- أظنني الوحيد الذي لم يتمكن منه النوم بعد.. استثناءا للسائق طبعا ...
- و لكن لا... لا يجب أن أنام.. فموعد نزولي قريب لا محالة ...
- و بعد أن طُفت عليه وتفقّدتُ المكان حوله، تأكدتُ تماما أنه مهجور ...
- ( تشراك !! )
( تنبيه ) ارجو من ضعاف القلوب عدم قرائتها ******** الهدوء التام... يبدو أن الكلّ نيام القافلة تواصل ركضها المسعور، محاذية حقولا و أراضي وارفة، مُظلمة ..
أظنني الوحيد الذي لم يتمكن منه النوم بعد.. استثناءا للسائق طبعا ...
أهرب ببصري من ظلمة المكان إلى الخارج... لا توجد مصابيح إنارة بهذه المنطقة.. بل أستطيع الجزم أني أكاد لا أميّز شيئا ماعدا رؤوس الأشجار وقد لامسَتها أشعة القمر الفضية ..
تحسّست ذلك الخدر اللذيذ يتربص عينيّ... إنه النوم أخيرا.. هذا الضيف المحبوب الذي ننتظره حينما تفتك بنا هموم الحياة و مشاغلها فتكا و تُردينا سكارى مُترنحين.. نترقب قدومه و نتلهف سماع قرع خطواته الساحرة، تلهّف و ترقّب العاشق الولهان ..
و لكن لا... لا يجب أن أنام.. فموعد نزولي قريب لا محالة ...
لطالما ترقّبت هذا اليوم بقليل صبر و اصطبار... يوم السفر إلى القرية، حيث ينتظرني عمّي الحبيب لأمضي أياما طوالا في ضيافته.. و ما أحلاها من أيام !..
ولكن المعضلة التي شغلت ذهني وعكّرت صفاء بالي منذ صعودي الحافلة هي كوني سأضطر إلى اجتياز هذه الحقول اللانهائية و في هذه الظلمة الظلماء بحثا عن بيت عمي العزيز!.. إنما الغلطة غلطتي.. ما كنت لأسافر بهذا الوقت المتأخر من الليل !..
نفضت عني النعاس و حاولت التسلّي بالاستغراق في التفكير حول مشكلتي السخيفة.. علّني أجد طريقة لتفادي المرور وسط المزارع المخيفة ..
عيناي تنتظران الجسر إياه، كي أصرخ في السائق أن يتوقف... ذلك الجسر العتيق الذي يعلو نهرا من أضخم أنهار البلاد.. كم استمتعت بالسباحة على ضفافه و أنا ابن السادسة.. كنت حينها ...
بُترت سلسلة أفكاري على حين غرة لمّا لاح الجسر شامخا أمام ناظريّ.. اعتدلت مكاني بعنف و صرخت :
- هنا أيها السائق... هنا من فضلك !!..
- اللّعنة !!..
كان هذا أحدهم طبعا، و قد اقتلعه صراخي من سباته اقتلاعا، و هو يتذمّر بعصبية محاولا الإعراب عن قلة ذوقي و عديم إحساسي و كذا همجيتي.. وهذا من حقه بالتأكيد ..
استجاب السائق لطلبي ببرود وضغط الفرامل ليستيقظ باقي الركاب و يبدأ اللعن و الشتم ...
نزلت السلّم بحذر مزعج وأنا أتوقع السقوط على فكّي السفلي في أية لحظة ..
غمرني دخان الحافلة الكريه وهي تبتعد.. برد قارص صفع وجهي.. غادرت الطريق بخطى متثاقلة ثم توقفت محملقا في الظلام الذي يحاصرني من كل صوب و حدب ...
أتمنى تذكّر موقع المنزلِ و قد انقضى على ذهابي إليه آخر مرة ما يناهز أربع سنوات.. مع فارق بسيط.. فقد اهتديت إليه حينها تحت ضوء النهار.. أما الآن فلا أكاد أتبيّن شيئا !!..
