- إن ضاقت بهما الدنيا مرةً .. فإن قلبي يكاد ينفطر لأجلهما ..
- وإن شكا أحدهما ألماً .. فروحي تكاد تنفصل همّاً لهما ..
- وسألته عن موعد ذهابه .. وهل سيرتاح قليلاً ؟!
تسجيل المشاعر وتصويرها ..
له نكهة يحبها كثير من الناس ..
كيف وإن كانت صادقة بحجم الجُرح الذي طُعِنَت به !!
نثرت لكم بعضاً من أحاسيس اختزنتها نفسي ..
عند فقدي لأحد عينيّ التي أبصر بها مُتَع الحياة ..
والدي حبيبي ..
نسجت أجمل ما أملك من حروفٍ لأجله ..
في قالب قصصي .. هو كما وقع ..
لتعلموا أن الله تعالى .. رحيم بعباده في كل الأحوال ..
وإن صعُبت الظروف .. وضاقت الحيل ..
ولتنطلق ألسنتكم .. ولو بدعوة واحدة لأبي المرحوم .. وأمي المكلومة ..
وإخوتي الفاقدين .. ونفسي الحائرة ..
لكن قبل أن تبدأوا بقراءة الحرْف ..
ضعوا في أذهانكم .. واكتبوا نصب أعينكم ..
أن ما حصل كان اختيارٌ من الله .. ونحن عبيده ..
وتحت يده ..
وهو الرحيم الحكيم سبحانه ..
رضينا بالله رباً وبالإسلام ديناً وبمحمد صلى الله عليه وسلم نبياً رسولاً .
إذا أردت أن تعلم ما العجز ؟ فاكتب عن والدك .. !
حكاية الألم ( 1 )
بسم الله الرحمن الرحيم
سأحكي لكم حكاية الألم .. حكاية الفقد .. حكاية ملؤها الحزن والضيق ..
وثمرتها الصبر والرضا .. نعم .. حزن أثمر رضا .. أرأيتم فضل دينكم ؟
...
أتيت إلى الدنيا .. وأنا أحمل اسماً طالما افتخرت به .. !
عشت حياةً هادئةً هنية .. مليئةً بالحب والحنان .. وسط أبوين رقيقين فاضلين .. أحببتهما كأشد ما يعشق ولد والداه ..
من فضل الله علي .. أنني الكبرى بين إخوتي .. ولذا كان لطفولتي مذاق خاص لدى والديّ .. كما يقول لي أبي دوماً ..
كبرت وكبرت معي أحلامي وآمالي .. لم أكن أهتمّ لأحد غير والديّ ..
إن ضاقت بهما الدنيا مرةً .. فإن قلبي يكاد ينفطر لأجلهما ..
وإن شكا أحدهما ألماً .. فروحي تكاد تنفصل همّاً لهما ..
لا زلت أتذكر ما حصل قبل سنتين .. الأشهر التي كان فيها والدي طريحاً للفراش .. كنت أحترق في داخلي .. وأشعر بأحشائي تتمزق .. حين أرى وجهه يعتصر ألماً .. وأحاول الوقوف شامخةً أمامه وأمي وإخوتي .. وما إن أصعد إلى غرفتي .. حتى أنهار من البكاء .. !
وشاء الله عز وجل .. وقام من فراشه ببعض من الآلام .. والتي كانت تلازمه في كل وقت .. !
لم نفتر عن الدعاء له ووالدتي .. لكن حكمة الله تعالى فوق كل شيء ..
فقد قرّر والدي الغالي .. إجراء عملية لإزالة الانزلاق الغضروفي في ظهره ..
ومن هنا .. سأحكي لكم تفصيلاً أرجو أن تتحملوه ..
أول مرة ذكر لنا والدي أنه يفكر في إجراء العملية .. صُدمت بقوة .. !
أنا أريد الراحة له .. لكني في نفس الوقت .. أحبه .. وأخشى فقده .. !
وكأن الفقد لا يكون إلا في المشفى .. !
لكن هذا الإنسان .. وهذه عاطفته ..!
دعوت الله له من كل قلبي .. أن يصرفه إلى ما فيه الخير والصلاح ..
