- قالت بصوت نتهدج : راشد .. أين كنت ؟
- قلت ساخرا : في المريخ .. عند أصحابي بالطبع ..
- خرنا من المستشفى ..وخرج سالم معنا ..
لم أكن جاوزت الثلاثين حين أنجبت زوجتي أول أبنائي ...
مازلت أذكر تلك الليلة .. بقيت إلى آخر الليل مع الشلة في إحدى الاستراحات .. كانت سهرة مليئة بالكلام الفارغ ..
بل بالغيبة والتعليقات المحرمة ..
كنت أنا الذي أتولى في الغالب إضحاكهم .. وغيبة الناس وهم يضحكون .. اذكر ليلتها أني أضحكتهم كثيرا .. كنت امتلك موهبة عجيبة في التقليد ..
بإمكاني تغير نبرة صوتي حتى تصبح قريبة من الشخص الذي اسخر منه .. اجل كنت اسخر من هذا وذاك .. لم يسلم احد مني حتى أصحابي .. صار بعض الناس يتجنبني كي يسلم من لساني ..
أذكر أني تلك الليلة سخرت من أعمى رأيته يتسول في السوق .. ولأدهى أنى وضعت قدمي أمامه فتعثر وسقط يلتفت برأسه لا يدري ما يقول .. وانطلقت ضحكتي تدور في السوق ..
عدت إلى بيتي متأخراٌ كالعادة .. وجدت زوجتي في انتظاري كانت في حاله يرثى لها ..
قالت بصوت نتهدج : راشد .. أين كنت ؟
قلت ساخرا : في المريخ .. عند أصحابي بالطبع ..
كان الإعياء ظاهرا عليها.. قالت والعبرة تخنقها : راشد .. أنا تعبة جداٌ .. الظاهر أن موعد ولادتي صار وشيكاٌ .. سقطت دمعة صامته على خدها .. أحسست أني أهملت زوجتي .. كان المفروض أن أهتم ها وأقلل من سهراتي .. خاصة أنها في شهرها التاسع .. حملتها إلى المستشفى بسرعة ..
دخلت غرفة الولادة .. جعلت تقاسي الآلام ساعات طوال ..
كنت أنتظر ولادتها بفارغ الصبر .. تعسرت ولادتها .. فانتظرت طويلاٌ حتى تعبت .. فذهبت إلي البيت ..وتركت رقم هاتفي عندهم ليبشروني ..
بعد ساعة .. اتصلوا بي ليزفوا لي نبأ قدوم سالم ..
ذهبت إلي المستشفى فوراٌ .ز أول ما رأوني أسال عن غرفتها .. طلبوا مني مراجعة الطبيبة التي أشرفت على ولادة زوجتي ..
صرخت بهم : أي طبيبة ؟! المهم أن أرى ابني سالم ..
قالوا .. أولاٌ .. راجع الطبيبة ..
دخلت على الطبيبة .. كلمتني عن المصائب .. والرضي بالأقدار ..
ثم قالت : ولدك به تشوه شديد في عينه ويبدوا أنه فاقد البصر !!
خفضت رأسي .. وأنا أدافع عبراتي .. تذكرت ذاك المتسول الأعمى ..الذي دفعنه في السوق وأضحكت عليه الناس ..
سبحان الله كما تدين تدان! بقت واجماٌ قليلاٌ .. لا أدري ماذا أقول . ثم تذكرت زوجتي وولدي ..
شكرت الطبيبة على لطفها .. ومضيت لأرى زوجت ..
لم تحزن زوجتي .. كانت مؤمنة بقضاء اله . راضية .. طالما نصحتني أن اكف عن الاستهزاء بالناس .. كانت تردد دائما .لا تغتب الناس..
خرنا من المستشفى ..وخرج سالم معنا ..
في الحقيقة .. لم أكن اهتم به كثيرا ..اعتبرته غير موجود في المنزل حين يشتد بكاؤه اهرب إلي الصالة لأنام فيها .. كانت زوجتي تهتم به كثيرا .. وتحبه كثيرا .. أما أنا فلم أكن اكرهه .. لكنني لم أستطيع أن أحبه!
كبر سالم .. بدأ يحبو .. كانت حبوته غريبة .. قارب عمره ألسنه فبدأ يحاول المشي .. فاكتشفنا أنه أعرج .. أصبح ثقيلاٌ على نفسي أكثر ..
أنجبت زوجتي بعده عمر وخالداٌ ..
مرت السنوات وكبر سالم وكبر أخواه .ز
كنت لا أحب الجلوس في البيت .. دائما مع أصحابي ..