و لكن لا بأس.. هناك مصباح يدوي.. أظنه سيَفي بالغرض ...
نثرت الضوء أمامي و أنا أتقدم بممرّ ضيق وسط حقل شاسع من الذرى... أسمع نقيق الضفادع بمكان ما و خترشة الجراد الرتيبة قد بدأت تألفها أذناي ...
لا أذكر شيئا عن الطريق التي سلكتها قبل أربع سنوات، و لكنها حتما قرب الجسر ...
التقطتْ عيناي جسماً غريبا !!.. و بشكل لا إراديّ تسمّرتُ مكاني و انقبض قلبي قبل أن أميّز ماهيته بالضبط !...
جسم يبدو آدميا جدا... لكن المرعب فيه هو كونه معلّقا !.. إن لم أقل مشنوقا إلى غصن شجرة ضخمة !...
توقفتُ مذعورا... بلعتُ ريقي بصوت مسموع و ارتجفتْ بقعة الضوء أمامي و أنا أفكر في الهرب إلى... إلى أين ؟ .. أدركت أنه لا مجال للفرار.. و بصعوبة جمّة سلّطت عليه ضوء المصباح ...
انتصب شعر رأسي بعنف، وتجمّع الدم بدماغي حتى قارب الانفجار... ثم، و بشكل مفاجئ، شعرتُ بسريان الدم من جديد في عروقي الخاوية و استرجعتْ أشواك رأسي ليونتها عندما فهمتُ أن الجسم لا يعدو مجرد فزّاعة نصبها أحد الفلاحين لإرعاب الطيور.. و الأشخاص المغفّلين مثلي ..
استشعرتُ الهواء البارد يداعب وجنتاي وكأنه كان قد توقف بدوره من هول الصدمة !.. بصقتُ بعصبية و لعنتُ الليل و الحقل و الفزّاعة و نفسي و.. وعمي... أعلم أن عمي لا دخل له في كل هذا و لكنني لعنته على أية حال !..
واصلتُ التقدم بالممر الحجري إياه محاولا تذكير نفسي بكوني رجلا كهلا و ليس طفلا غبيا يبلل سرواله الداخليّ لأسباب تافهة ..
تبا !.. ما أطول هذا السبيل... ربع ساعة و أنا أجرّ قدميّ دون أن أعثر للحياة من دليل ...
كشف ضوء المصباح الشاحب عن منزل ما خلف إحدى الشجيرات... هذا جميل!.. بل رائع!.. تقدمت نحوه متوغلا بحقل الذرى و أنا أدندن بأغنية ما كدليل على فرحتي ...
كنت أُبعد سنابل الذرى عن طريقي بيدي اليسرى و أحمل باليمنى المصباح الذي يتفحص بحذر جدران المنزل إياه ..
لماذا يبدو مهجورا إلى هذا الحد ؟.. هل هي نوافذه المّرة ؟.. أم بابه الخشبي المهترئ و الذي لم أحبب منظره كثيرا ؟ ..
لم أشأ الاقتراب أكثر.. و أجهل المبرر ...
و بعد أن طُفت عليه وتفقّدتُ المكان حوله، تأكدتُ تماما أنه مهجور ...
لكن ما لم أستسغه جيدا هو كون هذا المنزل الوحيد هاهنا، و الظاهر أنه لصاحب الحقل... و مادام مهجورا !.. فمن يعمل بالأرض إذن ؟ ..
تواثبت هذه الأفكار في ذهني بينما أبحث بعين المصباح عن شيء ما... في الحقيقة كنت أبحث عن منزل آخر يُفترض أن يكون لصاحب الحقل.. أيّ منزل يحمل إمارات الحياة البشرية لتتلاشى عنده أفكاري المرعبة.. بيد أنني - لسوء حظي - وجدت نظريتي المخيفة، والتي تقتضي أن يكون هذا المنزل اللعين بجانبي مِلكا لصاحب الحقل.. وجدتها صائبة تماما.. بل أصبحتْ حقيقة قائمة بذاتها بعدما لمح مصباحي أشجارا ضخمة ترسم حدودا للحقل !!..
