- بين يدي القضاء
- تأليف : تركي بن سعد البواردي
- يقول :
- لنكمل القصة قبل أن تنتهي الحصة .
- قالت ملاك :
ملاك
بين يدي القضاء
تأليف : تركي بن سعد البواردي
اليوم الأحد هو اليوم الثاني من الفصل الدراسي الثاني وكما أخبرتكم بالأمس فإنّ مادة الفقه للصف الثاني الثانوي تختلف عن سابقتها في الصف الأول و أيضا عن الصف الثالث , ف90% من المنهج المقرر يتعلق بعلم الفرائض وهو علم صعبٌ يحتاج إلى قوة في الحفظ والمذاكرة اليومية والمراجعة.
- ما هي الغاية من دراستنا لهذا العلم في هذه المرحلة والسنّ المبكرة يا أستاذ عبدالوهاب .
- إمّا أن تكون طلب المعرفة هي الغاية أو مجرد حشو للمنهج لا ثالث لهما .
- ألم تخبرنا بأنّك درست علم الفرائض في الجامعة فلماذا يرهقوننا به الآن ؟ لماذا لا تحذف ؟ ما فائدة تكراره ؟ أليس في هذا دليلاً على إفلاس واضع المنهج؟ من أراد مواصلة دراسته الجامعية وتخصص في الشريعة فذاك , تلك رغبته وواجب عليه الإحاطة به , ولكن نحن أعمارنا لا تتجاوز الثامنة عشرة .
- صدقوني الجميع يعرف ذلك , ولكن الحذف ليس يسيراً كما تتصوّرون , فالمناهج قررت وفرضت فرضاً من الوزارة وليس بيد أحد أن يغيّر منها شيئاً ولا توجد مؤشرات للتغيير في السنين القادمة فالأمر أعظم من أن يتم في شهر أو اثنين أو ثلاثة أو حتى سنة , ومع ذلك فإنّ دراسة علم الفرائض المقررة عليكم في هذا الفصل لن تكون مقتصرة على معرفة نصيب كل فرد من الميراث إلى غير ذلك مما هو مقرر , بل سيتجاوز ذلك بكثير وسنتطرق عوضاً عن دراسة المنهج كاملاً إلى معرفة أثر الجمود في التقيّد بما قرره السابقون في علم الفرائض من تقسيم للإرث وخلافه على الفرد والأسرة والمجتمع فنحن في مدرسة أهلية ونقدر على ما لا يقدر عليه غيرنا , وستدركون أهمية ذلك بعد أن أذكر لكم واقعة قرأت عنها إجمالاً في الصحف وأطلعني على تفاصيلها أحد أصدقائي القدامى في الجامعة ويعمل الآن في هيئة الرقابة والتحقيق :
- ذكرت صحيفة السعودية أنّ شرطة الرياض ألقت القبض على فتاة في الثامنة عشرة من عمرها بتهمة القتل المتعمد لزوجها وأفادت الشرطة أنّهم بصدد إجراء تحقيق كامل وموسّع للقضية .
إلى هنا انتهى الخبر ولم نسمع أية تفاصيل أخرى بعد ذلك , بعد مرور شهرين تزيد أو تنقص دُعيتُ لحفل زفاف ابن لأستاذنا في الجامعة والتقيت بعدد من الأصدقاء كان من بينهم صديق عزيز تفرّقنا بعد التخرّج اسمه عبدالعزيز , وبينما كنّا نتجاذب أطراف الحديث إذا به يخبرنا عن قصة الفتاة الوارد ذكرها في الصحيفة , وما جرى لها بعد أنّ رُفع ملفّ قضيتها إلى هيئة التحقيق .
يقول :
- بعد إطلاع قاضي هيئة التحقيق والإدعاء العام على ملف قضية المتهمة ملاك والمرسل من شرطة منطقة الرياض أمر بما هو آتي : تُحال القضية إلى المحكمة الكبرى لإعادة دراسة القضية مع الأخذ في الاعتبار إخضاع المتهمة للطب النفسي وتزويده بتقرير مفصل عن حالتها النفسية يرفق مع ملف القضية فور الانتهاء منه .
