- وعاد ت إلى الحياة..
- فتح الصبي ثغره ليتكلم لكن انفجر فجأة بالبكاء ..
- ما بك يا صغيري ؟؟ أين هي أمك؟؟ ولم تبكي ؟؟..
- فوداعاً يا حبيبي .. وإلى اللقاء ...
وعاد ت إلى الحياة..
وقفت أمام النافذة .. ترقب انهمار المياه في مصبها .. وانحدار البلابل إلى أوكارها .. أخذت تحدق .. وتحدق.. في نقطة لا نهاية لها .. تتراقص أشعة الشمس حولها فتغرقها في عوالم لا مرئية.. تسبح بها في عالم من الأحلام.. تحيط بها الذكريات .. وأي ذكريات .. تأسرها .. تقيدها .. تحاول تحطيم قيودها ... تحاول الفكاك منها فلا تستطيع .. في كل خطوة ... وعلى كل درب ... في كل زاوية .. وعلى كل طريق .. تطاردها أشباح أحلامها .. وتتمثل لها في صور مألوفة .. صور .. كانت تتوج أحلى أيام عمرها .. وأحلى ذكرياتها .. صور .. وما كانت كأي صور .. صور هي جزء من روح .. جزء من حياة .. وجزء من كيان.. أما الآن .. فهي مجرد صور .. بلا قيمة .. صور .. هي مجرد أوراق .. ألوانها باهتة .. رمادية .. غريبة .. صور .. هي لانسانة أخرى .. لكائن آخر .. فما هي الآن .. إلا بقايا انسان .. وكومة من التناقضات.. أغمضت عينيها بعنف علها تستطيع أن تقاوم .. حاولت .. وحاولت منع انهمار الدموع .. لم تستطع .. فتركت لها العنان .. تركتها تنهمر .. وتنهمر .. راسمةً حفراً وأخاديد في تقاسيم وجهها .. اتجهت حيث مرآتها .. وقفت لبرهة .. تتأمل .. وتتأمل صفحة وجهها المنعكسة على صفحة المرآة المسطحة.. رأت وجهاً شاحباً ... وعينين بلون الزبرجد.. تحيط بهما الهالات السوداء .. كما تحيط الغيوم بوجه القمر.. وشعراً بوهيمياً أسود.. يتعابث مع الهواء والريح.. ويتناثر حول وجهها بغير ترتيب.. تراءت لها صورته يبتسم من خلال المرآة .. وتقاسيم وجهه الحبيبة .. تنطق بالشوق .. واللهفة .. والحب .. والحنين .. وشفتيه .. شفتيه هو .. كانت تنطق بكلمات لها هي .. تتحرك وكأنها تقول لها .. أشتاق .. أشتاق لكِ أنتِ .. أشتاق لثغرك الباسم .. ولعينيكِ الضاحكتين .. ابتسمت من بين دموعها .. لكن الصورة بدأت بالتضاؤل .. والتلاشي .. إلى أن اختفت نهائياً .. وملامح صفاء .. كانت تمتزج بين سعادة لحظات أفلت .. ولحظات حزن تنبيء بالمجيء .. ما بين الألم والتفاؤل .. ما بين السعادة والحزن .. خيط دقيق.. عصرت رأسها بقوة بكفيها الناحلين..تحاول منع الألم .. منع الحنين.. تدفق سيل دافيء من الدموع الندية .. أحست برغبة قوية في الخروج .. كعصفور يريد الخروج من قضبان قفصه .. حيث الحرية الموعودة.. ارتدت خمارها بغير ترتيب.. ودفعت الباب بقوة وكأنها تريد أن تتخلص من حزنها خلاله.. أخذت تسير في تلك الشوارع الباردة كالصقيع بغير هدى.. تتلمس المباني الرمادية .. تتلفت في الوجوه .. تحدق بها .. علها تجد بعضاً من ملامحه .. علها تجد وجهه بين الوجوه.. لكن تلك الوجوه لم تكن سوى وجوه غريبة.. تحيط بها علامات الاستفهام.. ونظرات تلك الوجوه الفارغة من أي مشاعر تنظر لها باتهام واستنكار .. تحسست خمارها باضطراب .. لوهلة ظنت أن سهام تلك النظرات كانت موجهة لمظهرها .. لكنها أدركت أن السبب نظراتها هي .. اخفضت عينيها ببطء .. بقيت لدقائق تتأمل الشوارع الرمادية