حِرت و لم أعرف جواب ذلك السؤال الذي كان سيرتطم برأس أيّ مخلوق مكاني .. " ما العمل ؟ "...
سأمتُ منظر السّنابل على يميني، و شعرتُ بتقزّز غامض كلما سلّطتُ الضوء على جدران المنزل على يساري ..
داهمتني فكرة جنونية على حين غرة... لماذا لا أبيت بالمنزل حتى الصباح، و من تمّ أواصل بحثي ؟ ..
ارتجف جسمي لهول الفكرة... فما من شيء أهابه في حياتي أكثر من المنازل الفارغة !!..
ولكن من جهة أخرى، أجدني في الخلاء، وسط حقل مترامي الأطراف هو حتما مليء بالحشرات و الزواحف ...
ارتعشت فرائصي مرة ثانية و أنا أرمق المنزل بعينين ضائعتين... و لم أدري، حينها، لمَِا خُيّلت إليّ نافذة من نوافذه المحطمة وجها لشبحٍ يبتسم !!..
و أنا منغمس تماما في أفكاري الهوجاء تناهى إلى مسمعي صوتٌ أشبه إلى فحيح الثعبان من أيّ صوت آخر ...
اقتُلِعت من نفسي اقتلاعا والتفتُّ لا إراديا نحو مصدر الفحيح، وقد كان على يميني مباشرة !..
اتسعت عيناي من فرط الصدمة.. فهناك على غصن شجرة زيتون فتية.. تدلت أفعى رقطاء، يلمع جسمها الرشيق تحت ضوء القمر ..
اقشعرّ بدني وأنا أتفحصها بضوء المصباح المتهالك وقد تأكّدَتْ بداخلي رغبة المبيت بالمنزل ...
و بغُصّة في الحلق تقدمت نحو البوابة المتآكلة مُردّدا دعاءا ما ...
لم أتوقع أن تكون البوابة سهلة الفتح إلى هذا الحد !!.. فما إن دفعتها بجهد تافه حتى سُمع ذلك الصّرير الشهير الذي يصدر عن أيّ باب قديم في العالم ..
ماذا رأيت بالداخل ؟... في الواقع لم أر شيئا بالمرة.. فالظلام كان كثيفا لدرجة غير عادية !..
كنت أتابع بقعة الضوء بنهم وهي تبدد السواد و تكشف عن أثاث باليّ، مُغطّى بذلك الثوب الأبيض المثير للوحشة.. وطبعا هناك خيوط العنكبوت في كل مكان ...
صَعُب عليّ التقدّم.. ولكني تقدمت، متمنيا ألاّ يق الباب لوحده بصوت مدوّي كما في أفلام الرعب !... إلاّ أن ذلك لم يحدث لحسن حظي ..
واصلت الخطو بحذر شديد ولُهاثي المضطرب قد بدأ يزعجني... جوّ رطب ثقيل يجثم على صدري ..
هناك دُرج حلزوني يصعد لأعلى.. نقش جميل على الجدران.. غريب !.. هذا ليس بناءا عربياّ، بالتأكيد ..
إطارٌ ضخم تتوسّطه صورة رجل عجوز يطالعني بفتور... تمثال هنالك، لم أحدد ملامحه جيدا.. و ...
صوت صرير الباب ورائي !!.. لا بأس.. ما لي أرتعش هكذا !.. إنما هي الرياح بلا شك... نعم.. لا بد أن تكون الرياح، لأنّ ...
( تشراك !! )
هل أستطيع القول أن قلبي توقف عن النبض ؟.. لا.. إنه أمر مُحال في عالمنا.. و لكني أستطيع القول، على الأقل، أن الأوجين لم يعد يتخلّل أنفاسي فضلا عن شراييني، عند سماعي لدويّ ااق الباب... وكنت سأخالها الرياح من جديد لولا أن سمعت و رأيتُ.. المزلاج يُسحب !!؟؟ ..
