" الطبيب المريض " رنين منبه الساعة اخترق سكون الغرفة ، مددت يدي إليها لإغلاقها لكنها لم تكن قريبة بالقدر الكافي ، فتحت عيني بحثا عنها ، وعندما أردت إغلاقها كانت الساعة السابعة ، نهضت من فراشي بسرعة تفوق الريح ، وتردد في أُذني تهديد مديري في العمل :-
- حسان سأرفع خطاب شكوى إن تأخرت مرة أخرى عن العمل .
غسلت وجهي وبدلت ملابسي ، وركبت السيارة واتجهت إلى عيادتي وأنا أتذكر حالي سابقا ، وكيف كنت مثالا للطبيب النشيط المحافظ على الدوام .
دخلت الغرفة التي طالما اقشعر جسدي من سكونها ، برد قارس ، وظلام دامس ، وطبيب يائس .
كنت خلال ثلاثة أشهر أشعر بصداع وتقلب في المزاج ورغبة شديدة في البكاء ، وكل يوم يأتي يكبر معه هذا الشعور ، أصبحت أكره الحياة ، والمنزل والمستشفى وال
عيادة والممرضة والمرضى ، أصبحت أكره كل شيء ، أولادي وحتى والدّي ، آه من دنياي ، كنت مغمورا ، فأصبحت في غضون سنوات مشهورا ، والآن .........
دق هاتف ال
عيادة ، وكسر هدوء المكان لتتناثر شظاياه في الأرجاء ، توجهت نحوه ورفعت السماعة وبصوت هده الإعياء .
- نعم ، الدكتور حسان يتكلم ، من معي ؟
- حسان ! حضرت مبكرا اليوم ما الخطب ؟
- نعم دكتور فؤاد أنا موجود ، هل من خدمة ؟
- أردت فقط أن أطمئن على حضورك ، أم لماذا لم توقع على حضورك في الإدارة ؟
- هاه ...... حسنا سأحضر حالاً .
وفي طريقي كنت مستعدا نفسيا وعقليا وسمعيا لصرخة قاضية على جسدي المتهاوي من مديري فؤاد .
دخلت الغرفة بخطىً مرتجفة ، وكتبت اسمي ووقعت بجانبه التفت ناحية الباب ، فنادى علي المدير ، وبحركة بطيئة أشبة ما تكون بمقطع من فلم درامي التفت نحوه ومرت صورة وجهه ، وهو عابس مقطب الحاجبين ، ويصرخ في وجهي بقوة ، لتخرج صرخاته قطرات من لعابه ، فتبرد وجهي بعد أن اصطدمت به سموم كلامه الحارق .
فوجئت بنظرات لم أعهدها من مديري ، نظرات لم أر مثلها قط مذ دخلت هذا الصرح الذي عشت فيه عراكا مستمرا مع الوظيفة .
صوت المدير قطع علي تخيلاتي فجاء هادئا غير أنه بارد كبرودة الأجواء حولي .
وهنا جاءت نبرته الحادة القوية الصارمة
§ إذن باشر العمل فهناك مرضى في انتظارك .
خرجت من الغرفة وأنا أغالب دموعي وأحاول ألا أدعها تخذلني أمام الجميع فأنا حسان الطبيب النفسي المشهور في المدينة .
وعند الممر أمام غرفتي كان هناك مريضان ، يبدو أنهما مرهقان ، ومن التعب ف الليل ساهران .
دخلت عيادتي ، و أشعلت مصابيح الغرفة، و أغلقت الباب وبدأت بترتيب أوراقي ، ثم لبست معطفي .
جلست على مكتبي , وأخرجت الأقلام والسجلات ، لأبدأ يوما كغيرة من الأيام إن لم يكن أسوأ منها .
دُق الباب ، ودخلت الممرضة ، وضعت الملف أمامي وقالت :
§ هل أُحضر المريض ؟
§ نعم أحضريه .