وكنت جاهدةً أحاول تذكير نفسي .. بأن المكتوب واقع .. ولا فائدة من الهمّ .. !
وحين كنا معه في السيارة يوماً .. قال : بأنه قرر قراراً جازماً بإجرائها .. والطبيب شجعه عليها .. لكنه ينتظر عودته من الخارج ..
فسألته : هل فيها خطورة ؟ وكم نسبة نجاحها ؟
أخبرني أن الكثيرين يعملونها .. وترتاح أجسامهم بعدها .. وأن نسبة نجاحها فوق 90% .. والله الشافي سبحانه ..
سكت على مضض .. وأنا أتمنى من كل قلبي أن ينصرف عنها ..
...
وفي يوم السبت الموافق 26/3/1431ه جاءت إلي والدتي –حفظها الله- وأخبرتني بأن المستشفى اتصلوا على والدي يبلغونه بأن يوم الأربعاء هو يوم إجراء العملية له .. !
تضايقت .. جدّاً .. وتخدر جسمي وَجِلاً حين نقلت إلي الخبر .. لكني سلمت أمري لله ..
وفي اليوم التالي .. وبعد العشاء .. دخلت الصالة وإذا بأبي جالس فيها وأخواتي .. وبيده التقويم يقلبه .. رفع رأسه ونظر إلينا .. وقال : 1/4 تاريخ مميز .. !! يقصد تاريخ دخوله المشفى طبعاً ..
قالت والدتي : يا ليتهم يؤجلونها .. فقلت : إن تأجلت فهي الخيرة .. التفت إلي طالباً مني إعادة ما قلت .. ثم نظر إلي بابتسامة .. وقال هامساً على مضض : صحيح .. ! وكأنه لا يريد وقوع ما نريد ..!
كثيراً ما كرر لنا في هذا الأسبوع أن يوم الأربعاء هو يوم الراحة بالنسبة له ..!
...
جاء يوم الأربعاء الذي لا ينسى .. !
استيقظت من نومي وهمّ والدي لم يفارقني لحظةً .. !
وبعد أن صليت الظهر .. أخذت كتاباً ابتعته قبل أيام ؛ للشيخ سلمان العودة , بعنوان : (مع الله) ..
ونزلت للصالة .. وأنا أريد استقبال أبي حين يعود من عمله ..
انتظرت إلى أن دقت الساعة الثانية أجراسها .. ودخل الحبيب على عادته .. منادياً لريم ..
سلم علي .. ووجهه مستبشر ومبتهج .. سأل عن والدتي وإخوتي ..
وسألته عن موعد ذهابه .. وهل سيرتاح قليلاً ؟!
فأجابني : لا .. سأغتسل .. ونذهب للمشفى أنا وعاصم .. لا وقت للراحة .. !
وبالفعل .. اغتسل .. وتطهر .. وسلم على والدتي .. ودخل على رند وأيقظها من نومها يريد توديعها .. أرادت أن تقبل رأسه فقبل هو رأسها .. فأنزلت نفسها ليده فسبقها ليدها وقبلها .. ثم دخل على رزان وودعها وهي نائمة .. ونزل في الساعة الثانية والنصف أو تزيد .. وأنا أنتظره .. أريد توديعه قبل ذهابه .. !
وضع أغراضاً كانت بيده .. وأراني ورقةً وهو يقول : أوصلوها إلى فلانٍ من الزملاء .. وكأنه لن يعود حتى يوصلها هو ..!
وحين أراد الخروج سلمتُ عليه مقبلةً رأسه ويده .. وهو يقول : الله يكرمك يا بنيتي .. وابتسامته قد أنارت وجهه وهو ينظر إلي نظرةً رأيتُها نظرة مودّع ..!
أي والله هذا ما جاء في نفسي ..!
أحاطته ريم بذراعيها .. وضمته بقوة .. فضمها أكثر .. وسمعُها على بطنه وهي تقول : بطنك جائع ..!
ضحك من قولها ونظر إلي وهو يقول : بعذري يا بنيتي ما أكلت شيئاً من الساعة العاشرة .. !
ثم .. خرج .. وما لبث أن عاد ..!