الباهتة .. وقد انهكتها أقدام المارة .. وعجلات السيارات .. بدأ المطر يتسلل رويداً .. رويداً .. وكأنه يغسل الأرض من أدرانها .. ومن آثار الأقدام التي تدوسها محملةً بالخطايا.. أحست بقطرات المطر .. تضرب وجهها برقة.. وتعيده إلى الحياة .. أحست بها تتساقط على وجهها .. كالدموع .. دموع السماء .. حينما تبكي البشر .. وهناك بعيداً .. عند زاوية الشارع .. وقفت بشموخ وكبرياء .. وردة حمراء قانية بلون الدم .. لا تنحني .. لا لهبات الريح .. ولا لقطرات المطر .. اتجهت ناحية تلك الوردة .. قطفتها بحب .. أخذت تتلمس بتلاتها .. لكم تمنيت أن أكون مثلكِ .. صامدة .. لا تهزني رياح الزمهرير .. ولا تفزعني أمواج الحياة .. لكم تمنيت أن أكون قوية أواجه ما يصيبني بشجاعة .. كشجاعتكِ حين تتحملين القطف .. وحينما تمزق بتلاتكِ الناعمة بقسوة .. فجأة..أفزعها صوت طفلٍ يصرخ من خلفها .. كان يصرخ .. ويصرخ .. ورجل بملابس المتسولين الرثة .. وقد تجرد من معاني الانسانية .. يسحب الطفل بقسوة .. حيث المجهول .. حينها.. سقطت الوردة من يديها لا شعورياً .. وأخذت تجري ناحية الطفل... حينما رآها الرجل قادمة نحوه .. ظن أنها أم الصبي فهرب مبتعداً .. تقدمت ناحية الطفل الذي فاضت عيناه بالدموع .. وتدلت شفتيه بكل براءة .. معلنةً أنه يشعر بالخوف .. وشعره الأسود الكث يتناثر حول وجهه الطفولي المستدير .. وهو ممسك بكل قوته بسيارته الصغيرة.. منظره في ذلك الحين .. كان كصورة .. أعادت لها الذكريات .. ذكريات طفلة .. تجري تحت وقع المطر .. مبللة الثياب .. وبيدها دميتها الصغيرة.. تجري .. وتجري .. وشعرها يجري وراءها .. حينها تصل إلى طريقٍ مسدودٍ .. وفجأة .. تمسك بها يد خشنة .. وتسحبها للخلف..
ابتسمت للطفل .. وسألته بصوت يقرب للهمس : ما أسمك يا صغير؟؟
نظر الطفل إليها بخوف وقال : م .. م .. ماما ...
فتح الصبي ثغره ليتكلم لكن انفجر فجأة بالبكاء ..
ما بك يا صغيري ؟؟ أين هي أمك؟؟ ولم تبكي ؟؟..
لم يجب الصغير .. كان البكاء ديدنه .. والحزن يثقل قلباً صغيراً ينضح بالبراءة .. امسكت يديه بقوة محاولةً التخفيف عنه .. مسحت دموعه الندية بيديها .. ضمته بين حناياها .. قبلته .. رفعت رأسها فجأة .. أحست بقلبها يعتصر .. لمحت تلك الوردة الحمراء .. تحت عجلات سيارة مسرعة .. تحطمت الزهرة .. تناثرت بتلاتها في كل مكان .. عبقت رائحتها دماً .. أسرعت صفاء نحوها .. حاولت أن تجمع شتاتها وأشلاءها .. حاولت أن تجمع بقايا قلبها .. أخذت تبكي .. تخالطت دموعها ودموع المطر .. امتزج عبق دموعها برائحة الأرض .. شكلت دموعها غشاء رقيقاً يمنعها من الرؤية .. أصوات زمامير السيارات .. تطن في أذنيها ... شيءٌ صلبٌ صدمها بقوة وقسوة ... هدّ كيانها .. حطّم عظامها .. أنهكها .. أمسكت رأسها بقوة ... أحست بسائلٍ دافيءٍ لزجٍ .. ينساب من رأسها المحطم ... تهاوت على الرصيف المتداعي بصمت ... سمعت خليط أصواتٍ تعلو .. تتماوج .. وتتماوج .. أحملوها بسرعة .. امتزج صراخ الطفل الصغير ..مع صوت خشن... وصوت سيارة الإسعاف المسرعة ناحيتها .. وفجأة .. فقدت الوعي والشعور بما حولها .. وغرقت في غيبوبة طويلة ..