في الحقيقة كنت كاللعبة في أيدهم .. لم تيأس زوجتي من إصلاحي كانت تدعو لي دائما بالهداية .. لم تغضب من تصرفاتي الطائشة ..
لكنها كانت تحزن كثيرا إذا رأت إهمالي لسالم واهتمامي بباقي إخوته .. كبر سالم .. وكبر معه همي ..
لم أمانع حين طلبت زوجتي تسجيله في أحدى المداس الخاصة بالمعاقين ..
لم أكن أحس بمرور السنوات ..أيامي سواء .. عمل ونوم وطعام وسهر ..
في يوم جمعة .. استيقظت الساعة الحادية عشر ظهراٌ ..
ما يزال الوقت مبكراٌ بالنسبة لي .. كنت مدعواٌ إلي وليمة ..
لست وتعطرت وهممت بالخروج ..
مررت بصالة المنزل .. استوقفني منظر سالم .. كان يبكي بحرقة!
إنها المرة الأولى التي أنتبه فيها إلى سالم يبكي منذ كان طفلاٌ .. عشر سنوات مضت .. لم ألتفت إليه ..حاولت أن أتجاهله .. فلم أحتمل .. كنت أسمع صوته ينادي أمه في الغرفة .
التفت..ثم اقتربت منه..قلت:سالم:لماذا تبكي؟؟
حين سمع صوتي توقف عن البكاء..فلما شعر بقربي..
بدأيتحسس ماحوله بيديه الصغيرتين..مابه ياترى؟؟
اكتشفت أنه يحاول الإبتعاد عني!!
وكأنه يقول:الآن أحسست بي؟؟أين أنت منذ عشر سنوات؟؟
تبعته..كان قد دخل غرفته..رفض أن يخبرني في البداية سبب بكائه..
حاولت التلطف معه..
بدأسالم يبين سبب بكائه..وأنا أستمع إليه وأنتفض..تدري مالسبب؟؟
تأخر عليه أخوه عمر..الذي اعتاد أن يوصله إلى المسجد..
ولأنها صلاة جمعه..خاف ألا يجد مكانا في الصف الأول..
نادى عمر..ونادى والدته..ولكن لامجيب..فبكى..أخذت أنظر إلىالدموع تتسرب من عينيه المكفوفتين..لم أستطع أن أتحمل بقية كلامه..وضعت يدي على فمه..وقلت:لذلك بكيت ياسالم؟قال :نعم..
نسيت أصحابي.. ونسيت الوليمة.. وقلت:سالم لاتحزن..هل تعلم من سيذهب بك اليوم إلى المسجد؟؟
قال :أكيد عمر..لكنه يتأخر دائما..
قلت:لا..بل أنا سأذهب بك..
دهش سالم..لم يصدق..ظن أني أسخر منه..استعبر ثم بكى..
مسحت دموعه بيدي..وأمسكت يده..
أردت أن أوصله بالسيارة..رفض قائلا:المسجد قريب..أريد أن
أخطو إلى المسجد.._-إي والله قال لي ذلك-
لاأذكر متى كانت آخر مرة دخلت فيها المسجد..
لكنها المرة الأولى التي أشعر فيها بالخوف..والندم على مافرطته طوال السنوات الماضية..
كان المسجد مليئا بالمصلين..إلا أني وجدت لسالم مكانا في الصف الأول..
استمعنا لخطبة الجمعة معاً وصلى بجانبي..بل في الحقيقة أنا صليت بجانبه..بعد انتهاء الصلاة طلب مني سالم مصحفا..
استغربت!! كيف سيقرأ وهو أعمى؟
كدت أن أتجاهل طلبه..لكني جاملته خوفا من جرح مشاعره..ناولته المصحف طلب مني أن أفتح المصحف على سورة الكهف..
أخذت أقلب الصفحات تارة..وأنظر في الفهرس تارة..حتى وجدتها..
أخذ مني المصحف..ثم وضعه أمامه..وبدأ في قراءة السورة..وعيناه مغمضتان..يا الله!! إنه يحفظ سورة الكهف كاملة!!
خجلت من نفسي..أمسكت مصحفاًَ ..أحسست برعشة في أوصالي..قرأت..وقرأت..دعوت الله أن يغفر لي ويهديني..
لم أستطع الإحتمال..فبدأت أبكي كالأطفال..
كان بعض الناس لايزال في المسجد يصلي السنة..خجلت منهم..فحاولت أن أكتم بكائي..تحول البكاء إلى نشيج وشهيق..
لم أشعر إلا بيد صغيرة تتلمس وجهي..ثم تمسح عني دموعي..
إنه سالم!! ضممته إلى صدري..