- زيارة الطبيبة النفسية رانيا أحمد للمتهمة ملاك غداً إن شاء الله يا شيخ سلمان هل تريد محادثتها بخصوص الزيارة .
- القاضي سلمان : كم عدد الزيارات.
- النقيب سالم : عشر زيارات.
- القاضي : أليست كثيرة يا نقيب سالم ؟
- بلى والله يا شيخنا بارك الله فيكم .
- القاضي : اسمع إذاً لا تذكر لها شيئاً عن عدد الزيارات لعلّها تُنهي مهمتها بأسرع وقت ممكن فأنت تعلم أنّه لدينا من القضايا العالقة الكثير ولا تنسى أن تبلغها بأن ترفع لي مسودة التقرير لأطّلع عليها قبل تحريره وشدّد عليها في ذلك .
أدخلت الطبيبة إلى غرفة داخل السجن النسائي خصصت للزيارات الخاصة , فألقت بنظرها على الغرفة سريعاً ثم وضعت حقيبتها على طاولة خشبية كانت موجودة في منتصف الغرفة وجلست على كرسي تنتظر حضور الفتاة , استدارت لتصلح من وضعية جلوسها على الكرسي, إذا بها ترى فتاة قد ألصقت نفسها بزاوية الغرفة , فنهضت وتقدّمت نحوها فلما اقتربت منها رأت شبحاً من أشباح الموتى في أسمال بالية لها جسدٌ محطمٌ مهشّمٌ عليلٌ ووجهٌ شاحب , أخذت بكف الفتاة ووضعته بين يديها وهي تقول :
- أهلاً يا حبيبتي ملاك أنا رانيا أحمد الطبيبة النفسية جئت لزيارتك ولأطمئن على حالك , لم تنبس الفتاة ولا بكلمة واحدة وآثرت أن تبقى شاردة الذهن بعيدة عن العالم من حولها , فقالت لها : اسمعيني يا ابنتي أنا هنا لمساعدتك , فقد كُلّفت من قبل المحكمة للنظر في حالتك حيث أنّ القاضي في هيئة التحقيق طلب إعادة دراسة القضية قبل الرفع إلى المجلس الأعلى للقضاء لإصدار الحكم , فمن أين نبدأ .
لزمت الفتاة الصمت , لم تتكلم ولم تنظر إلى الطبيبة بل أشاحت بوجهها إلى الحائط , حاولت الطبيبة معها مراراً وتكراراً فلم تفلح , أخبرتها أنّ الوقت ينفد وليس السكوت في مصلحتها , وقد تفوّت على نفسها فرصة الحصول على حكم مغاير أو على أقل تقدير تخفيف العقوبة .
- ألا ترغبين في أن تعودي مجدداً إلى العيش مع أمّك وأخواتك ؟ ألم تشتاقي إليهن ؟ فانتبهت ملاك وأخذت تنظر إليها بحدة , فزعت الطبيبة وعزمت على الابتعاد عنها قليلاً , فما أن استدارت باتجاه الطاولة حتى انفجرت الفتاة باكية وفاضت عيناها بنهر من الدمع , وقالت : أريد رؤية أمّي أريد رؤية أمّي أريد رؤية أمّي أرجوكِ أرجوكِ , فقالت : هوني عليك يا ابنتي , سأبذل ما بوسعي وسترينهم قريباً أعدك بذلك , ولكن عليك أن تساعديني أولاً, هيا أخبريني قصتك وهل قتلت زوجك ؟ فسكتت قليلا ثم زفرت زفرة كادت تخترق حجاب قلبها و أخذت في الحديث :
- حين استقال والدي رحمه الله من عمله نزولاً عند رغبة جدّي ليساعده في إدارة أملاكه والتي تتكون من سبعة عشر عقاراً , كانت أمّي من أشدّ المعارضين لذلك , ولم أكن أفهم وأنا في الخامسة عشرة من عمري وجهة نظر أمّي وسبب رفضها , فقد كنت أراه عملاً جليلاً وهو أقلّ ما يقدّمه ابنٌ لأبيه وجدّي أيضاً يملك الكثير من المال , وكنت على يقين أنّه من المستحيل أن يستجيب لحجج أمّي حتى لو كانت على حقّ !! لقد كانت نفسه تفيض طيبة ورحمة وتحسّ أنّه مستعدّ لتقديم أيّ شيء وأن يهب كل شيء في سبيل سعادة الناس .. فما بالكم بأبيه .
