- للكاتبة لجين
- (1)
ربيع القلب
للكاتبة لجين
(1)
لم يستغرب الجيران عندما رأوا السيدة العجوز القاطنة بالدور الخامس .. تفتح النوافذ كلها في الصباح الباكر .. وتطل بوجهها الذي لا تستطيع أن تميز ملامحه من كثرة التجاعيد المنتشرة به .. بالكاد تستطيع تمييز عينيها وهي تديرهما بأرجاء الشارع .. وتترك الشباك وتذهب مسرعة .. وما تبقى لها من شعر أبيض .. أصبح هشا كعيدان القمح الجافة .. تذروها الرياح ..
فيتعجب الناس ويتساءلون .. يا ترى ماذا يشغل هذه السيدة التي جاوزت الثمانين ربيعا ؟! نعم , مازالت تقوى على الكلام والحركة .. إلى حد ما .. ولكن ماذا يدفعها؟ ماذا وراءها ؟
تهرع السيدة العجوز من الشباك إلى الغرفة المجاورة لغرفتها الصغيرة .. والتي كانت غرفة ابنها الوحيد ربيع.. وهي تمشي بكل قوتها متعثرة في خطاها بسبب ملابسها التي طالت عليها .. والتي اعتادت أن تلبسها في الأربعين من عمرها .. فانكمش جسدها بداخلها .. ولم تملك المال لاستبدالها ..
توجهت إلى الغرفة .. اقتربت من السرير .. ومدت يديها في وهن .. تهز شخصا غير موجود .. موجود فقط أمام عينيها هي .. وهي تقول : ربيع مش هتصحى .. هتتأخر على المدرسة !!
ورأته يفرك عينيه .. وينظر إليها .. ويبتسم لها .. وهي تبتسم لسرير ابنها الغائب .. ويهتز جسدها كله كمن تذكرت شيئا هاما وخطيرا .. وعادت تتعثر في خطاها إلى أن وصلت إلى الطاولة الوحيدة في الصالة الضيقة ..
على الطاولة أطباق بها بعض الخبز القديم .. وأمامها كرسيان .. جلست على إحداهما .. تعد رغيف خبز جاف وضعت بداخلة كل المخللات القديمة .. وعادت تبتسم لطفلها الذي تراه قادما إليها .. وحقيبته الحمراء على كتفه بلون شفتيه وخديه .. ثم وضعت الرغيف داخل كيس أسود تعفنت بداخلة عدد كبير من أرغفة الخبز الجافة .
فأخذت الكيس بيد وأطبقت يدها الأخرى على يد الصبي .. وتوجهت به إلى خارج الشقة .. ثم على السلالم وهي تعدو بأقصى سرعة .. وهي تتمتم وتقول : براحة يا حبيبي أنا مش حمل شقاوتك .. وتهبط السيدة السلالم وهي تأخذ جرعات كبيرة من الهواء .. يرتفع لها صدرها الهزيل ويهبط .. لتحس به كأنه أصطدم بظهرها !!
منقول..
ولم تلفت انتباه أحد .. فقد تعود الناس رؤيتها تكلم نفسها ..
لا أحد يهتم بأمرها .. في نظرهم عجوز شمطاء مجنونة تعيش بمفردها ..
الأطفال يرونها مخيفة بشعرها القصير الأبيض الهش .. الذي يتطاير مع أقل نسيم للهواء .. بعض الأطفال اعتاد أن يقذفها بالحصى .. والبعض الأخر يردعهم عن ذلك فينشأ بينهم شجار يلتهون فيه ..
أما هي فتستمر في طريقها الذي ألفته منذ سنوات طويلة .. الطريق للمدرسة!!
أراحت يدها لتنزلق يده .. وأخذ منها الكيس الذي أنزلق من يدها .. ورأته يخطو نحو المدرسة بفرح .. يرى بعض الأصدقاء فيركض إليهم .. ثم يلتفت ويلوح بكلتا يديه وهو يصيح ماما ..
ويظل صدا هذه الكلمة يتردد في ذهنها .. ويتردد بلا توقف .. تجلس أمام مدرسته بصبر و خشوع .. كما اعتادت كل يوم .. فيظنها المارة شحاذة .. ويلقوا في ردائها الفضفاض النقود وهي لا تزال جالسة غير واعية بما يحدث حولها .. الجيران أيضا يظنون أنها شحاذة لها مظهر مسكين .. ولم يخطر ببالهم أي احتمال آخر .. إذ كيف تعيش بمفردها طيلة الأربعين عاما الماضية بدون عمل .. قابعة داخل منزلها القديم الذي لا يسكنه أحد غيرها .. فسكانه رحلوا عنه منذ عشرات السنين خوفا من سقوطه عليهم .
ولكن هي إلى أين تذهب؟ وهناك في تلك الشقة الصغيرة .. استمسك ابنها الصغير بقوة بيديها.. في حين يجذبه عمه من ذراعه إلى الخارج .. وسط صراخهما ..
فلم يجد الصغير غير نظراته يلقيها لأمه ليتشبث بها فتسللت لقلبها .. فخفق بشدة وكاد ينفجر ..
وأخذة بعيدا .. بعيدا جدا .. إلى حيث لا تستطيع أن تجده مطلقا .. وظلت سنوات تبحث عنه ..
تجوب الشوارع .. تصرخ في ميادينها .. لا ترى غير صورته التي لا تستطع أن ترى غيرها .. ولا تسمع غير صوته الدافئ الصغير .
يتبع....