نظرت إليه..قلت في نفسي..لست أنت الأعمى..بل أنا الأعمى..حين إنسقت وراء فسااق يجرونني إلى النار..
عدنا إلى المنزل..كانت زوجتي قلقة كثيراً على سالم..
لكن قلقها تحول إلى دموعٍ حين علمت أني صليت الجمعة مع سالم..
من ذلك اليوم لم تفُتني صلاة جماعة في المسجد..
هجرت رفقاء السوء..وأصبحت لي رفقة خيرة عرفتها في المسجد..
ذقت طعم الإيمان معهم..عرفت منهم أشياء ألهتني عنها الدنيا.. لم أفوت حلقة ذكر أو صلاة وتر..ختمت القرآن عدة مرات في شهر..
رطبت لساني بالذكر لعل الله يغفر لي غيبتي وسخريتي من الناس..
أحسست أني أكثر قرباً من أسرتي..
اختفت نظرات الخوف والشفقة التي كانت تطل من عيون زوجتي..
الابتسامة ما عادت تفارق وجه ابني سالم..من يراه يظنه ملك الدنيا ومافيها..حمدت الله كثيرا على نعمه..
ذات يوم.. قرر أصحابي الصالحون أن يتوجهوا إلى إحدى المناطق البعيدة للدعوة..ترددت في الذهاب..استخرت الله..واستشرت زوجتي.
توقعت أنها سترفض..لكن حدث العكس!
فرحت كثيراً..بل شجعتني..فلقد كانت تراني في السابق أسافر دون استشارتها فسقاً وفجوراً..
توجهت إلى سالم..أخبرته أني مسافر..ضمني بذراعيه الصغيرين مودعاً..
تغيبت عن البيت ثلاثة اشهر ونصف ..
كنت خلال تلك الفترة اتصل كلما سنحت لي الفرصة بزوجتي وأحدث أبنائي .. اشتقت إليهم كثيراٌ ..آآآه كم اشتقت إلى سالم !!
تمنيت سماع صوته .. هو الوحيد الذي لم يحدثني منذ سافرت ..
إما أن يكون في المدرسة أو المسجد ساعة اتصالي بهم ..
كلما حدثت زوجتي عن شوقي إليه كانت تضحك فرحاٌ وبشرا ..
إلا آخر مرة ها تفتها فيها .. لم أسمع ضحكتها المتوقعة .. تغير صوتها.. قلت لها ابلغي سلامي لسالم .. فقالت: أن شاء الله وسكتت
أخيراٌ عدت إلي المنزل .. طرقت الباب تمنيت أن يفتح لي سالم لكن فوجئت بابني خالد الذي لم يتجاوز الرابعة من عمره ..
حملته بين ذراعي وهو يصرخ. بابا لا أدري لماذا انقبض صدري حين دخلت البيت .. استعذت بالله من الشيطان الرجيم ..
أقبلت إلي زوجتي كان وجهها متغيراٌ كأنها تتصنع الفرح ..
تأملتها جيداٌ .. ثم سألتها: ما بك ؟
قالت لاشيء ..فجأة تذكرت سالماٌ فقلت أين سالم ؟
خفضت رأسها لم تجب سقطت دمعات حارة على خديها ..
صرخت بها سالم أين سالم ؟
لم أسمع حينها سوى صوت ابني خالد يقول بلثغته: بابا ثالم لاح الجنة عند الله
لم تتحمل زوجتي الموقف أجهشت بالبكاء كادت أن تسقط على الأرض فخرجت من الغرفة .. عرفت بعدها أن سالم أصابته حمى قبل موعد مجيئي بأسبوعين ..
فأخذته زوجتي إلي المستشفى .. فاشتدت عليه الحمى ولم تفارقه حين فارقت روحه جسده......
من كتاب/ في بطن الحوت -- للدكتور/ محمد العريفي
فيها من العبر الكثير
فليس العمى إلا عمى البصيرة
فكثيراص من البشر لهم عيون لايبصرون بها
وان المعوق قد تكون اعاقته نعمة وخير
فنحن غالباً مانرى كثيراً من
رجال الدين وأهل الخيرفاقدين نعمة البصر
بل قد يصلون للإعاقه ولم تثنيهم اعاقتهم
عن قناعاتهموعطاؤهم للبشرية
فشيوخنا ابن باز وآل الشيخ
والمجاهد الشيخ أحمد ياسين المقعد
والكثير الكثير ..
اختيارك كان وحده جمال
لما لا وهو من قلم شيخنا
الفاضل د/ محمد العريفي
ذلك الكنز الذي لاينضب
وفقك الله غاليتي
وأسعدك في الدارين
اهديك جل ودي مغلف
بوردة عطرة أرسلها
على جناح البلابل