وبعد مضي عام على استقالته أدركْتُ أنّ أمّي كانت على حقّ .. فاحتفظت في قلبي بعد ذلك بذكرى لا تمّحي أبداً .
- وما هي تلك الذكرى يا ملاك , أريد تفصيلاً .
- لا تقاطعيني رجاء , وإن استطعت أن تحفظيها عن ظهر قلب فافعلي, إنني أخشى أن لا تصل قصتي كاملة كما هي .
- كان والدي أحمد هو الابن البكر لجدي وكان له أخٌ أصغر منه اسمه عادل وكان آنذاك يبلغ العشرين من عمره , وكنّا نسكن جميعاً في بيت جدي , وكان لنا جناح خاص بنا عبارة عن شقة كبيرة في الدور العلوي, وكانت غرفتي وأخواتي سارة ومريم مطلة على فناء المنزل , وكان عمّي عادل يسكن في الجهة المقابلة لنا , وكان الابن المدلل لجدّي لأنّه آخر أبنائه وكان غيرَ راغب في العمل , أمّا عماتي نجلاء وفاطمة ونادية فكلّهنّ متزوجات ويسكنّ في أحياء قريبة من منزلنا .
- كثيراً ما كانت تحصل بين أبي وجدّي نقاشات حادة بسبب دلاله لعمّي عادل , فأبي يريد منه أن يكون رجلاً يعتمد على نفسه في كسب المال وجدّي يرفض طريقة أبي في تعامله مع أخيه ويقول له الخير كثير يا أحمد دعه يستمتع , وعندما تسلّم والدي إدارة أملاك جدّي أمسك المال عن عمي , وجعل له في كل شهراً مبلغاً من المال ينفقه على نفسه وعلى حاجياته ولا يزيده أبداً , وكان أسوأ قرار اتّخذه أبي في حياته , فلم يكن يدري بما كان يخبّئه القدر لنا.
- أصيب جدّي رحمه الله بنوبة قلبية أقعدته عن العمل وكان أبي باراً به أشدّ ما يكون البرّ , فتقدّم لعمله بطلب التقاعد المبكر ليكون بقربه ويشرف على رعايته فرُفِض طلبه لأنّه لم يستكمل المدّة التي تسمح للموظف بطلب التقاعد المبكر فما كان منه إلا أن تقدم باستقالته فوراً من دون أن يستشير أحداً , وليست هذه هي المرة الأولى التي يقدّم فيها برّه بوالده على نفسه فقد رفض في السابق أن يترك جدّي وينتقل إلى مكان آخر مرتين : الأولى حين تزوّج وعرض عليه جدّي أن يشتري له منزلاً والثانية عقب تخرّجه من الجامعة وتم ترشيحه للعمل خارج مدينة الرياض وكانت وظيفةً كما تقول أمّي رفيعة القدر ومرتبها عال, مكثت أمّي لا تكلّم أبي أسبوعين كاملين , وكانت تنام معنا في غرفتنا , وفي إحدى المرات بينما هي مستلقية على الفراش وكنت على وشك أن أفارق الليل لأنعم بنوم هادئ إذا بي أسمعها تبكي , كان بكائها متحشرجاً , فاقتربت منها ولمّا رأتني أخذتني إلى حضنها وضمّتني بقوة ودموعها تنساب على خديها فبكيت معها , حاولت أن أعرف لم كلُّ هذا البكاء ؟ هل كان بسبب أبي؟ حاولت أن أشرح لها وجهة نظره ولكنها أبت أن تصغي إليّ , لقد كانت تستشرف ما وراء الحاضر , كانت تقول أشعر بانقباض في صدري .
