- الشيطان الهارب
- كلا ... كلا ! لن اصنع لك شيء ايها الاحمق ... انك لا تستحق اي شيء .
- فأجابها المسكين في هدوء قائلاً :
- بل سوف أذهب إلى هناك في التو واللحظة أيها الوقح!.
- لقد عثرت هناك على شجرة توت ضخمة, فإياك أن تقطفي منها ثمرة واحدة!.
- ونظر ايفان إلى قاع البئر وهو يقول:
- وعندما وصل إلى البئر أنزل فيها الحبل ثم صاح بأعلى صوته :
- اجذبي الحبل بشده حتى أعرف أنك هناك !..
الشيطان الهارب
كان إيفان فلاح صبوراً قانعاً , يرضى بما قسم له , ويميل الى احتمل مالا سبيل الى تغييره . فكان اذا نكب بتلف فالمحصول , او نفت له دابه او نفد طعامه , لا يفعل اكثر من ان يهز كتفه ويقول في رضا واستسلام : " انها ارادة الله !" .
وبمثل ذالك الصبر كان يحتمل ايضاً زوجته السليطة اللسان , على الرغم من ان خلقها كان اقسى من ان يحتمل . فكانت تهمل واجباتها المنزليه اهمالاً مزرياً وتاند زوجها وتخالفه كل ما استطاعت الى ذالك سبيلاً . وهكذا صار من المألوف ان تثير في كل يوم عاصفه من تأنيبها وضجيجها وشراستها .
كانت هوايتها المفضله هي مخالفت زوجها ! فإذا جدث ان طلب منها شيئاً رفضت اجابته وإن ابدى اعجابه بشيء اظهرت امتعاضها منه . اذا اقترح عليها عمل شيء حقرته مستخدمه في ذالك كل ما في جعبتها من الفاض قاسيه جارحه .
كان يطلب منها ان تستيقظ مبكره في الصباح فتتعمد البقاء في الفراش اطول مده ممكنه حتى لو كانت قد اخذت اكثر من حاجتها من النوم . بل انها كانت احياناً تمضي اليوم باكمله في الفراش لا شيء سوى ان تجعله يفهم جيداً ان لا سلطان له عليها اما اذا كان يطلب منها ان تبقى في الفراش وتنام , فسرعان ما كانت تقفز من سريرها وتسلط عليه قذائف سبابها , ثم تمضي بقيه اليوم وهي تثرثر وتبعث ثوره في المنزل دون ان يدركها تعب او ملل , كل ذالك لتجيبه انها لا تريد ان نام !
وذات يوم طلب منها ان تصنع له فطيره . وما كاد ان ينتهي من طلبه حتى بدأت تصيح في وجهه وقد تلاحقت انفاسها من فرط ما كانت تسرع في الكلام :
كلا ... كلا ! لن اصنع لك شيء ايها الاحمق ... انك لا تستحق اي شيء .
فأجابها المسكين في هدوء قائلاً :
ما دمت لا استحقها , فأنني لا اريدها ! فما كادت الزوجه تسمعه يبدي عدم رغبته في الفطيره حتى انطلقت الى المطبخ في حركات جنونيه وهيه ترغي وتزبد وبدأت تصنع فطيره كبيره في وعاء يسع ستت ارطال , وعندما انتهت من صنعها وضعتها امامه وارغمته على ان يتناولها عن اخرها , فأخذ المسكين يحشو بطنه بالفطيره التي لم تكن قد طهيت جيداً , في حين وقفت هي امامه تصيح وتثور وترغمه على الاسراع في التهامها , واضطر المسكين في النهايه الى ان يلعن الحظه التي فكر فيها في الفطيره . واقسم ان لا يذكر امام زوجته اي شيء من الطعام .
على ان صبر إيفان بدأ ينهار امام طغيان زوجته وشراستها . ولم يحدث ذلك طفره واحده بطبيعه الحال . وانما اخذا ينمو شيء فشيئاً . فبد ان كان يهز كتفيه مؤمناً على قسمته ونصيبه , راضياً بالجحيم المنزلي الذي كان يعيش فيه , بدأ يفكر فيما حوله - يفكر فقط – فهذا القصا ما كان يستطيع ان يفعله .
غير ان تفكيره اخذ يزداد يوم بعد يوم ساقه هذا التفكير الى انه ليس من الصواب ومن العدل ان تعامله زوجتها بمثل تلك الغلضه والقسوه . على انه لم يستطع ان يفعل شيئاً يوقفها به عند حدها .
ذات يوم خرج الى الغابه ليجمع شيء من التوت . واخذ يتجول في دروبها حتى وصل الى مكان لم تقع عليه عينه من قبل . وابصر امامه شجره رائعه تحمل ثمراً فاخراً شهياً . فعمل على تسلقها حتى ينتقي منها ما يشاء ولكنه لم يكد يخطو نحوها بضع خطوات حتى تملكه الذعر , ثم ارتد للخلف وقد تشبثت عيناه بقطعت الارض المائله امامه . ولقد وقع بصره على بئر عميقه مخيفه كادت تنزلق فيها قدماه لولا ان تنبه اليها في الحظه الاخيره .