تمنيتُ لو لم أصدق ما رأته عيناي.. تمنيتُ أن أكون مجنونا، أرى أشيائا و أسمع أصواتا لا تعدو مجرد هلوسات سمعية و بصرية... تمنيتُ و لكن ..
و لكن الباب قد أوصد بالفعل و المزلاج سُحب لوحده !، مُصدرا ذلك الصوت المعدني الصّارم.. حدث ذلك أمام ناظريّ.. حدث ليفقدني صوابي بالكامل ..
وخزتُ يدي بشدة حتى تأوّهتُ من الألم.. استشعرتُ سائلا دافئا، يُلطّخ رأس أُصبعي.. وضعت هذا الأخير في فمي.. تذوقته.. وقد كان دما !..
هذا ما كنت أخشاه.. أن أكون مضطرا لتصديق كل هذا... أنا لا أحلم إذن.. و إلاّ فمن أين جاء الدم ؟.. و لماذا أشعر بهذا الألم المروّع بكفي ؟؟ ..
لا أعرف كم بقيتْ عيناي جامدتان على مشهد الباب الضّخم.. أثقلُ صمت على الإطلاق جثم على صدري حينها.. حتى حركة ستائر النوافذ الممزقة توقفتْ !.. ما زادني رعبا ..
أردت التّنحنحَ حتى أطرد حشرجةً تجمّعت بحلقومي، فلم أستطع.. و سجنتُ شهقة لوقت لا يعلمه إلاّ الله و أنا في حالة نادرة من الشرود و انعدام الة ..
ربما ذلك الصوت الخافت الذي سمعتُ هو ما جعل قلبي يصحو من سباته و يدق بقوة حتى تردّد صداه بدواخلي ..
لم أحدد طبيعة الصوت تماما.. و كل ما حاولت فعله حينئذ هو التقدم باتجاه الباب للخروج من وكر العفاريت هذا ..
و لكن !!..
ربّاه !.. ما هذا الذي أسمع ؟.. من أين يأتي هذا الصراخ ؟.. و من يركض فوق ؟؟ ..
تسمّرتُ مكاني و أنا أحدّق ببقعة الضوء الشّاحبة على الأرضية الخشبية، العتيقة ...
تخترق تلك الصرخات الممزوجة بضحكات شيطانية أذني لأشعر بدوار مهول يوشك أن يطرحني أرضا و ألم حاد ببطني من فرط الرّعب ..
أميّزُ، الآن، طبيعة تلك الأصوات بوضوح.. ربما لأنها تقترب!.. تبدو كأنها.. ضحكاتُ طفلة صغيرة و لكن مهلا.. لابد أن أجد شيئا منطقيا على الأقل هنا... ماذا تفعل طفلة صغيرة بهذا المنزل المهجور و مع هذا الوقت المتأخر من الليل ؟؟ ..
الصوت يقترب أكثر !..
هل يعقل أن يكون كل هذا مجرد تخيلات شيطانية، لا أساس لها من الصحة، نتجت عن توتري العصبي ؟.. يا ليته التفسير الأصح ..
الصوت يقترب و يعلو أكثر فأكثر !...
بسم الله الرحمان الرحيم... أعوذ بالله من الشيطان الرجيم ...
ارتفع الصراخ الضّاحك و صار واضحا بنبرته الطفولية... و ..
بسم.... الله.. الرحمان ....
صوت شيء يركض على الدّرج !!!..
هنا.. هنا بالذات خرجتُ من شرنقة الجمود التي كانت تغلفني و اندفعتُ بسرعة نحو الباب لدرجة أن رجليّ التوتا ببعضهما فسقطتُ و اصطدم رأسي بعنف على الأرضية ليتردّد صدى الارتطام به طويلا ..
أسمع الآن صوت ضحكة طفولية، ساخرة.. ورائي مباشرة !...