كانت حياة أبي في عمله الجديد شاقة جدّاً , لم نعد نراه كثيراً كما كنّا في السابق, مع أنّه كان يتقاضى مرتباً يقلّ عن مرتبه في وظيفته التي استقال منها , وكان دائماً ما يقول هذا مال إخوتي سأحافظ عليه ما بقيت على قيد الحياة .
في صباح يوم استيقظت من النوم على صوت صراخ أبي ففزعت ونهضت مسرعة فإذا أمّي تخرج من غرفتها منفعلة فلمّا أبصرتني رمقتني بعينين غاضبتين وقالت لي : اذهبي إلى غرفتك ولا تخرجي أبداً , فانطلقت إلى غرفتي وألقيت بنفسي على فراشي وبكيت , أخيراً غلبني النوم , منذ ذلك الحين أدركت أنّ الحياة في طريقها إلى الشقاء , لقد تغيّر كلّ شيء .
لم يمض شهران حتى أصيب والدي بصداع شديد في رأسه , وطلب منه الطبيب ألا يجهد نفسه في العمل وأن ينام 8 ساعات في اليوم ولا يعمل سوى أربع ساعات فقط , لم يستجيب والدي لأمر الطبيب فتضاعف ألمه , وبينما كان ذاهباً إلى العمل ذات يوم أصابته إغماءة فسقط بجانب سيارته , قرر الطبيب بعد فحصه إجراء عملية في رأسه , طلب أبي من الطبيب أن يمهله أسبوعاً واحداً فقط لينظر فيمن يُدير العمل عوضاً عنه , أعطاه الطبيب ثلاثة أيّام فقط وأكثر من ذلك ليس في مصلحته , وما أن جاء اليوم الثاني إلا وأسلم أبي الروح لخالقها , كانت فاجعة للجميع ومصيبة عظمى لأمّي ,أمّا نحن البنات فيكفي أن التصق بنا اليُتْم , أثّر موته على جدّي فأصيب بنوبة قلبية ثانية وبعدها بعشرة أيام بثالثة حتى أصبح لا يقدر على الكلام ولا يعرف أحداً .
لم يجرؤ عمّي عادل على الدخول إلى منزلنا يوماً من الأيام حين كان والدي لا يزال على قيد الحياة إلا أن يستأذن , حتى جاء ذلك اليوم الذي تمنيّت فيه أن أكون برفقة أبي , فبعد انقضاء اليوم الثالث للعزاء صعدت أمّي إلى غرفتها لتريح نفسها قليلاً , وإذا بعمّي عادل يلتفت يمنة ويسرة وعندما تيقّن أنّ الناس مشغولون ولم يلحظه أحد صعد بسرعة إلى منزلنا , فتبعته وجعلت أختلس النظر من خلف الباب , وكانت أمّي في المطبخ , دخل عليها وأخذ يحادثها بكلام لم أسمعه, وفجأة سمعت حركة أحدثت ضجة قوية أعقبتها صرخة لأمّي فانتفضْتُ وتحرّك الباب فالتفت عمّي ثم أقبل نحو الباب حاولت الهرب فلحق بي , تعثّرت قدماي من الخوف وأنا أركض , سقطت, أمسكني وهددني قائلاً لو أخبرتِ أحداً بما رأيتِ يا ملاك لأرينّك من العذاب ما لم يره إنسان قطّ , ثم وضع يده على حلقي بقوة , كدت أختنق ثم أفلتني, وارتميت على الأرض , أقبلت أمّي , أخذتني وأنا أتألم , دخلنا منزلنا.
