تأملات جريح غزة

تأملات جريح غزة 3
بآهات مدوية في الأعماق ،
وزفرات مجلجلة في الآفاق ،
استقبلت نور الضوء صباح اليوم .
إنه النهار يعم المكان بلا موعد ، ويلج الدواخل بدون استئذان .
لا يدري أني لا رغبة لي في تتبع دوران عقارب الساعة .
ولا في معرفة ما يجري ويحدث من حولي ،
أحاول منذ أيام خلت عقلنة ما أرى واسمع ، بدون نتيجة ولا جدوى .
غارات متوالية على كل مكان ،
ودمار شامل لكل موقع ،
وأرواح بريئة تزهق ،
وحرمات وذمم تنتهك ،
وأموال وحقوق تداس .
أنا ...
لم أعد مهتما بسلامتي ، حين حاصرتني جدران بيتي المحطمة ،
وإنما أشاهد بأم عيني وأصغي بملء مسمعي ،
ولا قدرة لي على التدخل أو التصرف ،
لما أنهارت السقوف ،
فأطمرت أمام عيني جثث فلذات كبدي :
ابني وبناتي وزوجتي ،الذين فاجأتهم أكوام الردم المتهاوي
فعانقوا بعضهم وانتحبوا واستغاثوا ،
ثم رددوا الشهادتين والتحقوا تباعا بمواكب الشهداء .
أتتبع رمقهم بأصواتهم ،
فكلما ضعف صوت أحدهم أو خبا ، تيقنت أنه يودع ويستعد ،
فأقيم له مع نفسي مأتما
وأصلي له ولكل شهيد صلاة الزفة والوداع ،
تأخرت عن الركب ابنتي الصغرى ،
بقي ولا زال أنينها يتردد على مسمعي إلى الآن .
داهمتني حالة إغماء ،
فقدت بها وعيي ، كما فقدت أعز الأقرباء من أهلي .
ثم فتحت عيني على أسرة وأطقم العلاج بالمستشفى ،
وعلمت أني المتخلف الوحيد عن ركب الشهداء الابرار .
آه ... آه ...
لقد فات أوان قرار وقف الحمم والشظايا والدمار ،
وما الذي ساستفيده من هذا الوقف ؟
بعد جائحة ...
اتت على الأخضر واليابس ببيتي ومدينتي ،
واكتسحت كل معالم الحياة بأرضي ،
وأزهقت الارواح الزكية دون تمييز ولا اختيار .
وما الذي سأجنيه من القمم وتعددها وتوصياتها ؟
ما دمت أتألم جريحا ، وأعاني وحيدا .
وأقف بالساحة منفردا .
بعد رحيل من ودع واستبسل واستشهد ،
وبعد تنكر وتراجع من ظننته المؤازر والسند .
إني ... أراني ...
أراني ألفت السواد فغدوت متشبتا بحلكة الليل ،
مبهورا بظلامه الدامس ، حيث لاءم لونه حالي ،
واستصاغ فواجعه كياني .
أقضي الأوقات أتقلب في سرير آلامي ،
مترجيا حلول سنة دون جدوى .
تجول بخاطري موجات الأحداث والفواجع التي شاهدتها وعشتها ،
وتعرض أمام عيني تباعا - مع هديرها - أشرطة الانتقام الحاقد .
والتصفية العنصرية الممنهجة والمبرمجة والمقصودة ،
مصحوبة بعويل مزعج ،
ونعيق صاخب ،
تؤرق مضجعي ،
تزعجني ،
تنتزعني من كياني ،
وتطوح بي من شاهق
فأهوي مفجوعا نحو قرار سحيق .
لقد ...
كتمت أنفاسي واستجمعت قواي
محاولا استبدال ما أشاهد بفتح سجل الحلو من ذكرياتي ،
علني أتسلى بها ،
وأخفي باستعراضها دواعي الانزعاج والأرق والقلق والتجافي ،
وأستقطب ممهدات الطمانينة والهدوء ،
فلم أعثر إلا على ما ازددت به بعدا عن الراحة والهناء والاسترخاء .
احترت في أمري ، وانتابني صداع شق رأسي نصفين ،
يواكبه طنين قوي صك أذني ،
فطفقت عاجزا ، مشلول السمع والنطق والتفكير .
تساءلت مع نفسي ،
كم هي مهمة نعم الهدوء والسلام
في حياة وصحة وسعادة الإنسان ؟
وأنى لي أن يرقد لي جفن
أو تغمض لي عين
أو أخلد إلى الراحة
أو أجد السعادة والسلام
مع تواجد الذئاب المفترسة
التي تنهش لحم أبنائي
وترتوي بدماء كل جريح وشهيد من أهلي فوق أرضي وبجوار إقامتي وحيي .
منقول لعيونكم