لا.. لن ألتفت.. سأواصل الركض حتى أخرج من هذا المكان المجنون ..
قفزت من مكاني و خطوتُ خطوات واسعة باتجاه الباب المغلق... قطرة دافئة تنساب على خدي.. إنه الدّم !.. قد أُصيب رأسي إثر السقوط ..
وصلتُ أخيرا إلى الباب و لكن قبل أن ألمس المزلاج فوجئت بشيء قفز على كتفي ..
لماذا يبدو المنزل مهجورا إلى هذا الحد ؟ ..
لم أستطع حمل جسدي من وطأة الرعب فسقطتُ و ذلك الشيء لازال متشبثا بعنقي و أنفاسه الكريهة تمتزج بأنفاسي ..
التفتّ.. و ..
رأيتُ اليدين و الرجلين ثم.. الوجه ..
لم أخطأ التقدير.. لقد كانت طفلة... و لكنها ليست بطفلة !..
رداء قذر حتى الركبتين.. ثم عظمتان نحيفتان !..
شعر أشعث، منتصب كأنه أشواك حادة !..
أما الوجه.. فمشوه و غير مغطى بالجلد كُلّيته، و كأن به الجذام !..
و لا أذكر أنني رأيتُ عينين !.. فمقلتاها فارغتان إلاّ من ظلام مُهول !..
ثم اليدين... فما عدا القليل من الجلد المشوه، المعفّن.. يمكنك أن تُميّز بوضوح عظام الأصابع النحيفة ..
رأيتُ كل هذا تحت ضوء القمر المنبعث من النافذة قرب الباب الموصد !.. تعوّذت في قرارة نفسي من الشيطان الرجيم، و ارتجفت ركبتاي حتى أوشكتُ على الانهيار ..
ثم تذكرت أن المصباح قد سقط من يدي في مكان ما ..
وثبتُ مذعورا فانفلتُّ من قبضتها لتسقط أرضا.. و هرولتُ كالسّكران وقد فقدت القدرة على التحكم في حركاتي.. ثم لم ألبث أن سقطتُ ثانية و تقيّأت كل ما بجوفي ...
نَهَضَتْ و هي تواصل ضحكها المرعب.. و ببطء شديد توجهتْ إلى النافذة ...
لم أنتظر لأعرف ما تنوي فعله و لملمتُ جسدي بصعوبة جمّة.. مقوّس الظهر، شاخص العينين، أبحث بيأس عن المصباح الضّائع ...
لمحتُ ضوءه الخافت، المتقطّع بجانب الدّرج فركضت نحوه بكل ما تبقّى برجليّ من قوّة ..
و ما إن انتصبت و وجّهتُ الضوء ورائي حتى لمحته... أقصد لمحتها.. واقفة خلفي مُباشرة و... بيدها شظية زجاج ...
أرى الآن وجهها الأخضر، المقزّز بوضوح.. و أرى يدها و هي ترتفع و ...
و تهوي ...
أطلقت صرخة مروّعة تحمل آلام الدنيا كلها لما انغرست شظية الزجاج تلك بكتفي الأيسر ...
سقط المصباح من يدي و هويت خائر القوى، وقد شلّني الألم و الرعب ..
رفعت رأسي ببطء و انقبض قلبي عندما لمحت يدها رافعة شظية أخرى ..
زحفت على يديّ بجنون محاولا الفرار من موت محقّق و... و انفجر حلقي بصرخة مُدوّية و قد انغرست الشّظية الثانية بجانب ظهري ...
غلّف عينيّ سواد أعظم من سواد المكان من حولي و تثاقل جفناي ..
و برعب هائل انتفضتُ لما فهمتُ أنّني على وشك فقدان الوعي ..
و لكن الألم كان أقوى مني بكثير و ...
و عمّ الظلام ...
بدت الصورة أمامي ضبابية، ثم ما لبثتْ أن اتّضحت رويدا رويدا ..
أين أنا بالضبط ؟.. ولماذا لم أمت بعد ؟.. كان من المفترض أن تقتلني تلك ال... شرّ قتلة فور فقداني الوعي ..