منذ ذلك الحين وأمّي تقوم على خدمة عمّي , تغسل ملابسه وتصنع له طعامه وتقوم بتنظيف منزله كل يوم , وفي إحدى الليالي جاء عمّي قبل موعد حضوره المعتاد بساعة , وأمّي لا زالت في منزله فما أن رأيت سيارته واقفة أمام البيت حتى انطلقت بسرعة إلى أمّي لأخبرها بمجيئه وما أن وصلت إلى باب شقتنا إذا به يفتح باب بيته وإذا بأمّي تهمّ بالخروج , حاول أن يدفعها إلى الداخل فامتنعتْ فطوّق أمّي بيديه ووضعهما على أسفل ظهرها وضمّها إليه بقوة ثم أفلتها .
دخلت أمّي إلى غرفتها وأقفلت الباب ولم تخرج منها أبداً بقيّة ذلك اليوم , بعد انقضاء العدّة شرعت أمّي في البحث عن عمل فأيّاً كان قدر المصروف الشهري الذي تأخذه من أخيها خالد إلا أنه لا يفي بتكاليف المعيشة التي أخذت تزداد يوماً بعد يوم وللأسف باءت محاولاتها بالفشل.
تقدّم عمّي عادل للمحكمة بطلب الوصاية على ممتلكات جدّي , طلب منه القاضي موافقة جميع الورثة , وبعد معارضة شديدة من عمّاتي تمّ الحجر على أموال جدّي , حاولت أمّي أن تجد تفسيراً لعدم أخذ موافقتها وبناتها على وصاية عمّي ولكنّها لم تحصل على جواب مقنع .
امتنع جدّي عن الأكل والشرب طوال يومٍ كامل من دون أن نعرف سبباً لذلك , استاءت لحالته الخادمة , طلبت من أمّي أن تساعدها فلم تفلح هي أيضاً.
تم نقل جدّي إلى العناية المركزة فصحته في تدهور سريع , مُنعْنا من زيارته , خِلت أنّه قاب قوسين أو أدنى من دخول مرحلة الموت , وبعد ثلاثة أيّام مات جدّي , فكانت قاصمة الظهر لنا , فقد كنّا نحيا بوجوده وبحبه .
في ظرف خمسة أشهر مرّت علينا أحداث تلو أحداث لا يميّز بينها سوى اختلافها في صدماتها ومدى تأثيرها وتعكيرها لصفو الحياة .
استبدّ بأمّي القلق منذ حادثة الوصاية , ولازمها الأرق طيلة شهرين كاملين فلم تنعم بساعتي نومٍ متواصلة .
الساعة الثامنة والنصف صباحاً ومع بداية الشهر الثاني للإجازة الصيفية فوجئنا بحضور عمّاتي جميعهنّ ولم نكن نعلمُ شيئاً عن زيارتهنّ المفاجئة , سارعت أمّي والخادمة بتجهيز الإفطار ومن ثم الشاي , وانصَرَفتْ ولم تسألهن شيئاً وهنّ كذلك لم يقلن لها شيئاً .
ظننتُ أنّ أمّي ستأتي إلى البيت وقد رأيتها تصعد السلالم وإذا بها تذهب إلى بيت عمّي عادل ففزِعتُ وهممتُ أن اتّصل بخالي خالد ولكنّي خفتُ من غضب أمّي عليْ , طرقت أمّي الباب فخرج عمّي , تحادثا بحديث ساخن وجدل عنيف غير متوقع , على إثره عادت أمّي إلى بيتنا , شاهدت الباب مفتوحاً فنظرت إليّ وذهبتْ إلى غرفتها ولم تغلق الباب كعادتها ,لحقت بها, رأيت الدموع تجهش من عينيها , قلت لها : ماذا جرى مع عمّي يا أمّي ؟ وضعت أصابعها على شفتيها وانخرطت في البكاء .