وصعد الدرج وهو يقفز بعضه .. وأنا متعجبة من نشاطه المفاجئ .. إذ لم يكن هيناً عليه لهذه الدرجة ..!
هربت إلى المجلس .. وأنا أدافع العبرة .. ولا أريد رؤيته وهو يخرج ..
ثم عدت إلى كتابي وأنا أطرد ما تأكد في نفسي ..!
...
مرت علينا الساعات ثقيلةً صعبة .. إلى أن أرسل لنا عاصم في الساعة الخامسة والثلث يقول :
(دخل الوالد الآن غرفة العمليات..
دعواتكم له..)
رسالة صعبة .. لا أستطيع وصف المشاعر تجاهها .. !
استودعته الله من كل قلبي .. ولساني لا يفتر عن الدعاء له .. !
وبعد ساعتين ونصف .. أي في الساعة الثامنة إلا ربع تقريباً .. اتصلت بعاصم لأن الغالي يُفترض أن يكون قد خرج من غرفة العمليات إلى غرفة الإفاقة بناءً على كلامهم ..
لم يرد علي .. فاتصلت ثانية .. وثالثة .. وقلبي يكاد يخرج من مكانه ..
قلت : لعله يصلي ..
فاتصلت على المشفى .. وأنا في قمة الاضطراب .. لم أجد تجاوباً معي ..
إلى أن وصلت الدقائق .. الخمسة عشر بعد الثمان .. فاتصل عاصم .. وصوته مستبشر .. يقول بأن حبيبنا خرج إلى غرفة الإفاقة .. والعملية ناجحة ولله الحمد ..
ذرفت دموعي بشدة .. وسرت مسرعةً أبشر والدتي وأخواتي ..
انتظرنا إفاقته بفارغ الصبر .. لكن لم يأتينا خبر بهذا ..
خرجنا من المنزل الساعة التاسعة .. ونحن نحمل في أيدينا .. ما أوصانا به والدنا .. القميص الأبيض الذي يحبه .. شاحن الجوال .. علاقة للثياب ..
في السيارة .. اتصل عاصم يبشرنا بأنه أفاق .. وكانت الساعة التاسعة والربع .. لكنهم لم يحضروه إلى الغرفة .. زاد اطمئناني .. ولله الحمد ..
وحين وصلنا للمشفى .. دخلنا الغرفة المخصصة .. ونحن ننتظر قدومه إلينا ..
ومن هنا بدأت حكاية الألم .. !
...
فتحوا باب الغرفة على مصراعيه .. وأدخلوا سريراً يحمل أغلى إنسان لدينا .. في الساعة العاشرة إلا ثلث ..
موقف صعب .. عسِر .. مُذهل .. مُبكي .. مُدمي .. صفوا كيف شئتم ..
( نقلا عن ابنه عمي وفقها الله )
حكاية الألم ( 2 )
فتحوا باب الغرفة على مصراعيه .. وأدخلوا سريراً يحمل أغلى إنسان لدينا .. في الساعة العاشرة إلا ثلث ..
موقف صعب .. عسِر .. مُذهل .. مُبكي .. مُدمي .. صفوا كيف شئتم ..
حين رأت أعيننا الحدث .. حبيب مسجّى .. لا يملك أي قوة .. وهم ينقلوه من سرير إلى آخر .. !
لم تتحمل أخواتي المنظر فبدأن بالبكاء بصوت عال ..
بدأت أهدؤهن .. خشيةً من أن يضيق صدر والدي لأجلهن ..
ثم .. تقدمت والدتي للسلام عليه .. أتيت بعدها .. فتح عينه ونظر إلي وقال : هلا ببنيتي .. قبلت رأسه .. ولساني لا يستطيع النطق .. لأن دمعتي مربوطة معه ..!
سلمَت عليه أخواتي وأخي ..
وجاءت الممرضة تطمئن عليه .. ثم قالت : نبضات القلب ممتازة .. الحرارة ممتازة .. الأكسجين ممتاز .. لكن الضغط منخفض ..!
بصراحة لم أكن أعلم خطورة انخفاض الضغط وسببه .. وأرجو أن لا أعلم مرةً أخرى .. !
... ...
بدأت أمي بالقراءة عليه ..
