتى أنها فطنت إلى أنها لو تأخرت نصف دقيقة فسيكون في ذلك دمارها . سحبت كرسيا ، وجلست كتلميذة مستجدة في أولى روضة ، وبنظرة خاطفة تأملها ، وصرخ في نفسه : يخرب بيتك يانظلة ، ومخبية السحر ده فين ؟
لكنه جمد قلبه ، وقال في لهجة تجمع بين الأمر والتحذير إن هي وضعت العراقيل : اليوم هناكل محشي . أيوه محشي ورق عنب ، وكمان فلافلة . أرجع من الشغل ألا قي الأكل جاهز .
تأملت النافذة نصف المغلقة ، والشمس تستقر بشعاعها الدافيء عليها : وماله المحشي .
قبل أسبوعين طلب منها ذلك ، فولولت ،وندبت حظها ، وأبانت عن تعاستها التي لم تكن تستحقها . قالت له بالعين المفنجلة : صحتي لا تسمح ، ولو عايز باذنجان .. تعالي قوره حضرتك ، واحشيه .
في هذه المرة سكتت تماما ، ولما ساد الصمت لحظات، افتعلت ضحكة ،جاءت هزيلة ومتذبذبة ، أضافت وهي تتلمس تأثير كلامها : ده حتى المحشي في الصيف مفيد للجسم .
أمرها أن تلّمع له الحذاء فهو في عجلة من أمره ، ولأنها تأكدت أن عفريتا قد ركبه ، ومستحيل أن ينزل من فوق كتفيه حتى لو دقوا له الطبل البلدي ، فعليها أن تطاوعه .
أسرعت بإحضار حق الورنيش والفرشاة ،وجلست القرفصاء ، تلمعه بهمة وإخلاص ، ثم انحنت راكعة ودسته في قدميه بلطف مبالغ فيه ، وهي تكلم نفسها : والله عفريت ابن حلال ، خلاك راجل صحيح ، بقيت وسيم ، وعليك القيمة !
يبدو أن بعض حروف تسربت من بين شفتيها لأنه سألها ، وهو يأمرها أن تحكم رباط الحذاء : بتقولي أيه يانظلة . فيه حاجة ؟
هذه المرة ، وجدت في نفسها الشجاعة لتخبره أن شكله قد صار أجمل ، وأن شاربه ربما كان السبب في تأخر العلاوة ، وعدم ترقيته في قلم الحسابات ، فبعض الناس نجمهم خفيف ، وربما تكون أشكالهم ، وسحنتهم هي السبب في عدم الحصول على حقوقهم كاملة ، غير منقوصة ، وذكرته أن يعود الظهر بالبخور الجاوي لتبخر البيت من عيون الحساد .
أشاح بيده ، وسألها كأنه يستجوب متهما : باقي كام من المصروف يا ست أنت ؟
لم تبك حظها السيء ، وميلة بختها هذه المرة ، لكنها وبخت نفسها لأنها أمسكت يدها أول الشهر أكثر من اللازم ، وأخبرته أن المانجو طلعت ، وستعطيه عشرين جنيها كاملة ليشتري كيلوجرامين ، ولا ما نع من بعض التين البرشومي .
نهرها وهو يغادر : صنف واحد يامجنونة ، تين ولا مانجو ؟
تابعته وهو ينزل السلم ، أمسكت بالدرابزين ، وهي تكاد تطير من الفرح : مانجو ياسي عاكف .. مانجو .
رمقها قبل أن يختفي وراء السقف الواطيء ، وأمرها أن تدخل شقتها وتغلق الباب من خلفها ، وفي نفسه قال : هل هذه هي نظلة ؟
كانت تبدو غريبة في شكلها ، وسلوكها ، بل في غنجها ودلالها ، وهي تودعه : مع السلامة ياروحي ، ما تتأخرش !
سأل نفسه ، وهو لا يكاد يصدق : روحي .. غريبة !
وطوح برأسه إلى الخلف ، وقد دبت في جسده فتوة لم يعهدها : كل ده علشان شلت الشنب ؟
ثم اندفع على محطة الأتوبيس ، ولم يأبه بالزحام ، فقد شعر أن شيئا جديدا يتخلق ، وأنه قد تحرر من شيء ثقيل لا يعرفه ، وأحس بأن الحياة تستحق أن تعاش بلا شكاوى ، ولا لوم ، ولا تأنيب ذات .
أما نظلة ، فقد عادت إلى الصالون ، وحدقت في المرآة الجميلة التي تواجهها ، وقالت في نفسها : قمر والله قمر .. صحيح يستاهلني !!
القاهرة 8/9/2004