نسيت أن أحدّثكِ عن أمّي , عمرها 35 عاماً , تُدهش وأنت تنظر إليها كيف وُهِبت هذا الجمال ومازال في ألقه ونضجه , بل لا أبالغ إن قلت إنّك تعجز عن وصفه , لقد كان جمالاً بالغ الدقة والرقّة والحيوية والجاذبية , كانت ابتسامتها تعني لنا الأمل والفرح ومنذ أن استقال والدي من عمله سُلِب منها كلّ شيء إلا الحب .. والإيمان بما قدر الله جل شأنه .
مرّت عشرُ ليالي منذ زيارة عمّاتي صباح ذلك اليوم , في اليوم الذي بعده سمعت طارقاً يطرق الباب الساعة الواحدة ظهراً , ذهبت أمّي لتنظر من هو , فقلت لها لا تفتحي قد يكون عمّي عادل , تطلعت من ثقب الباب , لم يكن هو بل شخص آخر كان يعمل عند جدّي في عقاره , فتحت له ,فسلّمها ظرفاً وانصرف .
جاء خالي خالد بعد فترة قصيرة وسلّم علينا ثم استأذن سريعاً وانفرد مع أمّي في غرفتها وبعد ساعة خرج غاضباً متجهّم الوجه مقطّب الجبين , لم يحادث أحداً منّا , لحقته أمّي وحاولت أن تعيده وهي ممسكة بمعصمه تطلّع إليها لحظة ثم خرج .
للمرة الأولى في حياتي واجهتُ أمّي وأصررت على أن تخبرني بما يجري , فمن حقنا أن نعرف يا أمّي , لا ليس من حق أحد أن يعرف يا ملاك , عليك بنفسك وأخواتك , كان ردُّها موجعاً ومؤلماً حتى أنّي لم أقدر على الحراك, بقيت واقفة أفكّر بحالنا وما وصلنا إليه , كنت أريد أن أشارك أمّي آلامها كما شاركتنا أحزاننا .
قبل العَشاء أخبرتني أمّي أنّ خالي خالد سيأتي ليصحبني , فقلت لها: ولم .. وأين ؟ , فقالت ستعرفين كل شيء , الساعة الحادية عشرة مساء كنت مع خالي في سيارته الذي أخذني في نزهة حول مدينة الرياض , كم هي جميلة ليلاً , آه لقد ذكّرتني بالحبيب والعزيز أبي رحمه الله , كان يعشق الرياض إلى حدّ الجنون , وكنّا كثيراً ما نتنزّه معه في عطلة نهاية الأسبوع , آه كم اشتقت إليه وإلى تلك الأيام , إلى ابتسامته التي يغمرنا بها عندما يناولنا الآيسكريم والحلوى ويرانا مسرورين, لم أتمالك نفسي , نكّست رأسي وفاضت عيناي بالدموع , وضع خالي يده على كتفي وأخذ يبكي , نظرت إليه وسألت نفسي لماذا يبكي وهو لا يعرف سبب بكائي , توقفنا أخيراً في مكان قريب جداً من منزلنا والتفت إليّ وقال : اسمعي يا ملاك حياة أسرتك ومستقبلها مرتبط بكِ أنتِ , قلت : كيف ؟ , فقال : أتذكرين عندما جئت لزيارتكم وخرجت وأنا غاضب , قلت : نعم , قال : طلب عمّك عادل أن يتزوّج بوالدتك , قلت كيف يجرؤ ذلك اللعين على طلب يدها للزواج ؟ , ألا تعرف أنّه قد تحرّش بها, قال : بلى , قلت: وماذا فعلت ؟ قال منعتني أمّك من أن أفعل شيئاً , اسمعي يا ملاك كان عمّك يريد من ذلك أن يرغمها على الزواج منه , وما كان رأي أمّي ؟ , المشكلة ليست في موافقتها أو رفضها , قلت إذاً أين ؟ قال أنت وأمّك وأخواتك محرومون من الإرث , لا ترثون شيئاً من أموال جدّك , وكان عمّك عادل يعرف ذلك ولهذا أخذ في مضايقتها ثم خيّرها بين أن يترك لكم المنزل تعيشون فيه ويتزوج من أختي أو يطردكم من المنزل , سكتّ هنيهة ثم قلت له : وهل رضيت بكلامه و بحكمه , قال : هذا رأي القضاء هذا حكم الشريعة , قلت : كيف يكون هذا هو حكم الشريعة ؟!! ونحنُ ماذا سيكون حالنا ؟ هل نضيع!! و حقّ أبينا في الميراث يؤخذ هكذا ؟ , هل نخضع لأهواء إنسان طائش يتحكّم بمصيرنا ؟, ألم يأخذ القضاة حالنا في الحسبان ؟ , فقال : القضاة لا يُدْخلون الأمور الأسرية وأحوالها في توزيع الإرث , قلت هذا حكم جائر . وأنتَ ماذا فعلتَ ؟ قال : لاشيء , ليس بيدي حيلة أمام حكم القضاء , قلت إذا لم تصنع لنا شيئاً فلا تطلب منّا شيئاً , ثم وما شأني أنا بطلب زواجه؟فقال : أمّك وافقت ورضيت به ولأنك ابنتها الكبرى تريد منكِ أن لا تحدثي شيئاً ولا تجادليها أبداً .