وكان يستيقظ مرةً .. ويفقد وعيه مرات .. وفي إحداها .. أذكر أنه فتح عينه .. وكنت وأخي عاصم وأمي فوق رأسه .. فقال : كم الساعة ؟ قلنا : عشر .. قال : لم أصلّ المغرب ولا العشاء .. متى ينتصف الليل؟
قلنا : لا زال في الوقت بقية .. ارتح فقط ..
ومرة .. فتح عينيه .. ونظر إلى ريم مبتسماً .. ثم قال : هل شربت دواءها ؟!!
لا تعجبوا .. هذا أبي .. وهذه حنيته .. يحب أبناءه لدرجة أن ينسى ألمه أمامهم ..!
... ...
الممرضون .. يدخلون ويخرجون .. وفي وجوههم بعضٌ من القلق .. !
أنا لا أحب الغوص في الوساوس .. ولذلك فإنني أقول لنفسي كل لحظة : مجرد اطمئنان .. هذا شيء طبيعي .. وما أدراكِ أنت بعملهم .. !
كان ضغطه يرتفع فجأة .. وينخفض فجأة أخرى .. لكن أعلى ما وصل إليه أربع وثمانون .. وأقل ما عانى منه فوق الثلاثين .. !
ضربوه عدداً من الإبر .. وحين أتى طبيب التخدير ليضربه أول إبرة .. لم يجد عرقاً ليطعنه به .. !
فداه نفسي .. اختفت عروقه ..
استيقظ مرةً وكنت على رأسه أنا وعاصم .. نظر إلينا ثم قال : الساعة العاشرة والنصف ؟ تأكد عاصم من الساعة , وقال : نعم .. وهو يقول لي : ما شاء الله أبي كما هو في دقته ..
قال لنا : لا تفوتني الصلاة .. أريد أن أصلي ..
وحين أتى الطبيب إليه .. قال له : دكتور أريد الصلاة .. سأتوضأ .. رد عليه : لا تستطيع الوضوء يا عبدالله نحضر لك تراب وتتيمم .. قال : لا بل أستطيع .. !
ثم .. فقد وعيه ..
هم الصلاة لم يفارقه أبداً .. حتى وهو في أضيق الظروف ..
فتح عينه مرةً .. والتفت عن يمينه فرأى أمي .. ثم عن يساره .. فرأى عاصماً .. فقال : أين البنات ؟
أين ريم ؟ أتت إليه ريم .. وهي الصغيرة لم تتحمل الموقف .. وكانت تقف ورائي في أغلب الوقت .. تقول : ما أبغى أشوف أبوي كذا .. !
وحين وقفت بجانبه .. ابتسم لها .. ومد يده إليها .. وقال : تعالي بجانبي .. رفضنا صعودها إليه خوفاً من أذيته .. ثم قال : وأين رند ؟ جاءته وسلّم عليها .. وقال : أين رزان ؟ ففعل معها الفعل ذاته .. ثم قال : أين جمانة ؟ أتيت إليه .. فمد يده إلي .. صافحته .. وقبلتها .. وضغطت عليها قليلاً أريد تدفئتها من شدة برودتها ..
وحتى .. أملأ نفسي من حنانها .. !!
هل تريدون أن أخبركم .. بأن هذا هو الوداع الأخير .. مع حبيبي وقرة عيني .. وروحي التي بين أضلعي ؟!
نعم .. هذا آخر ما بيننا .. وكأنه أوقفنا جميعاً حوله .. ليقول لنا : قفوا مع بعضكم دائماً .. أريد أن أرحل والعُرى بينكم غليظة .. !
ايهٍ .. يا أب ..
بعد هذا الموقف بقليل .. وحين رأينا أنه لا جدوى من جلوسنا .. لأن حركتنا أربكت طاقم التمريض ..!!!
استودعناه ربنا .. وخرجنا إلى بيتنا بعد ساعتان ونصف تقريباً من الإحاطة به ..
مشاعرنا لم أصفها لكم في هذا الليلة .. ولن أصفها .. لأني لا أستطيع .. لا أستطيع أبداً .. !
