- ويصرخ الأب من جديد ..
- " يكفي .. يكفي .. "
سيارة الإسعاف تشق ثوب الليل .. تقتحم هدوء الطرقات .. تغتال إغفاءة المصابيح .. تصرخ بأعلى صوت : هناك طفل يئن .. يتألم .. يتعذب .. وهناك قلب يخفق بحزن .. بخوف .. بهلع على طفله الصغير ..
و تمتد الأيدي برفق في أروقة المستشفى .. تحمل الطفل الوليد تحاول أن تهدئ من روعه .. من ألمه .. من دموعه .. من بكائه .. من صراخه ..تحاصره من كل جانب بالإبر .. والتحاليل والأشعات والخراطيم والمغذيات .. إبرة تختبئ هنا تحت عرق لا يزال طريا.. وهنا أجهزة لتخطيط القلب تعانق الخافق المضطرب .. ترجوه أن يعي الحياة .. ترجوه أن يضحك لها .. ترجوه أن يضبط إيقاعه على كل لحظة تعبر بسلام ..
وهنا خرطوم انغرس في خاصرته .. يحاول أن يساهم بشيء ما .. ليخلق أملا ما في حياة قد تكون و قد لا تكون ..
الأب كالتائه .. عيونه حائرة معلّقة على باب علقت عليه لوحة بلهاء تقول :
" ممنوع الدخول لغير المختصين ..!! "
يركض المختصون في كل اتجاه والأب يركض بين أقدامهم يبحث عن كلمة .. عن حرف .. عن إيماءة تسكن الراحة في قلبه ..
وفجأة .. يخرج الأطباء في موكب جنائزي .. نظراتهم ترعبه .. تمزق روحه .. تهوي بكل إشراقة ممكنة .. يطوقونه بنتائج أجهزتهم وتقاريرها :
انظر هنا .. طفلك ولد بقلب مشوه .. وحتى هذا القلب ليس في مكانه كبقية البشر .. انظر .. انه في الجهة اليمنى ..
وهذه أشعة اليدين .. انظر هنا .. إصبع ضامر في كل يد .. يعني لا يملك سوى أربعة أصابع في كل واحدة منها ..
وهذه أشعة الرأس .. هناك مشكلة خطيرة في الدماغ ..
وهنا مشكلة في الأمعاء .. و.. و ..
" يكفي .. يكفي .. "
صرخ الأب .. و لكن الأطباء يحاصرونه بالأسئلة هذه المرة ..
أين والدته ؟
هل هي من أقاربك ؟
هل تناولت أدوية ذات تأثير ضار ؟
هل تعرضت لأشعة عالية ؟
هل تعرضت لحالة تسمم ؟
هل تعاني من أمراض مزمنة أو طارئة ؟
ويصرخ الأب من جديد ..
" يكفي .. يكفي .. "
أريد صغيري .. أريد هذا الحلم الباكي الراقد هناك .. خذوا من جسدي ما تريدون .. خذوا من أيامي ما تشتهون .. أسعفوا وليدي .. أسعفوا فرحتي المكسورة واجبروا خاطري المحطم ..خذوا قلبي .. خذوا نبضي .. خذوا أصابعي .. هاكم شراييني .. هاكم ضوء عيني وبريق حياتي .. ولكن .. امنحوا فرصة لهذا الطائر الصغير أن يحلّق في عالمي .. في سمائي.. في حياتي ..
وينفض الجميع من حوله فيما ينتحي به أحد الأطباء جانبا ويقول له :صغيرك لن ينقذه شيء سوى إرادة الله .. سنتركه في الحضّانة تحيط به الأجهزة من كل جانب .. وقبل هذا تحيط به عناية الله ..
قال الأب : هل تعني أن الأمر انتهى؟
قال الطبيب بصوت مشروخ : إننا لا نملك لوليدك سواء الدعاء ..
وانسحب الطبيب بهدوء تاركا الأب غارقاً في مأساته ..
بكاء الصغير يعلو ونحيب الرجل يشتد .. ماذا يفعل ..؟ وكيف ينقذ أول مولود له ؟ الأطباء صارحوه : لا حل سوى الدعاء ..
رفع الرجل يديه داعيا من قلبه :" يا رب .. فوضت أمري إليك "
وما هي إلا دقائق حتى جاء من يهمس للرجل قائلا :" اصبر أيها الرجل وأحتسب .. لقد غرّد عصفورك في الجنة .. تجده هناك إن شاء الله شفيعا لك .. "
والسموحه