أوصلني بعد ذلك إلى البيت وأنا في حالة الله وحده يعلمها , كانت تلك أسوأ ليلة في حياتي , لم أنم تلك الليلة وما أن أشرقت الشمس حتى اتصلت على استعلامات دليل الهاتف وطلبت أرقام بعض المشايخ واتصلت بأربعة منهم وسألتهم فكان جوابهم مطابقاً لحكم القاضي , فقلت لآخرهم : أتعرف يا شيخ ما صنع والدي رحمه الله لجدّي , هل تعرف أنّه ضحْى بمستقبله ومستقبلنا لأجله وأنتم تحرموننا من حقنا !! , فقال : نحن لا نحرم أحداً هذا حكم الله فقلت له وأنا أبلعُ ريقي انتظر يا شيخ هل قال الله أو قال رسوله احرموا البنات اليتيمات من حقهنّ في الميراث ؟ هل شعرت يا شيخ بذلّ اليتم؟!! فقال : يا ابنتي أمور الإرث تخضع للأدلة الشرعية العامة والخاصة وتحتوي على أمور لا يعرفها إلا أهل العلم , قلت له : علّمني أنا لا أفهم فاعتذر وأقفل سماعة الهاتف .
عرفت بعدما حصل مع الشيخ أنّ بعض أحكامنا الشرعية التي تحتفظ بحقوق ما أنزل الله بها من سلطان بحاجة لإعادة بحثها والنظر في مدلولاتها ..
- وهل صحيح أنّ بنات الإبن يحرمن من الإرث يا أستاذ ؟ .
- نعم صحيح .
- كيف ؟ .
- سأوضح لكم هذه المسألة سريعاً :
الجدّ رحمه الله ترك ابناً ( عادل ) وثلاث بنات ( نجلاء وفاطمة ونادية ) ويطلق عليهم الفرع الوارث الأعلى , وهناك أولاد ابن ميت ( ملاك وسارة ومريم ) ويطلق عليهم الفرع الوارث الأدنى , عادل وأخواته يرثون جميع المال للذكر مثل حظ الأنثيين , ولا ترث ملاك وأخواتها شيئاً , والسبب في ذلك أنّ الفرع الوارث الأعلى حجب أو أسقط الفرع الوارث الأدنى , هذه خلاصة المسألة .
لنكمل القصة قبل أن تنتهي الحصة .
قالت ملاك :
- تزوجت أمّي لكنه لم يكن زواجاً كالذي خبرته بين أبي وأمّي والمتعارف عليه بين الناس , لأنّ عمّي لم يكن زوجاً بل كان أشبه بالحيوان - بل الحيوان أفضل منه – فلم تكن تذهب إليه إلا ليقضي وطره منها فقط !! .