الحكاية تزداد تعقداً .. ولذا فإن عباراتي ربما تكون كذلك أيضاً .. سامحوني .. أنا أحكي عن أبي .. أتعلمون ما معنى أبي ؟!! .. إذن التمسوا لي العذر إذا أذنتم ..
... ...
دخلنا البيت .. وهاتفنا عاصم .. نسأله عن الوالد .. أخبرنا بأن الوضع كما هو .. ويُرجى له التحسن ..
ذهب كلّ إلى فراشه .. وهو يحمل أطناناً من الهم ..
كنتُ متضايقة إلى حد الثمالة .. فأخرجت دفتري .. لأريح خاطري من بعض الألم ..
وما أن اضطجعت على فراشي .. في الساعة الواحدة والربع .. إلا ويرن جوالي .. قلت : اللهم لا طارقاً يطرق إلا بخير .. رأيت الرقم فإذا هو عاصم .. رددت عليه .. وأنا في قمة الخوف ..
سألته عن والدي مباشرة , فقال : على وضعه .. لا تنسوه من دعواتكم .. !
أقفل الخط .. ليتصل مباشرة .. ويقول : جمانة أنت عندك أحد ؟!!
قلت : لا ..
قال في تلكؤٍ بعض الشيء : أبي أخذوه للعناية ..
صُدمت : لماذا ؟ هل حصل شيء ؟
قال وهو يدافع عبرته : لا .. سيطمئنون فقط .. للرعاية الزائدة لا أكثر ولا أقل .. !
أرجوك ادعي له .. !
تخدر جسمي بأكمله .. ورجفت عظامي .. واعتراني برد شديد ..
الآن وأنا أكتب لكم ذلك أشعر بأن عظامي قد ذابت .. كيف بحالي حين تلقيت أصعب خبر في حياتي .. أسأل الله الرحيم .. أن لا أسمع أصعب منه ..
قمتُ وأنا أطمئن نفسي كالعادة .. !
وبعد مضي عدد من الدقائق .. بدأت الوساوس تجتاحني .. فاتصلت بعاصم لأقول له : أسألك بالله هل في والدي شيء تخفيه ؟!
قال : جمانة .. سأقول لك كل شيء .. وأنت بالذات لن أخفي عنك أي شيء .. !
قلت : هات .. واحتمل يا قلب ..!
ليُفاجأني : أبي عنده نزيف داخلي .. !!!
حروفي تتبعثر أمام هذا الخبر .. لكني أبشركم أني استقبلته بنفس هادئة .. سكينة ورحمة من الرحيم الرحمن ..
اتجهت إلى القبلة .. لأتضرع لمن بيده الحول والقوة ..
ومن الطريف المُبكي ؛ أني كنت أدعو : اللهم يا ولي نعمتي , ويا ملاذي في كربي , اجعل ما نخشاه من نزف والدي برداً وسلاماً عليه , كما جعلت النار برداً وسلاماً على إبراهيم ..
فيهتف هاتف في نفسي : ربما يكون البرد والسلام على أبيك .. هو قبض روحه ..!!
ثم كأني أتراجع عن الدعاء قليلاً .. وأعود له مذكرة نفسي بأن قضاء الله حاصل .. وهو الحكيم العليم الرحيم سبحانه ..
عشتُ ساعات من الكُرَب كأشد ما تكون الكُرَب ..
ليس لي حول ولا قوة ..
أتمنى إخراج دمي كله لوالدي ..
أتمنى فداه لو كان ذا بيدي ..
لكن ما نقول إلا :
الحمدلله على كل حال ..
رضينا بقدر الله ..
وحين بزغ فجر ذاك اليوم .. لم يكن مضيئاً كعادته .. وكأن الليل لم يودعنا .. بل ازداد سواده .. واشتدت ظلمته ..
كنت أحمل هماً آخر .. وهو : كيف ستعلم جدتي بما حصل لفلذة كبدها .. !
لم يخبرها عن دخوله العملية .. حتى لا يضيق خاطرها لأجله .. !
هو أبي .. يحافظ على ابتسامة أمه .. حتى وإن آل إلى أحلك الظروف ..
وإن كان في أشد الحاجة لدعائها له ..
لا يريد لقلبها الغم .. ولا لخاطرها الهم ..