في تلك الغرفة الرمادية .. وعلى سريرٍ حديديٍ أبيض .. وُضعت جثتها الباردة .. تحيط بها الأجهزة الطبية .. والأسلاك الكهربائية .. ضربات قلبها المضطربة .. تكاد تكون معدومة .. وجهها الشاحب هو للبياض أقرب .. شفتيها القرمزيتين ..أصبحتا بلون البنفسج الداكن .. وخصلات شعرها الفاحمة تناثرت على الوسادة ... فأحدثت تناقضاً مميزاً ما بين اللون الأسود والأبيض .. وصوت جهاز القلب يرتفع تارة معلناً الخطر .. ثم يعود للانخفاض .. هكذا هي حال صفاء منذ أسابيع خلت .. غارقةٌ في غيبوبتها .. ومتاهات كوابيسها التي لا تنتهي .. غارقة في السواد حتى الثمالة .. ولا شيء يستطيع انتشالها مما هي عليه .. ترقد باستسلام .. كنعجة تنتظر قاتلها .. يائسة هي بلا أمل .. تنتظر شيئاً ما ينتزع الروح من الجسد علّها تلتقي به هو .. الكوابيس تحاصرها .. وروحها في صارعها الأزلي ما بين حب البقاء .. والفناء ..
فجأة .. عاد صوت الجهاز .. يدوي بقوة .. ممزقاً رهبة الصمت .. عاد يدوي بإصرار .. أوشكت دقات قلبها المنهك على التوقف .. وأوشكت روحها أن تفارق جسدها .. أوشكت أن ترفع راية الاستسلام البيضاء .. لكن طيفاً حالماً .. خيالاً قادماً من بعيد .. حط رحاله وسط كوابيسها .. طيفه هو .. عاد لمراودتها .. أخر كلماتٍ سمعته يرددها .. عادت تطن في أذنيها .. تتذكرها كما الأمس القريب .. غاليتي صفاء .. في داخل كلِ انسانٍ .. في أعماق أعماقه .. ثورةٌ على الظلم .. هذه الثورة.. قد تبهت.. تتضاءل .. تخبو .. تمحوها معاول الزمن .. وتذرو حطامها الأيام .. وقد تكبر .. وتكبر .. تتضخم .. وتتضخم .. لتنفجر بركاناً .. أتوناً .. يحرق كل شيء .. أو شلالاً من الغضب.. يغرق كل ما حوله.. هذه الكلمات .. وقبلة طفلٍ يتيم .. هي ما أعادت لصفاء الروح .. أعادتها مسلحةً بالأمل .. والتفاؤل يحدوها أن تخلق بهذا الطفل كيانٌ ثائر .. كيانٌ يأبى الخنوع للظلم.. كيانٌ هو أشبه بما كان عليها حبيبها الذي رحل ..
كانت تسير بمحاذاة النهر .. تحتضن كومةً من الأوراق .. وعلى شفتيها شبه ابتسامة نصر .. جلست على العشب الأخضر الندي .. لاعبته بأصابعها الراجفة .. أمسكت قلماً .. وبحبره الأزرق سطرت بضع كلمات ...