واستجمع شجاعته وتقدم من البئر في بطئ وحذر ليرى مادا يمكن ان يكون في قاعها . وعندما وقف قريباً من حافتها التقط حجراً والقاه في داخلها . ولكنه لم يسمع له اي صوت . فأمسك بحجر اخر والقاه وانصت له جيداً عله يسمع له صوتاً لكنه شيئاً لم يصل الى أذنيه .
وراح يسائل نفسه عن الغرض الذي يمكن أن تكون تلك البئر قد حفرت من أجله . ولم يهده فكيره الى شيء . اذ لم يتبين لها فأئده في مثل تلك البقعه النائيه المهجوره . ولكنه جعل يحدث نفسه بأن بئراً كهذه لا بد أن تكون قد أنشئت للاستفاده منها في شيء معين . أما ما هو هذا الشيء . فذلك ما لم يستطع ان يصل اليه . وأخذ هاتف في أعماق نفسه يقول له ان أقدامه لا يمكن ان تكون قد ساقته إلى تلك البئر بالذات دون أن يكون وراء ذلك هدف رسمه له القدر . وهكذا بدأ ايفان يحاول الوصول إلى ذلك الهدف فراح ينظر طويلاً في قاع البئر عله يجد فيه السر المنشود .
وحالما استقرت في ذهنه فكرة امتلكت زمامه امتلاكاً شديداً . فأنشأ يقول لنفسه :
لماذا أمضي حياتي في شقاء مع زوجه قاسيه غليظة الطباع ؟...
وكانت الفكره أسكرته فراح يردد من جديد :نعم , لماذا أحكم على نفسي بالشقاء مع زوجه مشاكسة فظه ؟... ألأيس المكان الملائم لها هو قاع هذه البئر ؟... انها كفيله بأن تعلمها كيف تهذب طباعها !.
وقفل عائداً إلى منزله وقد تمكنت الفكره في رأسه . وعندما فتحت له زوجته قال لها في لهجه حازمة :
أيتها الزوجه ... انني أريد أن أجمع التوت بمفردي, ولا أريدك أن تشاركيني في جمعه.... أفهمت؟
بل سوف أذهب إلى هناك في التو واللحظة أيها الوقح!.
لقد عثرت هناك على شجرة توت ضخمة, فإياك أن تقطفي منها ثمرة واحدة!.
لم تجبه زوجته بشيء, بل حدجته بنظرة احتقار وهي تحدث نفسها بأنه لا بد أن يكون أصابه مس من الجنون حتى يجرؤ على مخاطبنها بتلك اللهجة الصارمة. ولم تشأ أن تضيع وقتا في معاقبته على وقاحته وتهوره, بل أسرعت الى المطبخ وحملت سلة وانطلقت بها في أثره تريد اللحاق به حتى تمنعه من قطف الثمار.
وأخيرا وصل ايفان إلى شجرة التوت بعد أن أعياه الركض في مسالك الغابة التي لا تكاد تنتهي. أمام الشجرة ببضع خطوات وقف كأنه يريد أن ينقض عليها قبل زوجته. لكن الزوجة الخبيثة لم تلبث أن دفعته من طريقها, ثم قفزت مسرعة لتصل إلى شجرة التوت. وبعد برهة كانت قد اختفت في البئر المظلمة.
ونظر ايفان إلى قاع البئر وهو يقول:
لقد تبدد من حياتي الكابوس المروع!ثم عاد إلى منزله وهو يمني نفسه بسعادة (زوجيه) هانئة في المستقبل!.
ومضت أربعة أيام شعر خلالها ايفان براحة لم يعهدها من قبل . ولم يكن يفكر على الاطلاق فيما صارت إليه زوجته . على أنه لم يلبث أن أحس برغبة في التوجه إلي البئر ليرى ماذا عساه أن يكون قد حدث لها هناك . وهكذا حمل حبلاً طويلاً ومضى إلى الغابة .
وعندما وصل إلى البئر أنزل فيها الحبل ثم صاح بأعلى صوته :
اجذبي الحبل بشده حتى أعرف أنك هناك !..
وحالما شعر بالحبل ينجذب إلى أسفل أخذ يشده إلى أعلى . لكنه تبين الجسم الممسك بالحبل كان أثقل بكثير من زوجته . فعمل على رفعه بأي ثمن . وبعد مجهود عنيف متواصل , رأى أمامه على حافة البئر شيطاناً صغيراً على جانب كبير من البشاعة . فأمسك به ايفان وتأهب للقائه ثانيه في البئر , ولكن الشيطان القبيح الخلقة نظر إلى ايفان في ضراعة وقال له :
افعل بي ما شئت ايها الفلاح الطيب ولكن أتوسل اليك ألا تعيدني إلى البئر ........ لا تعيدني اليها أبداً . ففي قاعها توجد امرأة بغيضة شرسة جعلت حياتي أنا وزملائي الشياطين جحيماً لا يطاق .
ورق قلب ايفان للشيطان البائس فأطلق سراحه !.
(( النهايه ))
عن ليو تولستوي
مختاراة من
روائع
القصص العالميه
إعداد منير وجوزيف عبود
حتى الشياطين ماسلمو منها لوول