اسعدي يا جدتي بهذا الولد الخلوق .. !
...
وهم مُكلفة به أنا وهو : تبليغ والدتي بما حصل .. لأني أخفيته عنها عُنوةً لترتاح قليلاً ..
ولكن .. يبدو أنها كانت راقدة على جمرٍ مُحرقٍ ..
فقلبها المحب الرقيق .. لا يحتمل مثل هذه المواقف .. !
...
دخلتُ عليها بعد أن استجمعت كل شجاعتي .. وحين رأت وجهي علمت بأن ورائي خبراً صعباً ..
قلت : والدي تعب قليلاً ..
بادرتني مباشرة : هو في العناية ؟
قلت : نعم .. احتاج بعضاً من الرعاية , فنقلوه إليها ..
وقع الخبر عليها كالصاعقة الفاجعة ..
ووضعت يدها على قلبها في تصبرٍ .. واسترجعت .. ثم التفتت إلي بهمسٍ تقول : هو حي ؟
اندهشتُ وخفت : نعم يا أمي حي .. لا تخافي .. لن يحصل غير المكتوب ..
ربما توقّعها من البداية بموته .. خفف عنها مصيبة دخوله العناية ..
الحمدلله .. الحمدلله ..
... ...
مضت بعض الدقائق .. ووالدتي في بكاءٍ ودعاء ..
هاتفتُ عاصماً أخبره برغبة أمي في زيارة والدي .. رفض رفضاً قاطعاً .. وهو يخاف من عدم تحملنا رؤيته وهو مسجّى تحت الأجهزة .. !
استسلمَتْ أمي في بادئ الأمر .. ثم فزعت إلى عباءتها وهي تقول : سأذهب سأذهب ولا تقولي لعاصمٍ شيئاً .. لبستُ عباءتي وراءها مسرعةً .. وانطلقنا إلى المشفى ..
وصلنا إلى غرفة والدي في قسم التنويم .. تأثرنا أكثر .. كيف أنه كان هنا قبل ساعات .. !!
وفجأة ..
حُمل إلى مكان أكثر عناية .. لأن وضعه أكثر خطورة ..
نتيجة خطأ طبي أدى إلى ثقب شريان ووريد ..
حدث من جرائه نزيف في البطن .. !
الحمدلله على كل حال ..
أخبرتُ عاصماً بقدومنا .. تضايق قليلاً .. ثم قادنا إلى ... العناية ..
وهناك .. وجدنا عمي أحمد واقفاً حوله ..
دخلنا ببكاءٍ مكتوم .. ورأينا ما لا تطيق العين رؤيته ..
حبيبٌ غالٍ .. أبٌ حنون ..
فوق سرير أبيض ..
حوله طاقم طبي ..
أدخلوا جميع ما يجيدون من أجهزةٍ .. في جسمه النحيل ..
وعيناه العسليتان .. مغطاةً بشاشٍ أبيض ..
وكأنهم يخبرونا .. بأن نظرته الرائعة .. الحنونة .. المُداوية ..
لن ترانا أبداً .. أبداً .. أتعلمون ما معنى أبداً ؟؟!!
أبدية دنيوية بالتأكيد .. وإلا فلقاء المؤمنين في الجنات .. وهو ما يجعل قلب المؤمن صابراً محتسباً ..
وقعت عيني على جهاز القلب .. وهو يصيح كل بضع ثوانٍ ..
رأيت حركة قلب والدي حبيبي ..
لكن قلبي الذي بين أضلعي .. انعصر .. حين رأيت الجهاز .. لا أعلم لماذا ؟!! .. ربما .. الخوف .. من النهاية .. !!
الحمدلله ..
قرأتُ عليه ووالدتي بضع آيات .. ممزوجةٍ بالعبرات والدمعات ..
حتى أخرجونا .. لننظر له النظرة الأخيرة ..
وقلبه ينبض ..
آخر نظرة نظرتها له .. حيّاً .. وهو بهذه الحال المُريعة ..
حبيبي .. ودعته .. واستودعته .. الباري الرحيم ..
لأتركه بين المشرّحين .. والجرّاحين ..
وداعاً .. أبي ..