أيه يا سامي .. أشعر برغبة مكبوتة في الكتابة إليك .. نعم إليك أنت .. وأنت فقط .. قد تتساءل ... لمَ أكتب إليك الآن .. بعد عامٍ كاملٍ من الأم والدموع .. عامٍ كامل قضيته وحيدة .. محاصرةٌ ... باسمك وذكرياتك .. بحروفك .. ومبادئك .. وأفكارك .. تحاصرني أوراقك المتناثرة هنا وهناك.. كتبك المكدسة في الرفوف المغبّرة .. وملابسك المبعثرة في خزانتك الخشبية .. بقايا عبق عطرك في الزجاجة .. يأسرني .. يقيدني .. يحلق بي في عالم من الأحلام .. عالمك أنت .. حيث نبقى أنا وأنت فقط .. في عالمٍ لا يعترف بالوقتِ .. ولا الزمن.. عالم يبتعد عن البشر وخطاياهم .. عالمٌ هو أشبه بمدينة أفلاطون الفاضلة .. عالمٌ تعجز الكلمات عن وصفه .. عالم الا عالم .. ومكانٌ في الامكان ..هو وهمٌ يعشش في خلايا الذاكرة .. ويحلق بها بين صور الحياة .. هو عالمٌ لا يعترف بالفراق .. ولا ألم الابتعاد .. حيث نبقى معاً دون أن يفرقنا أحد .. ونبقى أحراراً بلا قيود ..
آهٍ يا سامي .. كل مافي المنزل ينادي حروف اسمك .. كل زاوية وركن يحتفظ بآثارك .. كل شبرٍ عانقته أصابعك .. كل حائطٍ في هذا المنزل .. شهد ذكرى عشناها معاً .. سواء أكانت ذكرى سعيدة ... أم حزينة ..
أقف هنا .. أشهد لحظات احتضار الشمس وانحدارها نحو المغيب .. والشفق المخضب بلون الدم وكأنه يبكي عليها .. يخيل لي حينها أنه يشاركني البكاء عليك .. هل ترى؟؟ كل شيء يذكرني بك .. وكأنك تطلب مني أن لا أنساك .. اتساءل .. هل أستطيع نسيانك .. وأنت النبض في قلبي .. والدم الذي يجري بعروقي وشراييني ..
اتساءل أحياناً .. لمَ أبقى أنا بينما ترحل أنت .. لمَ أحزن أنا بينما تُخلد أنت .. لمَ أبكي انا بينما أنت ترفل هناك في عالم الأرواح .. وجدتُ أخيراً الإجابة .. بقيتُ أنا لأخلدك أنت .. لأخلد كلماتك ومبادئك التي نُقشت في داخلي .. بوسط قلبي .. لأخلد قصة حبنا .. لأخلد حلماً جميلاً نضراً عشناه معاً .. لأخلد للناس .. أن الحياة ماهي إلا أكذوبة .. نحياها .. عندما .. نجد شيئاً يستحق أن نعيش لأجله .. نحياها عندما نجد فكرة .. نعيش لأجلها ونحيا لإحيائها ..
وانا ما أعيش الآن إلا لأحقق حلماً طالما دغدغنا ... وطالما تمنينا أن نحققه معاً .. أن نحقق الثورة الحلم .. بطفل يحقق أفكارنا التي عشنا لأجلها .. أن ننشيء الطفل الحلم .. والحلم الطفل ..
عزيزي ... ها أنا اليوم .. أختم بالشمع صفحة الماضي .. لأعيش الحاضر والمستقبل .. وأعيش على أمل لقياك في عالم الأرواح يوماً .. على أمل أن نلتقي وقد حققنا الحلم والأمل ..
فوداعاً يا حبيبي .. وإلى اللقاء ...
طوت الورقة وقد امتزجت الحروف بالدموع .. ضمتها .. اقتربت من النهر .. وضعتها فيه .. امتزج الحبر بالماء .. أخذت الورقة في الإبتعاد .. شيئاً فشيئاً .. وقد حملها التيار بين جوانحه .. إنها تبتعد .. وتبتعد ..
سارت صفاء بعيداً عن النهر .. أخذت تسير .. وخطواتها تسبقها .. وقبل أن تبتعد .. أستدارت ببطء .. ملقيةً بنظرة اخيرة ناحية النهر .. كانت الورقة حينها قد ابتعدت .. واختفت من أمام ناظريها ..
((تمت))
يعطيك العافيه