لم يتبق على بداية الفصل الدراسي الأول للعام الجديد سوى أسبوعين , لم نشتري حاجيات المدرسة كعادتنا , اعتقدت في بادئ الأمر أنّ والدتي قد نسيت أو أنها تنتظر المال من عمّي ولكنّي فوجئت بأمر لم يكن ليخطر ببالي لو لم أكن أنا المعنية به .
قبل أن أحدّثكِ بالأمر سأخبركِ أولاً أنّ عمّي عادل وفّى بوعده لأمّي فسمح لنا بالبقاء في البيت , و خصص لنا كل شهر مبلغاً جيّداً من المال, مع قلة اهتمام ورعاية طبعاً .
في مساء أحد الأيام وعندما كانت أمّي مع عمّي في شقته لم تأتِ مبكراً كعادتها قبل أن ننام وتودّعنا بقبلاتها الحانية بل تأخّرت حتى مشارف الفجر .
في اليوم التالي ونحن نتناول الإفطار لحظتُ وكأنّ أمّي تعاني من شيء ما , كنت على يقين من أنّ أمراً حصل بين أمّي عمّي .
- لا أكاد أصدّق شيئاً مما تقولينه يا أمّي !! أنا لا أفهم شيئاً !! هل أنا في حلم ؟ أنت تعرفينني أنا ابنتكِ , ماذا يعني هذا ؟
- هذا مصير كل فتاة , لما تخافين من الزواج ؟
- لست أخافه , أنا لا زلت صغيرة ولا أعرف شيئاً ؟
- لقد تزوّجتُ في مثل سنّك والحمدالله أنت ترين .
- ماذا أرى , لا أرى شيئاً , أمّي صارحيني هل نملك خياراً آخر ؟ هل هدّدك بالطلاق أوالطرد من البيت ؟
- لا , ولكنه يلمّح إلى المصروف وأن تكاليف الحياة أصبحت ثقيلة وخاصة عندما يتزوّج من زوجته الأولى .
- هل قال الأولى ؟
- نعم .
- وماذا قلت له ؟
- لا شيء باركته فقط .
- باركتِه !! هل أنتِ غبية يا أمّي ؟ !!
فقفزت من عينيها دمعتان , كانتا أغلى دمعتين رأيتهما فارتميت على قدميها أقبّلهما , راجية أن تسامحني , أمسكت بيديّ ورفعتني وقالت لي : اسمعي يا ابنتي نحن الأرامل إن لم نصبر ونتحمّل فمن سيعيلني وبناتي؟, الضمان الاجتماعي الذي لا يفي ولا بالحد الأدنى من تكاليف المعيشة وكأننا في منأى عن الغلاء الذي عمّ العالم ؟ !! أم الجمعيات الخيرية التي تلقي إلينا بالفتات كأننا كلاب أو قطط ؟ !! , ثم من سيحمينا ؟ من يحفظ لنا حقوقنا ؟ وأقرب شيء حق أبيك من إرث جدّك الذي أُخِذ منّا دون وجه حق , إذا كُتِبَ لي أن أعيش وأصبر وأقبل الحيف والقهر فلأجل أخواتك سارة ومريم فهنّ بحاجة لرعاية واهتمام ولست بقادرة على ذلك وحدي , أمّا أنتِ فإن لم تتزوجي الآن فسيكون غداً .
- هل تعرفين شيئاً عن الرجل ؟
- عمره 55 عاماّ متزوّج وله 7 أبناء وثري جدّاً .
- أريد أن أراه أوّلاً ولي شروط كذلك .
- كان الأمر شديداً عليّ ومؤلماً , ليس كُرْهاً في الزواج فهو أمر محتوم بل لأنّي لا أملك خياراً آخر , حاولت أن أكون سعيدة في ليلة زواجي الأولى , جلست على حافة السرير أنتظر قدري , وهاأنذا أرى اقتراب تلك الساعة التي تخيلتها وفزعت منها قد أتت , كنت أرتجف من الخوف وأنا أراه يتجه نحوي , وقف