دخل المريض الأول في هذا اليوم وجلس على المقعد .
- في نفسي : أنا المتعب من سماع هذا الكلام وهل يأتي المستشفى غير المتعبين .
- يا دكتور أشعر بصداع وتقلب في المزاج ورغبة شديدة في البكاء أصبحت أكره حياتي .
أخرجت ورقة وكتبت عليها " دواء أقراص ,آخر شراب لإزالة الاكتئاب موعد الزيارة بعد أسبوع "
وناولته إياها مع بعض التوجيهات وختمت بالدعاء له بالخير والسعادة في الدارين ، وخرج .
دخلت الممرضة ومعها المريض الآخر وبيده ملفه الذي أبى إلا أن يسلمني إياه يدا بيد .
أشرت له بيدي ليجلس على المقعد وأمرت الممرضة بالخروج .
§ تفضل يا أخ قل ما عندك .
§ السلام عليكم .
§ وعليكم السلام و الرحمة
§ كيف حالك يا دكتور
§ في نفسي :- حالي يُرثى لها
§ ماذا لديك ؟
§ دكتور إني أُحبك في الله .
§ فقط ........
وهنا تغيرت نبرة صوته .
§ دكتور أنت لا تعلم ما بي ذهبت لجميع الأطباء النفسيين في مدينتي ولم أجد حلا لما أُعاني منه وكلما أخبرت أصدقائي ومعارفي عن حالتي بالذهاب إليك
§ قلت في نفسي :- كل هذا لا يهمني ، يا لهؤلاء المرضى يبعثون الممل والنكد في حياتي بقصصهم المملة والطبيب النفسي لابد له من أن يسمع كل حرف يتفوهون به .
واستطرد المريض قائلا :-
§ أرجوك يا دكتور ساعدني فأنا أشعر بصداع وتقلب في المزاج ورغبة شديدة في البكاء ، أصبحت أكره الحياة يا دكتور .
مددت يدي مرة أخرى وكتبت على الورق"دواء أقراص وآخر شراب لإزالة الاكتئاب موعد الزيارة بعد أسبوع" سلمته إياها وألقيت عليه بعض التعليمات ودعوت له بالسعادة في الدارين ، وخرج .
دخلت بعدها دوامة مدة ساعة ، تأملت حال المريضين السابقين ، صداع وتقلب في المزاج ورغبة شديدة في البكاء وكره للحياة ، يا لهذه الدنيا ، كم أحزنت الكثير ، وقطعت نياط قلوب الكثير ، و أسهرت الليالي الطوال الكثير .
الكثير من صغير وكبير ، والكثير من رجال ونساء والكثير من عاملين وغير عاملين ، والكثير الكثير، من معلمين وإداريين وأطباء ، نعم أطباء أمثالي ، أصبحوا أسرى للأمراض النفسية ، يعانون الصداع والتقلب في المزاج والرغبة الشديدة للبكاء والكره للحياة .
خرجت مهرولا من غرفتي إلى غرفة زميلي جمال ، الطبيب النفسي ، وطرقت الباب طرقات متتاليات .
§ تفضل
فتحت الباب وما إن أطل وجهي
§ حسان ما بالك يا صاح أُدخل تفضل .
جلست على الكرسي .........
بعدها ..........
سكون رهيب .......
قطعته بقولي :-
§ دكتور جمال أعاني من صداع وتقلب في المزاج ورغبة شديدة في البكاء وكره للحياة
أخرج ورقة وكتب عليها "دواء أقراص وآخر شراب لإزالة الاكتئاب موعد الزيارة بعد أسبوع"
وسلمني إياها وهو يقول :-
" دكتور حسان كل في حاجة الآخر ولا أحد يستغني عن الآخرين فسبحان الواحد الصمد الذي يصمد إليه الناس في حاجاتهم فيعطيهم وهو غني عنهم "
انتهى؛؛؛ ها أبي أشوف ردودكم
عن جد روعه