و لكن أين هي الآن ؟.. و ما هذا المكان المظلم الذي حُشرت فيه ؟.. و من أين تتسرّب هذه الرائحة النتنة ؟؟ ...
أدرت رأسي ببطء لأتفقّد المكان من حولي فاهتزّ جسدي فجأة من الألم لما اتكأت على مكان الطعنة في ظهري ..
صدرت مني أنّة، حاولت أن أكتمها حتى لا تدري هذه ال... (بسم الله الرحمان الرحيم) بعودتي إلى وعيي ..
تحسّستُ جرحي بحذر فابتل كفي بالدّم !..
آآآه !..
بدأتْ عيناي تألفان الظلام، و ما إن أدرتهما بالمكان ثانية حتى شهقت بعنف و انقبض قلبي ..
لمّا رأيت المشهد أمامي ...
أجساد مُعفنة، بلا رؤوس و لا أطراف.. معلقة بحبل من وسطها إلى السّقف ...
يا إلهي.. يا إله السماوات !..
لم أعد أتحمل كل هذا ...
التفتُ بسرعة إلى الركن الآخر فتبيّنت بصعوبة.. كومة من الرؤوس الآدمية، المشوهة و قد رُسمت على قسماتها علامات الذعر و الهلع ...
فهمتُ حقيقة ما يجري بهذا المنزل اللعين.. تذكرتها وهي تطعنني بشظايا الزجاج.. و تخيلتها و هي تجرني فاقدا للوعي على السلم إلى هذه الغرفة.. و تخيلتُ نفسي معلقا بجوار تلك الجثث.. بلا رأس.. بلا أطراف ...
قفزت من مكاني، وقد استيقظتْ بداخلي غريزة البقاء ..
بحثت بلهفة عن مصباحي على أرضية الغرفة الواسعة، المظلمة.. لكن بلا جدوى ..
ثم انتصبتُ بجهد جهيد على قامتي، و ما إن فعلت حتى.. دخلتْ الغرفة !..
كانت تحمل سكينا و تحركه بمرح الأطفال، و ضحكتها المتحشرجة تكاد تجعل قلبي يتوقف ..
إنها تتجه نحوي، و أنا لا أبدي حركة على الإطلاق، لأنني لا أعرف ما أقوم به حتى هذه اللحظة !.. و إن لم أتصرف بسرعة ستفصل رأسي عن جسدي، حتما !..
ما زالت تتقدم بهدوء و ببراءة الأطفال !..
ركضتُ إلى ركن من الغرفة و التصقت بالحائط.. ثم رفعت يدي بسرعة لما تحسست شيئا لزجا عليه.. دققت النظر فوجدته دما !.. إن حائط الغرفة ملطخ ببقع هائلة من الدم المجمّد !..
صرختُ بأعلى الصوت ...
فرأيتُ في وجهها المظلم و هو يقترب إليّ.. شيئا من السخرية و الشماتة !..
و لما اقتربتْ أكثر من اللازم، حاولت الركض إلى الباب.. و كنت قد تأخرت كثيرا !..
إذ تمكنت من التعلق برجلي بعد أن وثبتْ وثبة مخيفة.. فطُرحتُ أرضا !..
و السكين بيدها !..
و بسرعة.. صعدتْ فوق ظهري.. و قد شُلِلتُ و لم أعد أعرف كيف أحرك عضوا من أعضائي !..
لم أنتفض أو أحرك ساكنا و لم أكن لأفعل لولا أن انغرس شيء حادّ بكتفي.. و بالضبط في مكان الجرح الذي خلّفته الشظية !..
هنا لا أجد كلمة تصف حجم الألم الذي صعق جسدي !... لكم أن تتخيلوه لو استطعتم !..
ثم أيقنتُ أنني انتهيت لما بدأت تطعنني في المكان ذاته و حول كتفي مرات و مرات ..
ههه
شكلكم خايفين ....